فلسفة

سامية معكرون مدرّ بِة مادة الفلسفة مركز الموارد-جونية

 

 

 

 

درس في الفلسفة

إذا أردنا أن يتحول درس الفلسفة عن الطريقة التقليدية في التلقين وعن الدرس المحاضرة والدخول أكثر إلى الطرائق الناشطة , وإشراك المتعلِّم في بناء معرفته بما ينسجم بالفعل لا بالقول مع روحية التعليم بالكفايات, يجدر بنا إيجاد هيكلة أخرى للدروس ووضع مخطط مختلف للدرس , ربما يكون صعبًا في بداية المطاف , لكنه يلبي أكثر طموحات تدريس هذه المادة للوصول بها إلى الأهداف الأساسية المبتغاة من تعليمها  ألا وهي تعلُّم التفلسف وليس تعليم تاريخ الفلسفة . وهذا يتطلب جهود ومساهمات الجميع لبلورة ديداكتيك لهذه المادة تلبّي خيار التعليم بالكفايات .

بناء عليه  ,سأقدم  تصورًا مرحليًا ممكنًا لهيكلة عامة في تحضير درس في الفلسفة بخطوطه العريضة مستخدمة مباشرة أقوال ونصوص الفلاسفة كسند لتعليم وتعلّم التفلسف، يمكن التحرّك ضمنه بما يتوافر للأساتذة حاليًا من إمكانات، آخذين بالاعتبار كل الظروف المؤسّساتية لهذا التعليم

 
الصف: الثالث الثانوي-  الفروع الأربعة
عنوان الدرس : الحرية والمسؤولية
المدة: 5 ساعات

الأهداف التعلّمية :

  • أفهمة كلمة الحرية
  • وضع الإشكاليات المرتبطة بمفهوم الحرية  
  • محاججة الأطروحات المختلفة حول موضوع الحرية
  • الربط بين الحرية والمسؤولية

إن كلمة الحرية هي من أكثر المفردات استهلاكاً في حياتنا اليومية إن على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي ، ما الذي تتضمنه هذه الكلمة بالنسبة إلى الطلاب ؟ ماذا يريدون فعلاً عند مطالبتهم بالحرية ؟عمّ يتحدثون؟ كيف يمكننا الانتقال من عبارة الحرية الى مفهوم الحرية وهل يمكن إعطاء تحديدًا له ؟ ( مع العلم أن التحديد المفهوي في الفلسفة يختلف عن التحديد اللغوي كون تحديده مرتبطًا بنظرية فلسفية معينة ، يأخذ قيمته من خلالها ، فيصبح المفهوم تصورًا يمكن إعادة النظر فيه، كما سيتّضح لنا لاحقًا التشابك والتلازم الدائم بين عمليّات الأفهمة والأشكلة في الفلسفة). ما هي حقول استعمالاتها وهل تشتغل الحرية بالطريقة نفسها في هذه الحقول المختلفة، ما هي المفاهيم الأخرى المرتبطة بها وما علاقة هذه المفاهيم بعضها ببعض؟ ما هي التساؤلات العديدة حول الحرية وما هي إشكاليّاتها  التي ستتعدّد  وتتشعّب كلما أعطينا تحديدًا  مختلفًا لها ، وما هي تحديدات بعض الفلاسفة لها وما هي أطروحاتهم جوابًا عن تلك الإشكاليات والأسئلة ؟ وكيف حاججوا هذه الاطروحات؟ وهل سيتضح لنا مفهوم الحرية اكثر في نهاية الدرس ونعي معانيه الكامنة ونبدّل في تصوراتنا ونتصرّف على هذا الأساس ؟

 

ما هي الحرية؟ما هي إشكاليّاتها ؟وما هي العلاقة بينها وبين المسؤولية ؟

هنالك عدة سبل للأفهمة والمقصود بالأفهمة أن يعمل الطلاب على البحث عن المعاني والدلالات المختزتة في الموضوع المطروح ,(وهنا موضوع الحرية )، والعمل على المفاهيم الأخرى المرتبطة به ,والتمييز بينها , وإقامة علاقات الترابط في ما بينها بما يتيح إمكانية أشكلتها.

يمكننا بداية، العمل انطلاقًا من إظهار ما هي تصوّرات التلامذة عن الحرية. وهذه الخطوة ليست بمضيعة للوقت كما يظن الكثيرون ، إنما إذا أردنا أن نعمل على الآراء السائدة وعلى الأفكار المسبقة ، يمكننا التوصل إلى دفع التلامذة إلى طريق التفكير الذاتي واستبدال الرأي بالفكر من طريق وضعهم في حالة التشكيك في المعتقدات الشائعة  عبر وعيهم لرهانات هذه الآراء . فنطلب إليهم هنا، ماذا تعني لهم الحرية؟ غالبًا  ما تكون الأجوبة متشابهة والرأي الشائع: " إن الحرية هي أن نفعل كما نشاء " ، و عندها نتساءل ما هي تداعيات هكذا تحديد، ألا يوصلنا من جهة، إلى أن نصبح ضحية لأهوائنا وغرائزنا، ومن جهة أخرى،  إلى شريعة الغاب حيث تكون الغلبة للأقوى ، وتنتفي معهما الحرية . (النزاع المعرفي) ويطرح المشكل الذي يوجب حله: كيف الخروج من ألينة أهوائنا ؟ هل إن الحرية هي أن نفعل ما نريد أم أن هنالك ضوابط للسلوك الحر وما هي طبيعة هذه الحرية الفردية ؟ وكيف تفادي غلبة الأقوى ؟ وبالتالي، نضطر لإعادة النظر بتصوراتنا وبتحديدنا العفوي الأول للحرية. و يكون التشكيك اقوى عند وجود آراء مختلفة، " إن حريتي تتوقّف عندما تبدأ حرية الآخر" (النزاع المعرفي الاجتماعي)، وهنا نتساءل أيضًا عن التداعيات، ألا يحدّ وجود الآخر من حريتي، ألا تتعارض الحريات العامة مع الحرية الفردية ، ونتساءل عن الافتراضات، هكذا تحديد يفترض أن هنالك حدودًا لحريتي في علاقتي مع الآخر، يحدّدها القانون في ما هو مسموح أم غير مسموح فعله لعدم التعدّي على الآخر ...والمشكل الموجب حله هنا: كيفيّة ملاءمة الحرية الفردية وحرّية الآخر، وما هي علاقتهما مع الحرّية السياسية؟ وكيف ملاءمة حريّتي مع طاعة القوانين؟ وتبرز إشكالية أولى:هل القانون يتعارض مع الحرية؟

 

هل القانون يتعارض مع الحرية؟

هنا يطلب إلى التلامذة انطلاقا من أقوال ونصوص بعض الفلاسفة في هذا السياق: قراءة ،تحليل، استخراج المعاني، الأفكار، الأطروحات المختلفة واستثمارها لحل المشكلات الأولى التي طرحت. (عمل مجموعات من 2 – توزع عليها الأقوال بطريقة متوازية – نصف ساعة- ثم عرض عمل كل مجموعة – وضع الأفكار دائمًا على اللوح – مناقشة في صحة المعلومة وفي ملاءمة الجواب للسؤال )، وبعدها يقوم الاستاذ بالتوليفة والخلاصة.

 " الحرية هي الحق بأن نفعل كل ما تسمح به القوانين " مونتسكيو

" الإنسان الحر هو الذي لا يواجه عراقيل  تعوقه في فعل ما يريد، بالنسبة للأشياء التي يستطيع فعلها بقدر ما تسمح له قوته وذكاؤه" هوبز.

" بين القوي والضعيف، بين الغني والفقير، بين السيّد والعبد، الحرية هي التي تقهر، والقانون هو الذي يحرر". لاكوردير

" فيم يمكن أن تكمن حرية الإرادة  سوى في حكم ذاتي، بمعنى الصفة التي لديها بأن تكون قانونًا لذاتهًا. كانت .

"من هو سيّد نفسه يعمل بناء على خيار تمّت مذاكرته ، لا تحت نزوة الرغبة ".  أرسطو

"إن المجال الذي عرفت فيه الحرية دومًا- لا باعتبارها مشكلة بل بما هي واقعة من وقائع الحياة اليومية- إنّما هو الميدان السياسي... وبالرغم من التأثير البالغ الذي مارسه مفهوم الحرية الداخلية غير السياسية على تقاليد الفكر، يبدو أنّه يمكن الإقرار بأن الإنسان لا يمكنه أن يعرف شيئا عن الحرية الداخلية إذا هو لم يختبر بادئ ذي بدء حرية تكون واقعًا ملموسًا في العالم. فنحن نعي أولاً بالحرية أو بنقيضها في علاقتنا بالآخرين، لا في علاقتنا بأنفسنا. ....إن الحرية بما هي واقعة قابلة للإثبات تتطابق مع السياسة.... "آنـا آرندت

   "...يسعى البعض إلى الخلط بين الاستقلال و الحرية في حين أنهما مختلفان إلى حد أن أحدهما يمكن أن يقصي الآخر .إن قيامي بالفعل الذي أريده من شأنه ألا يرضي الآخر وهذه ليست حرية . فالحرية ليست في ممارستي لإرادتي بقدر ما هي في عدم الخضوع لإرادة الآخر و في الوقت نفسه عدم إخضاع إرادة الآخر لإرادتي ...فالإرادة الحرة حقًا هي تلك التي ليس لأي فرد الاعتراض عليها أو مقاومتها وهو ما يتأكد في الحرية العامة حيث ليس من حق أي فرد أن يفعل ما تمنعه حرية الآخر .إن الحرية الحقيقية لا تحطم ذاتها، و من ثمة فالحرية من دون عدالة هي محض تناقض لأن في إنتهاكها من طرف إرادة غير متزنة ضرر مؤكد .قطعًا إذًا لا توجد حرية في غياب القانون أو في حضور من يعتبر نفسه فوق القانون. حتى في حالة الطبيعة فالإنسان ليس حرًّا إلا في حدود القانون الطبيعي الذي يلزم الجميع. إن الشعب الحر يطيع لكنه لا يخدم أبدًا فهو يخضع لرؤساء لا لأسياد، إنه لا يطيع إلا القانون و بالتالي يترفع عن الخضوع للناس.

الشعب الحر هو الذي يجب ألا يرى في الدولة -مهما كان شكلها - الإنسان بل جهاز القانون .."    روسو

" صحيح أن كلّ فرد يتمتّع خارج المجتمع المدني بحرية تامة غير منقوصة، ولكنّها حرّية غير مثمرة، لأنّها، لمّا كانت تعطينا امتياز فعل كلّ يطيب لنا فعله، فإنّها كذلك تترك للآخرين القدرة على أن يحمّلونا كلّ ما يعِنّ لهم.أما في ظل حكومة دولة محكمة الأسس، فإن كل فرد لا يحتفظ من حريته إلا بالقدر الذي يكفيه ليعيش عيشة راضية، و في ودعة تامة ، كما أن الآخرين لا يجردون من حريتهم إلا بقدر ما يُخشى عل غيرهم منها...." هوبز

"إن الانتقال من الوضع الطبيعي إلى الوضع المدني ينشئ في الإنسان تحولاً ملحوظًا, و ذلك بجعله يستعيض عن الغريزة بالعدالة في سلوكه و يجعل أفعاله تكتسي الطابع الأخلاقي الذي كان ينقصها سابقا.  ...فما يخسره المرء من طريق العقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية و حقًّا لا محدودًا في كل ما يسعى أو يستطيع تحصيله, أما ما يغنمه فهو الحرية المدنية و ملكية كل ما لديه. و لكي لا يخطئ في هذه الموازنات فإنه من الواجب أن نميز الحرية الطبيعية التي لا حدود لها إلا قوى الفرد, والحرية المدنية التي تحدها الإرادة العامة, من الحوز الذي هو فعل القوة والملكية التي لا تتأسس إلا بصفة وضعية. فضلاً عن هذا كله نستطيع أن نضيف إلي مكتسبات الوضع المدني الحرية الأخلاقية باعتبار أنها هي وحدها فقط التي تجعل الإنسان بحق سيد نفسه لأن دافع الشهوة وحدها عبودية و طاعة القانون الذي وضعناه لنفسنا حرية ."روسو

بعد عرض ما توصّلت إليه المجموعات، وبعد المناقشة العامة لما أورده هؤلاء الفلاسفة من أطروحات وأفكار تدعمها ، يمكننا التلخيص بالآتي:  لطالما وُجِدَ الإنسان مع الآخر في تجمّعات أخذت أشكالاً مختلفة عبر العصور ( من القبائل الى الدولة )، فمقولة الوضع الطبيعي أو الحرية الطبيعية المطلقة هي مقولة فرضية،  تتشابه حرية الفرد فيها  مع حرية الحيوان  الذي يتحرّك كيفما يشاء ،وعندها تصح مقولة الغلبة للأقوى، وعليه وجب فهمنا للحرية انطلاقًا من هذه العلاقة بالآخرين، الحرية أول ما نختبرها  في المجال السياسي لا في داخلنا (آرندت)، ومن شكل التنظيم الذي اتخذته : فالوضعية المدنية عند روسو تعني الوضعية المجتمعية ، وعند هوبز الوضعية السياسية. ففي كلتا الحالتين وعلى الرغم من الفروقات الأساسية، فالحرية مضمونة أكثر في الوضعية المدنية : قبول بحرية منتقصة مقابل الأمن والاستقرار (هوبز)، وحرية مدنية كاملة يضمنها القانون النابع من الإرادة العامة، إضافة إلى حرية أخلاقية تبعد عن عبودية الغرائز ويصبح الانسان من خلالها سيد نفسه ( روسو) ، فحريتي ليست بالاستقلال عن الآخر، إنما باحترام حريته وحريتي عبر طاعة القانون الذي وضعناه لأنفسنا (روسو).

يمكننا أن نخلص إلى أن الحرية الحقيقية ليست الحرية الطبيعية إنما الحرية الأخلاقية والحرية المدنية. فالحرية ليست الاستقلال (القدرة على فعل ما يحلو لنا) إنما الاستقلالية الذاتية ، بمعنى أن نعطي لذاتنا قانونًا يمليه علينا عقلنا ويجعلنا أسياد ذواتنا ( كانت وروسو ). . من جهة أخرى، الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا من خلال وجود الآخر، ومن خلال الممارسة السياسية داخل المجتمع المدني، وهنا يصبح القانون شرط ممارسة الحرية الفردية ،على أن تكون الإرادة العامة مصدر هذا القانون. الحرية ليست إذًا التصرف العشوائي من دون رادع أو رقيب(أرسطو) ، فالقانون الأخلاقي الذاتي يخرجنا من سطوة غرائزنا (كانت)، والقانون الوضعي المشترك  يخلصنا من سطوة الأقوى (روسو)، الحرية من دون قانون هي باطلة ووهمية (لاكوردير). (لكن هذه الإرادة العامة المفترضة الركيزة الأساسية للديمقراطية عند روسو، هي في الواقع خيال نظري، فهي تعني إرادة المواطنين أجمع في اختيار قوانين يوافقون كلهم عليها عبر عقد اجتماعي وتكون ركيزتها العقل لا المصالح الشخصية لتخدم المصالح العامة). إنما في الواقع، نسأل من يشرّع القانون الوضعي فعليًا وهل انتفت سيطرة الأقوى في المجتمعات المدنية الحديثة حتى الأكثر ديمقراطية ؟ وفيمَ تكمن حريتنا عندئذ، هل في الانصياع الأعمى للقانون أم تتجلى أكثر في التمرّد والسعي إلى تغييره؟ وأيضًا، ألا نجد أحيانا تعارضًا بين القانون الأخلاقي والقانون الوضعي فماذا عسى حريتي أن تختار؟

ما هي المسؤولية المترتبة على الإنسان الذي يتخطى القانون؟ إذا تخطى  القانون الوضعي ، نتكلم على المسؤولية الجزائية (عندما أرتكب شخصيًا المخالفة أو الجرم)، أو المسؤولية المدنية (عندما يجبرني القانون على إصلاح الأضرار الناتجة من الغير _ كشركة التأمين مثلاً)، وفي حال تخطى القانون الأخلاقي، نتكلم على المسؤولية الأخلاقية ( عندما يؤنبني ضميري على عمل سىء أقدمت عليه أو عمل جيّد لم أقم به)؟ المسؤولية تعني أن نسأل عن أفعالنا ونتحمل أعباء هذه المساءلة. في هذه المرحلة، نكتفي بتحديد، تصنيف وتمييز مفردة المسؤولية.

يمكننا الانتقال بعدها لمحاولة تصنيف المفاهيم المتقاربة من الحرية والمفاهيم المعاكسة لها ومحاولة التفريق في ما بينها: الطلب إلى التلامذة وضع لائحة بالكلمات التي يرونها متقاربة مع كلمة الحرية مقابل لائحة بالكلمات المعاكسة. يساعد المعلِّم على إيجاد وتحديد المفاهيم التي عبر عنها التلامذة بشكل مَثَل أو ما شابه، ولم يستطيعوا تسميتها (صعوبة التجريد)، ثم توضع اللائحة على اللوح. ممكن أن نحصل على هكذا جدول :

الحرية اللاحرية

التحرر – التحرير – العفوية – الاندفاع – اللاحتمية -الإرادة – العقل – الخيار - القرار- الاستقلال – السيادة- اليمقراطية- الحق- القدرة- المسموح – الإمكانية- الليبرالية

العبودية – الاحتلال – السجن – الحتمية -القدرية – الضرورة- الجهل – الخضوع – الأهواء – التدخل الخارجي- النظام الشمولي- الممنوع – القانون – النظام- المحرّم- الاشتراكية

ومن ثم القيام بالتفريق بين الكلمات بالقدر الممكن وبشكل أوّلي ، يتبع ذلك صياغة مصحّحة من قبل المعلِّم لتعريف الكلمات الصعبة لكي تصبح إمكانية التفريق أسهل (الحتمية / القدرية- الضرورة – التحرر/التحرير- الليبرالية/الاشتراكية ...)، هل من قاسم مشترك يتضمنه جدول مفردات اللاحرية ؟ أليست تعبر بشكل من الأشكال عن أنواع مختلفة من الضغوطات والقيود؟ يعود التلامذة لمحاولة التفريق بين القيود الخارجية والقيود الداخلية. ونصل إلى القول بأن الحرية هي في عدم وجود ضغوط أو قيود تمنعنا من فعل ما نريد. وبعدها محاولة تحديد للحرية بالصيغة الإيجابية انطلاقا من الكلمات التي أوردوها. مثلاً: " الحرية هي حق الاختيار"، " الحرية هي السيطرة على الجهل والأهواء"، "الحرية هي الاستقلال عن الآخر"، " الحرية هي التحرّر من العبودية "،....بعد إعطاء هذه التحديدات، يمكننا التساؤل : هل يصح دائمًا وضع الحرية بمواجهة القانون أو الحتمية، أو هل يجب أن نما هي بين الحرية والليبرالية، أو هل الاستقلال يؤمن الحرية الفردية؟ أو هل العفوية والاندفاع هما سمة حقيقية للحرية؟

نلاحظ ، بعد  هذا البحث عن معاني كلمة الحرية، وبعد طرح كل هذه ألاسئلة، أننا أقحمنا مفهوم الحرية في مجالات مختلفة ، هذا لأن حقول استخدام كلمة الحرية متعددة: حقل ميتافيزيقي ، أخلاقي ، نفسي، إجتماعي ، قضائي ، سياسي ، إلخ ... لكننا لا نعرف ما إذا كانت الحرية تشتغل بالطريقة نفسها في كل هذه الحقول  ، أو ما إذا كان باستطاعتنا إلغاء أحد المعاني المختلفة لها عند تعاطينا مع وضعية حياتية حقيقية المفترض أن تمارس فيها حريتنا . سنتعاطى مع هذه المعاني بما يخدم فهمنا للعلاقة بين الحرية والمسؤولية .

نسأل التلامذة هل يمكنهم تصوّر إشكالية تتقاطع مع شبكة المفاهيم الواردة في الجدول السابق ، ربما يتوصلون بمساعدة المعلِّم ... هل يستطيع الإنسان الانعتاق من كل ما يقيّده؟  وتطرح إشكالية ثانية : هل الحتمية تلغي الحرية ؟ وإذا كانت الحرية هي شرط أساسي للمسؤولية ، هل الحتمية تلغي المسؤولية ؟

 

 هل الحتمية تلغي الحرية؟

أذا كانت افعالنا تخضع لمبدأ الحتمية ، فبماذا نحن احرارا"؟ وكيف يمكن الكلام على مسؤولية أفعالنا؟

هنا أيضًا يطلب إلى التلامذة انطلاقًا من أقوال بعض الفلاسفة في هذا السياق: قراءة، تحليل، استخراج المعاني، الأفكار، الأطروحات المختلفة واستثمارها لحل المشكلة المطروحة. ( عمل مجموعات من 2 – توزع  عليها الأقوال بطريقة متوازية – نصف ساعة- عرض عمل كل مجموعة – وضع الأفكار دائمًا على اللوح – مناقشة في صحة المعلومة وفي ملاءمة الجواب للسؤال ) وبعدها يقوم المعلِّم بالتوليفة والخلاصة. 

" إنه من البديهي جدًا امتلاكنا لإرادة حرة تعطي موافقتها أو لا تعطيها متى تشاء ، وأن تحسب كواحدة من عامة البديهيات".  ديكارت.

" إن السبب الذي أورده ديكارت لإثبات استقلالية أعمالنا الحرة بناء على شعورٍ داخلي مزعوم، لا قوة له. لا يمكننا أن نشعر باستقلاليتنا بشكل صحيح ولا أن ندرك دائمًا الأسباب الكامنة وراء قراراتنا والتي غالبًا ما تكون غير منظورة  ...".لايبنتز

" إن الإرادة النابعة من الداخل هي المبدأ الأوحد لكل القوانين الأخلاقية والواجبات التي تلتزم بها؛ وعلى العكس فإن الإرادة الخاضعة لإلزامات خارجية للخيار الحر, ليس فقط أنها لا تشكل قاعدة للإلزام، إنما تتعارض مع مبدأ الإلزام وأخلاقية الإرادة ".  كانت .

" إذًا ، نكون أحرارًا عندما تصدر أفعالنا من شخصيتنا الكلية، عندما تعبر عنها وعندما تكون بتشابه غير موصوف معها، كالذي نشاهده أحيانًا بين الفنان وآثاره ".برغسون .

" إن الأشياء التي تتعلق بنا هي بطبيعتها حرة، والتي لا تتعلق بنا، فهي عاجزة، عبدة، غريبة عنا ". إبيكتيت .

" نعطي صفة الحر لشيء ما موجود ويعمل فقط من خلال ضرورة طبيعته ..." سبينوزا .

"من هو سيّد نفسه يعمل بناء على خيار تمّت مذاكرته، لا تحت نزوة الرغبة ".  أرسطو .

" إن حرية الإرادة لا تعني إذًا شيئًا آخر سوى الخيار بناء على وعي الوضعية". أنغلز .

" إن الذين يعتقدون أنهم يتكلمون أو يصمتون أو يفعلون أي شيء كان، انطلاقًا من قرار ذاتي حرّ، فهم يتوهّمون". سبينوزا.

"محتّم كليًّا وحرّ كليًّا، مجبر على تحمّل أعباء الحتمية لكي ارفع عاليًا أهداف حريّتي، أن أجعل من هذه الحتمية التزامًا إضافيًّا ". سارتر.

"لأنه، إذا كنت دائمًا على علم بما هو حق وما هو خير بشكل واضح ، فلا لزوم للعناء في المذاكرة من أجل إعطاء حكم أو خيار عليّ اتخاذه، وأكون بذلك حرًّا كلياً. ديكارت .

"... إلا أن الحرية لا تقتضي عدم تحمل أي شيء ، إنما أن نضع روحنا فوق المظالم ، وأن نجعل من أنفسنا المصدر الأوحد لأفراحنا ، وأن نقيم انقطاعًا مع العناصر الخارجية، لتفادي الحياة المضطربة لذاك الذي يخشى السنة وضحك واهانات الآخرين في أية ساعة وفي أي ظرف ..." سينيك

"...ولسوف يدحض جنون العظمة البشري مرة ثالثة بما يتم في أيامنا من بحث نفساني يروم أن يبين للأنا أنه ليس سيدًا حتى في بيته ، بل وأن عليه أن يقنع بمعلومات قليلة و جزئية عما يحدث ، خارج وعيه ، في حياته النفسية ".  فرويد

" يمكننا دراسة ما مضى ، لكن ما مضى قد انتهى ، وانطلاقًا من ذلك ، ليس بإمكاننا التكهن بأي شيء ، واللحاق بالتيار ؛ إنما علينا ببساطة العمل ومحاولة جعل الأشياء أفضل. فاللحظة الحاضرة هي هذه التي ينتهي عندها التاريخ ، وليس بإمكاننا على الإطلاق رؤية المستقبل معتقدين إمكانية توقعه بفضل التيار. وكذلك لا نستطيع أن نقول لأنفسنا: فقد عرفت دومًا أن النهر سوف يمر من هنا". بوبر

" إن جدلية العقل تنبع مما سبق. لأنه بالنسبة للإرادة ، تبدو الحرية المرافقة لها متناقضة مع الضرورة الطبيعية  وعند هذا التقاطع، يجد العقل في نيته التأملية، طريق الضرورة الطبيعية مفتوحة وقابلة لاستمرارية الحياة أكثر من طريق الحرية، وبالرغم من ذلك، ففي النية العملية للعقل، يصبح طريق الحرية هو الوحيد الذي يمكننا من استخدام العقل في سلوكنا. لهذا ، فإنه يستحيل سواء على الفلسفة الأكثر إرهافًا أو على العقل الإنساني الأكثر شيوعًا تغييب الحرية عبر مسالك عقلانية ".  كانت

هل يمكنهم رؤية علاقة ما بين هذه التحديدات، أوجه شبه أو اختلاف في تلك التصوّرات حول مفهوم الحرية ؟ يطلب تصنيف أولي . ربما يلاحظون أن هذه التحديدات تعطي بغالبيتها مواقف من تصوّرهم الأول الذي أعطوه عن الحرية، ولكن سرعان ما سنكتشف ونحن نحلل أنه هنالك فروقات كثيرة  وتمايزات، عدا أن هنالك مفاهيم جديدة يجب شرحها لفهم التمايز والتشابه والاختلاف ( الإرادة الحرة –الضرورة ...)  ويتضح لنا مجددًا التلازم ا بين الأشكلة والأفهمة. وبعد التحليل والنقاش ، يمكن الوصول إلى صورة أوضح عن هذه التصورات، ووضعها مبدئيًّا تحت عنوانين ما يضعنا أمام الإشكالية الكبرى المطروحة عن الحرية في كل الفكر الفلسفي ألا وهي العلاقة بين الحرية والحتمية والتي ستقودنا إلى فهم العلاقة بين الحرية والمسؤولية .

نتساءل أولاً، هل إن مبدأ الضرورة الكونية هو مبدا فرضه العقل وأثبتته العلوم أم إنه مقولة ميتافيزيقية ؟ أيًا كان الجواب، فإن الكثير من المفكرين أقروا به ، فكانت الضرورة في الطبيعة ( الرواقيون ) – في إرادة الله – (اللاهوتيون) ، في التاريخ ( هيغل- ماركس) – في العلم ( لابلاس ) – واليوم هنالك إقرار علمي بوجود جزء من اللاحتمية في العالم المادي على أثر اكتشاف الفيزياء الكانتية، من هنا إقرار بوبر باللاحتمية. أما إذا قبلنا بهذا المبدأ وإذا افترضنا أن تفسير الأحداث الطبيعية بمبدأ السببية القائل أن لا نتيجة من دون سبب، وبمبدأ الحتمية القائل إن كل ما يحدث في الكون هو نتيجة لعدة أسباب متصلة بعضها ببعض وفقًا لقوانين ثابتة ومعروفة ، قد ينسحب على تفسير كل الافعال والخيارات الشخصية ، لأنه نادرًا ما تكون أفعالنا من دون سبب واعتبرناها خاضعة  بالتالي لشكل من أشكال الضرورة ، أي أن ما حدث لا يمكن إلا أن يكون ، ألا تصبح عندها الحرية فرضية غير مؤكدة ، فكرة أو وهم؟

فالقبول بالقدرية ينفي أي تأثير لأفعالنا على مجرى الأمور كون الأشياء مرسومة مسبقًا ومكتوبة. اعتبر الفلاسفة الرواقيين (ابيكتيت-سينيك ) أن الطبيعة تخضع لهذا القدر، والأفعال الإنسانية لا تقوى على أي تغيير ، وتصبح الحرية فهم هذا القدر والقبول به .أما القبول بملازمة أفكارنا وإرادتنا ومبدأ الحتمية سيكون ملائمًا أكثر. وهذا ما فعله سبينوزا: لا وجود في روحنا لإرادة مطلقة، حرة ، وأقرت به فلسفة هيغل وماركس التي اعتبرت أن الأفكار والأفعال محكومة بالضرورة التاريخية . فتصبح الحرية في ظل هذه الحتمية الكاملة فهمًا عقلانيًّا لهذه الضرورة وللطبيعة (سبينوزا) مع جعلها طوعًا أداتها الواعية (أنغلز) ،أو الفكرة التي تتحقق عبر التطور (هيغل)، أو النضال المستمر لتحقيقها عند التحرّر الاقتصادي (ماركس).

أما الإقرار  بوجود  إرادة حرة مطلقة تختار من دون سبب (ديكارت- سارتر) فهذا من باب الفرضية النظرية . هل يمكن القبول عمليًّا بوجود الفعل المجاني المفترض، أم أن هذا الفعل هو مجهول الأسباب؟ إن إثبات وجود اللاوعي كان بمثابة تأكيد على وجود حتمية ما في الحياة النفسية (فرويد). وقد حاول كانت حل هذا الإشكال بتمييز عالم الظواهر الطبيعية الذي يخضع لمبدأ الحتمية ، من عالم الحرية الذي ينتمي الى عالم "المعقول"  والذي لا يخضع إلا للقانون الأخلاقي .

إذا افترضنا أن الحرية هي هذه القدرة لإرادتنا في اختيار القانون الذاتي والقانون المشترك  ليمليا علينا أفعالنا ، كما رأينا سابقًا، من دون أن تتحكم فيها كليًّا العوامل الخارجية ،هذه القدرة في اختيار أن نعمل أو لا نعمل ، نكون أمام حرية خاصة بالانسان تجعل منه صانع أفعاله ومسؤولاً عنها ، يتحمل وزر أعبائها ، وهكذا يتجلى لنا ككائن حر يفوق سائر الكائنات ، ولكن هل تتماشى هذه الميزة مع مبدأ السببة ؟ هل نتوهم عندما نقول إننا اخترنا بحرية هذه الإمكانية أو تلك ؟ ماذا لو كانت هنالك أسباب لخياراتنا ربما نجهلها ونعتقد أننا اخترنا بملء إرادتنا ؟ ماذا عندها عن مسؤولية أفعالنا ؟ هل يمكننا الخروج من هذا الخيار المستحيل بين الحرية الملازمة لكرامتنا وبين مبدأ السببية الذي يتيح لنا فهم العالم والفعل فيه.

وأخيرًا، إذا طبقت التفسيرات والتوقعات، المبنية انطلاقًا من العلاقات بين السبب والنتيجة، على الأفعال الإنسانية، فهل يعني ذلك أن الفرد يتلقى الحتميات التي أوضحت العلوم الإنسانية تأثيرها عليها( وراثية، نفسية، اجتماعية، ثقافية ...)، من دون أن يستطيع شيئًا حيالها؟ عندما نتحدّث عن حتمية العلاقة بين السبب والنتيجة، هذا لا يعني إننا لا نستطيع شيئًا حيالهما، ربما تلافينا النتيجة إذا عملنا على السبب. هذا التصوّر لوجود الحتمية من دون ملازمتها للضرورة ، يمكن ان يتلاءم مع شكل من أشكال الحرية. يقول برغسون في هذا الإطار أن الإنسان  يتلقّى كل التأثيرات الخارجية والداخلية ، وما ان يجعلها مندمجة مع ذاته  ،تأخذ طابع الأنا الحقيقي المعبر عن الكيان والهوية الذاتية ، يصبح حرًّا عبر فعله المعبر لكينونته .

 

كيف نفهم المسؤولية؟

ما يهمنا هنا  أولاً هو ما يؤسس لمفهوم المسؤولية . هل نعتبر مسؤولاً من لم يكن لديه الخيار بين ارتكاب عمل مشين وعدم ارتكابه ؟ إننا لا نحكم على المريض النفسى ولا على الطفل  ولا  على الحيوان بأنهم مسؤولون عن أعمالهم، ونعطي أسبابًا تخفيفية لمن كانت قدراته التمييزية مشوشة. يبدو أن امكانية الخيار بين الخير والشر هي شرط أساسي لهذه المسؤولية . وهذا ما يعيدنا إلى مسألة الحرية.

ألا يجب لكي نكون أحرارًا ومسؤولين عن أفعالنا أن يكون لدينا الخيار بين احتمالات عدة  وأن تكون هذه الخيارات غير محتّمة ؟ فإذا افترضنا وجود الحرية المطلقة (ديكارت- سارتر) في أن نختار فعل شيء أو عدم فعله، وأن يكون هذا الخيار لا تحكمه سوى إرادتنا، فيمكن عندها نظريًّا أن نختار الشّر، ولكن ألا نميل أكثر  إلى الخيار الآخر عندما يكون واضحًا لنا ما هو خير وما هو صح ؟ونختار بملء إرادتنا ما يمليه علينا القانون الأخلاقي الصادر عن العقل (كانت). ربما يكون الدافع الاساسي لبعض الفلاسفة في التمسك بفرضية وجود الإرادة الحرة ، هو كونها الشرط الأساسي للمسؤولية ولأخلاقية الإنسان ( كانت- توما الاكويني)، والمعادلة لوجوده (سارتر) وليتحمّل الإنسان أعباء أفعاله.الفيلسوف ديكارت

بالمقابل، إن عدم وجود هذه الإرادة الحرة يقودنا منطقيًّا إلى إبعاد فكرة المسؤولية، فيصبح المجرم دائمًا تحت وطأة مسببات جريمته ويحظى بالأسباب التخفيفية والمسامحة على فعلته .فكبف لنا أن نلائم بين الحتمية والمسؤولية؟ ربما يجدر بنا البحث عن مصادر أخرى للحرية  غير هذه الإمكانية الحرة للخيار بين الخير والشر والتي نجهل منبعها لغاية الآن، فنبحث في تأثير الثقافة، في التربية، في المجتمع، في الاختبار السياسي لهذه الحرية. هتالك ظروف تساعد على نشوء وتطوير الحرية لدى الإنسان من دون أن تختزلها، لذا سنرى دائمًا أناسًا أحرارًا أكثر من غيرهم ، فالحرية عبء كبير والمسؤولية عبء أكبر .

يمكن أن نخلص بعد هذا العمل بأنه اذا كانت فكرتنا عن الحرية تعني"أن أفعل ما أريد" ، فمن غير الممكن أن نكون أحرارًا كليًّا. ففي الواقع، توجد عناصر عدة تقلّص من هذه الحرية، وتشمل حتميات عدة تمنعنا من فعل ما نريد.. ربما وقبل أي شئ، يكون فعل القرار الشخصي النابع من الذات، هو أكثر ما يعبّر عن حرية الخيار لدينا ، بالرغم من الحتميات والظروف المختلفة .فالحرية هي في استقلاليتي الذاتية وفي معرفة ما هو حقيقةً خير أو شر ، وأفعل على أساسه  بما يتناسب مع كرامتي وإنسانيتي، ليس فقط تجاه مصالحي الضيقة الذاتية ، إنما تجاه الإنسانية جمعاء، إلى حد أن أعارض القوانين إذا كانت جائرة، أن أتظاهر إذا كانت القضية عادلة، أن أتصدى لأوامر ظالمة، أن أطالب بحق مسلوب، أن أدافع عن مقهور،  أن أقاوم احتلال. الإنسان يأبى إلا أن يكون حرًّا، لكن في الحرية مجازفة ومخاطرة ،  لذا نرى غالبية الناس يتعايشون مع الظروف ويستكينون  داخل عبوديتهم المقنعة ، تاركين تقرير مصيرهم  "للمسؤولين" ، مستقيلين من التزاماتهم الإنسانية ... وإذا لم نفهم أن حريّتنا ملازمة لوجودنا وأن مسؤوليتنا تشمل الإنسانية جمعاء، فنحن في دائرة الخطر ...لا توجد حرية، بل هناك أناس أحرار.  وفي هذا الإطار فقط ، يجب أن تفهم المسؤولية.

فلسفة

سامية معكرون مدرّ بِة مادة الفلسفة مركز الموارد-جونية

 

 

 

 

درس في الفلسفة

إذا أردنا أن يتحول درس الفلسفة عن الطريقة التقليدية في التلقين وعن الدرس المحاضرة والدخول أكثر إلى الطرائق الناشطة , وإشراك المتعلِّم في بناء معرفته بما ينسجم بالفعل لا بالقول مع روحية التعليم بالكفايات, يجدر بنا إيجاد هيكلة أخرى للدروس ووضع مخطط مختلف للدرس , ربما يكون صعبًا في بداية المطاف , لكنه يلبي أكثر طموحات تدريس هذه المادة للوصول بها إلى الأهداف الأساسية المبتغاة من تعليمها  ألا وهي تعلُّم التفلسف وليس تعليم تاريخ الفلسفة . وهذا يتطلب جهود ومساهمات الجميع لبلورة ديداكتيك لهذه المادة تلبّي خيار التعليم بالكفايات .

بناء عليه  ,سأقدم  تصورًا مرحليًا ممكنًا لهيكلة عامة في تحضير درس في الفلسفة بخطوطه العريضة مستخدمة مباشرة أقوال ونصوص الفلاسفة كسند لتعليم وتعلّم التفلسف، يمكن التحرّك ضمنه بما يتوافر للأساتذة حاليًا من إمكانات، آخذين بالاعتبار كل الظروف المؤسّساتية لهذا التعليم

 
الصف: الثالث الثانوي-  الفروع الأربعة
عنوان الدرس : الحرية والمسؤولية
المدة: 5 ساعات

الأهداف التعلّمية :

  • أفهمة كلمة الحرية
  • وضع الإشكاليات المرتبطة بمفهوم الحرية  
  • محاججة الأطروحات المختلفة حول موضوع الحرية
  • الربط بين الحرية والمسؤولية

إن كلمة الحرية هي من أكثر المفردات استهلاكاً في حياتنا اليومية إن على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي ، ما الذي تتضمنه هذه الكلمة بالنسبة إلى الطلاب ؟ ماذا يريدون فعلاً عند مطالبتهم بالحرية ؟عمّ يتحدثون؟ كيف يمكننا الانتقال من عبارة الحرية الى مفهوم الحرية وهل يمكن إعطاء تحديدًا له ؟ ( مع العلم أن التحديد المفهوي في الفلسفة يختلف عن التحديد اللغوي كون تحديده مرتبطًا بنظرية فلسفية معينة ، يأخذ قيمته من خلالها ، فيصبح المفهوم تصورًا يمكن إعادة النظر فيه، كما سيتّضح لنا لاحقًا التشابك والتلازم الدائم بين عمليّات الأفهمة والأشكلة في الفلسفة). ما هي حقول استعمالاتها وهل تشتغل الحرية بالطريقة نفسها في هذه الحقول المختلفة، ما هي المفاهيم الأخرى المرتبطة بها وما علاقة هذه المفاهيم بعضها ببعض؟ ما هي التساؤلات العديدة حول الحرية وما هي إشكاليّاتها  التي ستتعدّد  وتتشعّب كلما أعطينا تحديدًا  مختلفًا لها ، وما هي تحديدات بعض الفلاسفة لها وما هي أطروحاتهم جوابًا عن تلك الإشكاليات والأسئلة ؟ وكيف حاججوا هذه الاطروحات؟ وهل سيتضح لنا مفهوم الحرية اكثر في نهاية الدرس ونعي معانيه الكامنة ونبدّل في تصوراتنا ونتصرّف على هذا الأساس ؟

 

ما هي الحرية؟ما هي إشكاليّاتها ؟وما هي العلاقة بينها وبين المسؤولية ؟

هنالك عدة سبل للأفهمة والمقصود بالأفهمة أن يعمل الطلاب على البحث عن المعاني والدلالات المختزتة في الموضوع المطروح ,(وهنا موضوع الحرية )، والعمل على المفاهيم الأخرى المرتبطة به ,والتمييز بينها , وإقامة علاقات الترابط في ما بينها بما يتيح إمكانية أشكلتها.

يمكننا بداية، العمل انطلاقًا من إظهار ما هي تصوّرات التلامذة عن الحرية. وهذه الخطوة ليست بمضيعة للوقت كما يظن الكثيرون ، إنما إذا أردنا أن نعمل على الآراء السائدة وعلى الأفكار المسبقة ، يمكننا التوصل إلى دفع التلامذة إلى طريق التفكير الذاتي واستبدال الرأي بالفكر من طريق وضعهم في حالة التشكيك في المعتقدات الشائعة  عبر وعيهم لرهانات هذه الآراء . فنطلب إليهم هنا، ماذا تعني لهم الحرية؟ غالبًا  ما تكون الأجوبة متشابهة والرأي الشائع: " إن الحرية هي أن نفعل كما نشاء " ، و عندها نتساءل ما هي تداعيات هكذا تحديد، ألا يوصلنا من جهة، إلى أن نصبح ضحية لأهوائنا وغرائزنا، ومن جهة أخرى،  إلى شريعة الغاب حيث تكون الغلبة للأقوى ، وتنتفي معهما الحرية . (النزاع المعرفي) ويطرح المشكل الذي يوجب حله: كيف الخروج من ألينة أهوائنا ؟ هل إن الحرية هي أن نفعل ما نريد أم أن هنالك ضوابط للسلوك الحر وما هي طبيعة هذه الحرية الفردية ؟ وكيف تفادي غلبة الأقوى ؟ وبالتالي، نضطر لإعادة النظر بتصوراتنا وبتحديدنا العفوي الأول للحرية. و يكون التشكيك اقوى عند وجود آراء مختلفة، " إن حريتي تتوقّف عندما تبدأ حرية الآخر" (النزاع المعرفي الاجتماعي)، وهنا نتساءل أيضًا عن التداعيات، ألا يحدّ وجود الآخر من حريتي، ألا تتعارض الحريات العامة مع الحرية الفردية ، ونتساءل عن الافتراضات، هكذا تحديد يفترض أن هنالك حدودًا لحريتي في علاقتي مع الآخر، يحدّدها القانون في ما هو مسموح أم غير مسموح فعله لعدم التعدّي على الآخر ...والمشكل الموجب حله هنا: كيفيّة ملاءمة الحرية الفردية وحرّية الآخر، وما هي علاقتهما مع الحرّية السياسية؟ وكيف ملاءمة حريّتي مع طاعة القوانين؟ وتبرز إشكالية أولى:هل القانون يتعارض مع الحرية؟

 

هل القانون يتعارض مع الحرية؟

هنا يطلب إلى التلامذة انطلاقا من أقوال ونصوص بعض الفلاسفة في هذا السياق: قراءة ،تحليل، استخراج المعاني، الأفكار، الأطروحات المختلفة واستثمارها لحل المشكلات الأولى التي طرحت. (عمل مجموعات من 2 – توزع عليها الأقوال بطريقة متوازية – نصف ساعة- ثم عرض عمل كل مجموعة – وضع الأفكار دائمًا على اللوح – مناقشة في صحة المعلومة وفي ملاءمة الجواب للسؤال )، وبعدها يقوم الاستاذ بالتوليفة والخلاصة.

 " الحرية هي الحق بأن نفعل كل ما تسمح به القوانين " مونتسكيو

" الإنسان الحر هو الذي لا يواجه عراقيل  تعوقه في فعل ما يريد، بالنسبة للأشياء التي يستطيع فعلها بقدر ما تسمح له قوته وذكاؤه" هوبز.

" بين القوي والضعيف، بين الغني والفقير، بين السيّد والعبد، الحرية هي التي تقهر، والقانون هو الذي يحرر". لاكوردير

" فيم يمكن أن تكمن حرية الإرادة  سوى في حكم ذاتي، بمعنى الصفة التي لديها بأن تكون قانونًا لذاتهًا. كانت .

"من هو سيّد نفسه يعمل بناء على خيار تمّت مذاكرته ، لا تحت نزوة الرغبة ".  أرسطو

"إن المجال الذي عرفت فيه الحرية دومًا- لا باعتبارها مشكلة بل بما هي واقعة من وقائع الحياة اليومية- إنّما هو الميدان السياسي... وبالرغم من التأثير البالغ الذي مارسه مفهوم الحرية الداخلية غير السياسية على تقاليد الفكر، يبدو أنّه يمكن الإقرار بأن الإنسان لا يمكنه أن يعرف شيئا عن الحرية الداخلية إذا هو لم يختبر بادئ ذي بدء حرية تكون واقعًا ملموسًا في العالم. فنحن نعي أولاً بالحرية أو بنقيضها في علاقتنا بالآخرين، لا في علاقتنا بأنفسنا. ....إن الحرية بما هي واقعة قابلة للإثبات تتطابق مع السياسة.... "آنـا آرندت

   "...يسعى البعض إلى الخلط بين الاستقلال و الحرية في حين أنهما مختلفان إلى حد أن أحدهما يمكن أن يقصي الآخر .إن قيامي بالفعل الذي أريده من شأنه ألا يرضي الآخر وهذه ليست حرية . فالحرية ليست في ممارستي لإرادتي بقدر ما هي في عدم الخضوع لإرادة الآخر و في الوقت نفسه عدم إخضاع إرادة الآخر لإرادتي ...فالإرادة الحرة حقًا هي تلك التي ليس لأي فرد الاعتراض عليها أو مقاومتها وهو ما يتأكد في الحرية العامة حيث ليس من حق أي فرد أن يفعل ما تمنعه حرية الآخر .إن الحرية الحقيقية لا تحطم ذاتها، و من ثمة فالحرية من دون عدالة هي محض تناقض لأن في إنتهاكها من طرف إرادة غير متزنة ضرر مؤكد .قطعًا إذًا لا توجد حرية في غياب القانون أو في حضور من يعتبر نفسه فوق القانون. حتى في حالة الطبيعة فالإنسان ليس حرًّا إلا في حدود القانون الطبيعي الذي يلزم الجميع. إن الشعب الحر يطيع لكنه لا يخدم أبدًا فهو يخضع لرؤساء لا لأسياد، إنه لا يطيع إلا القانون و بالتالي يترفع عن الخضوع للناس.

الشعب الحر هو الذي يجب ألا يرى في الدولة -مهما كان شكلها - الإنسان بل جهاز القانون .."    روسو

" صحيح أن كلّ فرد يتمتّع خارج المجتمع المدني بحرية تامة غير منقوصة، ولكنّها حرّية غير مثمرة، لأنّها، لمّا كانت تعطينا امتياز فعل كلّ يطيب لنا فعله، فإنّها كذلك تترك للآخرين القدرة على أن يحمّلونا كلّ ما يعِنّ لهم.أما في ظل حكومة دولة محكمة الأسس، فإن كل فرد لا يحتفظ من حريته إلا بالقدر الذي يكفيه ليعيش عيشة راضية، و في ودعة تامة ، كما أن الآخرين لا يجردون من حريتهم إلا بقدر ما يُخشى عل غيرهم منها...." هوبز

"إن الانتقال من الوضع الطبيعي إلى الوضع المدني ينشئ في الإنسان تحولاً ملحوظًا, و ذلك بجعله يستعيض عن الغريزة بالعدالة في سلوكه و يجعل أفعاله تكتسي الطابع الأخلاقي الذي كان ينقصها سابقا.  ...فما يخسره المرء من طريق العقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية و حقًّا لا محدودًا في كل ما يسعى أو يستطيع تحصيله, أما ما يغنمه فهو الحرية المدنية و ملكية كل ما لديه. و لكي لا يخطئ في هذه الموازنات فإنه من الواجب أن نميز الحرية الطبيعية التي لا حدود لها إلا قوى الفرد, والحرية المدنية التي تحدها الإرادة العامة, من الحوز الذي هو فعل القوة والملكية التي لا تتأسس إلا بصفة وضعية. فضلاً عن هذا كله نستطيع أن نضيف إلي مكتسبات الوضع المدني الحرية الأخلاقية باعتبار أنها هي وحدها فقط التي تجعل الإنسان بحق سيد نفسه لأن دافع الشهوة وحدها عبودية و طاعة القانون الذي وضعناه لنفسنا حرية ."روسو

بعد عرض ما توصّلت إليه المجموعات، وبعد المناقشة العامة لما أورده هؤلاء الفلاسفة من أطروحات وأفكار تدعمها ، يمكننا التلخيص بالآتي:  لطالما وُجِدَ الإنسان مع الآخر في تجمّعات أخذت أشكالاً مختلفة عبر العصور ( من القبائل الى الدولة )، فمقولة الوضع الطبيعي أو الحرية الطبيعية المطلقة هي مقولة فرضية،  تتشابه حرية الفرد فيها  مع حرية الحيوان  الذي يتحرّك كيفما يشاء ،وعندها تصح مقولة الغلبة للأقوى، وعليه وجب فهمنا للحرية انطلاقًا من هذه العلاقة بالآخرين، الحرية أول ما نختبرها  في المجال السياسي لا في داخلنا (آرندت)، ومن شكل التنظيم الذي اتخذته : فالوضعية المدنية عند روسو تعني الوضعية المجتمعية ، وعند هوبز الوضعية السياسية. ففي كلتا الحالتين وعلى الرغم من الفروقات الأساسية، فالحرية مضمونة أكثر في الوضعية المدنية : قبول بحرية منتقصة مقابل الأمن والاستقرار (هوبز)، وحرية مدنية كاملة يضمنها القانون النابع من الإرادة العامة، إضافة إلى حرية أخلاقية تبعد عن عبودية الغرائز ويصبح الانسان من خلالها سيد نفسه ( روسو) ، فحريتي ليست بالاستقلال عن الآخر، إنما باحترام حريته وحريتي عبر طاعة القانون الذي وضعناه لأنفسنا (روسو).

يمكننا أن نخلص إلى أن الحرية الحقيقية ليست الحرية الطبيعية إنما الحرية الأخلاقية والحرية المدنية. فالحرية ليست الاستقلال (القدرة على فعل ما يحلو لنا) إنما الاستقلالية الذاتية ، بمعنى أن نعطي لذاتنا قانونًا يمليه علينا عقلنا ويجعلنا أسياد ذواتنا ( كانت وروسو ). . من جهة أخرى، الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا من خلال وجود الآخر، ومن خلال الممارسة السياسية داخل المجتمع المدني، وهنا يصبح القانون شرط ممارسة الحرية الفردية ،على أن تكون الإرادة العامة مصدر هذا القانون. الحرية ليست إذًا التصرف العشوائي من دون رادع أو رقيب(أرسطو) ، فالقانون الأخلاقي الذاتي يخرجنا من سطوة غرائزنا (كانت)، والقانون الوضعي المشترك  يخلصنا من سطوة الأقوى (روسو)، الحرية من دون قانون هي باطلة ووهمية (لاكوردير). (لكن هذه الإرادة العامة المفترضة الركيزة الأساسية للديمقراطية عند روسو، هي في الواقع خيال نظري، فهي تعني إرادة المواطنين أجمع في اختيار قوانين يوافقون كلهم عليها عبر عقد اجتماعي وتكون ركيزتها العقل لا المصالح الشخصية لتخدم المصالح العامة). إنما في الواقع، نسأل من يشرّع القانون الوضعي فعليًا وهل انتفت سيطرة الأقوى في المجتمعات المدنية الحديثة حتى الأكثر ديمقراطية ؟ وفيمَ تكمن حريتنا عندئذ، هل في الانصياع الأعمى للقانون أم تتجلى أكثر في التمرّد والسعي إلى تغييره؟ وأيضًا، ألا نجد أحيانا تعارضًا بين القانون الأخلاقي والقانون الوضعي فماذا عسى حريتي أن تختار؟

ما هي المسؤولية المترتبة على الإنسان الذي يتخطى القانون؟ إذا تخطى  القانون الوضعي ، نتكلم على المسؤولية الجزائية (عندما أرتكب شخصيًا المخالفة أو الجرم)، أو المسؤولية المدنية (عندما يجبرني القانون على إصلاح الأضرار الناتجة من الغير _ كشركة التأمين مثلاً)، وفي حال تخطى القانون الأخلاقي، نتكلم على المسؤولية الأخلاقية ( عندما يؤنبني ضميري على عمل سىء أقدمت عليه أو عمل جيّد لم أقم به)؟ المسؤولية تعني أن نسأل عن أفعالنا ونتحمل أعباء هذه المساءلة. في هذه المرحلة، نكتفي بتحديد، تصنيف وتمييز مفردة المسؤولية.

يمكننا الانتقال بعدها لمحاولة تصنيف المفاهيم المتقاربة من الحرية والمفاهيم المعاكسة لها ومحاولة التفريق في ما بينها: الطلب إلى التلامذة وضع لائحة بالكلمات التي يرونها متقاربة مع كلمة الحرية مقابل لائحة بالكلمات المعاكسة. يساعد المعلِّم على إيجاد وتحديد المفاهيم التي عبر عنها التلامذة بشكل مَثَل أو ما شابه، ولم يستطيعوا تسميتها (صعوبة التجريد)، ثم توضع اللائحة على اللوح. ممكن أن نحصل على هكذا جدول :

الحرية اللاحرية

التحرر – التحرير – العفوية – الاندفاع – اللاحتمية -الإرادة – العقل – الخيار - القرار- الاستقلال – السيادة- اليمقراطية- الحق- القدرة- المسموح – الإمكانية- الليبرالية

العبودية – الاحتلال – السجن – الحتمية -القدرية – الضرورة- الجهل – الخضوع – الأهواء – التدخل الخارجي- النظام الشمولي- الممنوع – القانون – النظام- المحرّم- الاشتراكية

ومن ثم القيام بالتفريق بين الكلمات بالقدر الممكن وبشكل أوّلي ، يتبع ذلك صياغة مصحّحة من قبل المعلِّم لتعريف الكلمات الصعبة لكي تصبح إمكانية التفريق أسهل (الحتمية / القدرية- الضرورة – التحرر/التحرير- الليبرالية/الاشتراكية ...)، هل من قاسم مشترك يتضمنه جدول مفردات اللاحرية ؟ أليست تعبر بشكل من الأشكال عن أنواع مختلفة من الضغوطات والقيود؟ يعود التلامذة لمحاولة التفريق بين القيود الخارجية والقيود الداخلية. ونصل إلى القول بأن الحرية هي في عدم وجود ضغوط أو قيود تمنعنا من فعل ما نريد. وبعدها محاولة تحديد للحرية بالصيغة الإيجابية انطلاقا من الكلمات التي أوردوها. مثلاً: " الحرية هي حق الاختيار"، " الحرية هي السيطرة على الجهل والأهواء"، "الحرية هي الاستقلال عن الآخر"، " الحرية هي التحرّر من العبودية "،....بعد إعطاء هذه التحديدات، يمكننا التساؤل : هل يصح دائمًا وضع الحرية بمواجهة القانون أو الحتمية، أو هل يجب أن نما هي بين الحرية والليبرالية، أو هل الاستقلال يؤمن الحرية الفردية؟ أو هل العفوية والاندفاع هما سمة حقيقية للحرية؟

نلاحظ ، بعد  هذا البحث عن معاني كلمة الحرية، وبعد طرح كل هذه ألاسئلة، أننا أقحمنا مفهوم الحرية في مجالات مختلفة ، هذا لأن حقول استخدام كلمة الحرية متعددة: حقل ميتافيزيقي ، أخلاقي ، نفسي، إجتماعي ، قضائي ، سياسي ، إلخ ... لكننا لا نعرف ما إذا كانت الحرية تشتغل بالطريقة نفسها في كل هذه الحقول  ، أو ما إذا كان باستطاعتنا إلغاء أحد المعاني المختلفة لها عند تعاطينا مع وضعية حياتية حقيقية المفترض أن تمارس فيها حريتنا . سنتعاطى مع هذه المعاني بما يخدم فهمنا للعلاقة بين الحرية والمسؤولية .

نسأل التلامذة هل يمكنهم تصوّر إشكالية تتقاطع مع شبكة المفاهيم الواردة في الجدول السابق ، ربما يتوصلون بمساعدة المعلِّم ... هل يستطيع الإنسان الانعتاق من كل ما يقيّده؟  وتطرح إشكالية ثانية : هل الحتمية تلغي الحرية ؟ وإذا كانت الحرية هي شرط أساسي للمسؤولية ، هل الحتمية تلغي المسؤولية ؟

 

 هل الحتمية تلغي الحرية؟

أذا كانت افعالنا تخضع لمبدأ الحتمية ، فبماذا نحن احرارا"؟ وكيف يمكن الكلام على مسؤولية أفعالنا؟

هنا أيضًا يطلب إلى التلامذة انطلاقًا من أقوال بعض الفلاسفة في هذا السياق: قراءة، تحليل، استخراج المعاني، الأفكار، الأطروحات المختلفة واستثمارها لحل المشكلة المطروحة. ( عمل مجموعات من 2 – توزع  عليها الأقوال بطريقة متوازية – نصف ساعة- عرض عمل كل مجموعة – وضع الأفكار دائمًا على اللوح – مناقشة في صحة المعلومة وفي ملاءمة الجواب للسؤال ) وبعدها يقوم المعلِّم بالتوليفة والخلاصة. 

" إنه من البديهي جدًا امتلاكنا لإرادة حرة تعطي موافقتها أو لا تعطيها متى تشاء ، وأن تحسب كواحدة من عامة البديهيات".  ديكارت.

" إن السبب الذي أورده ديكارت لإثبات استقلالية أعمالنا الحرة بناء على شعورٍ داخلي مزعوم، لا قوة له. لا يمكننا أن نشعر باستقلاليتنا بشكل صحيح ولا أن ندرك دائمًا الأسباب الكامنة وراء قراراتنا والتي غالبًا ما تكون غير منظورة  ...".لايبنتز

" إن الإرادة النابعة من الداخل هي المبدأ الأوحد لكل القوانين الأخلاقية والواجبات التي تلتزم بها؛ وعلى العكس فإن الإرادة الخاضعة لإلزامات خارجية للخيار الحر, ليس فقط أنها لا تشكل قاعدة للإلزام، إنما تتعارض مع مبدأ الإلزام وأخلاقية الإرادة ".  كانت .

" إذًا ، نكون أحرارًا عندما تصدر أفعالنا من شخصيتنا الكلية، عندما تعبر عنها وعندما تكون بتشابه غير موصوف معها، كالذي نشاهده أحيانًا بين الفنان وآثاره ".برغسون .

" إن الأشياء التي تتعلق بنا هي بطبيعتها حرة، والتي لا تتعلق بنا، فهي عاجزة، عبدة، غريبة عنا ". إبيكتيت .

" نعطي صفة الحر لشيء ما موجود ويعمل فقط من خلال ضرورة طبيعته ..." سبينوزا .

"من هو سيّد نفسه يعمل بناء على خيار تمّت مذاكرته، لا تحت نزوة الرغبة ".  أرسطو .

" إن حرية الإرادة لا تعني إذًا شيئًا آخر سوى الخيار بناء على وعي الوضعية". أنغلز .

" إن الذين يعتقدون أنهم يتكلمون أو يصمتون أو يفعلون أي شيء كان، انطلاقًا من قرار ذاتي حرّ، فهم يتوهّمون". سبينوزا.

"محتّم كليًّا وحرّ كليًّا، مجبر على تحمّل أعباء الحتمية لكي ارفع عاليًا أهداف حريّتي، أن أجعل من هذه الحتمية التزامًا إضافيًّا ". سارتر.

"لأنه، إذا كنت دائمًا على علم بما هو حق وما هو خير بشكل واضح ، فلا لزوم للعناء في المذاكرة من أجل إعطاء حكم أو خيار عليّ اتخاذه، وأكون بذلك حرًّا كلياً. ديكارت .

"... إلا أن الحرية لا تقتضي عدم تحمل أي شيء ، إنما أن نضع روحنا فوق المظالم ، وأن نجعل من أنفسنا المصدر الأوحد لأفراحنا ، وأن نقيم انقطاعًا مع العناصر الخارجية، لتفادي الحياة المضطربة لذاك الذي يخشى السنة وضحك واهانات الآخرين في أية ساعة وفي أي ظرف ..." سينيك

"...ولسوف يدحض جنون العظمة البشري مرة ثالثة بما يتم في أيامنا من بحث نفساني يروم أن يبين للأنا أنه ليس سيدًا حتى في بيته ، بل وأن عليه أن يقنع بمعلومات قليلة و جزئية عما يحدث ، خارج وعيه ، في حياته النفسية ".  فرويد

" يمكننا دراسة ما مضى ، لكن ما مضى قد انتهى ، وانطلاقًا من ذلك ، ليس بإمكاننا التكهن بأي شيء ، واللحاق بالتيار ؛ إنما علينا ببساطة العمل ومحاولة جعل الأشياء أفضل. فاللحظة الحاضرة هي هذه التي ينتهي عندها التاريخ ، وليس بإمكاننا على الإطلاق رؤية المستقبل معتقدين إمكانية توقعه بفضل التيار. وكذلك لا نستطيع أن نقول لأنفسنا: فقد عرفت دومًا أن النهر سوف يمر من هنا". بوبر

" إن جدلية العقل تنبع مما سبق. لأنه بالنسبة للإرادة ، تبدو الحرية المرافقة لها متناقضة مع الضرورة الطبيعية  وعند هذا التقاطع، يجد العقل في نيته التأملية، طريق الضرورة الطبيعية مفتوحة وقابلة لاستمرارية الحياة أكثر من طريق الحرية، وبالرغم من ذلك، ففي النية العملية للعقل، يصبح طريق الحرية هو الوحيد الذي يمكننا من استخدام العقل في سلوكنا. لهذا ، فإنه يستحيل سواء على الفلسفة الأكثر إرهافًا أو على العقل الإنساني الأكثر شيوعًا تغييب الحرية عبر مسالك عقلانية ".  كانت

هل يمكنهم رؤية علاقة ما بين هذه التحديدات، أوجه شبه أو اختلاف في تلك التصوّرات حول مفهوم الحرية ؟ يطلب تصنيف أولي . ربما يلاحظون أن هذه التحديدات تعطي بغالبيتها مواقف من تصوّرهم الأول الذي أعطوه عن الحرية، ولكن سرعان ما سنكتشف ونحن نحلل أنه هنالك فروقات كثيرة  وتمايزات، عدا أن هنالك مفاهيم جديدة يجب شرحها لفهم التمايز والتشابه والاختلاف ( الإرادة الحرة –الضرورة ...)  ويتضح لنا مجددًا التلازم ا بين الأشكلة والأفهمة. وبعد التحليل والنقاش ، يمكن الوصول إلى صورة أوضح عن هذه التصورات، ووضعها مبدئيًّا تحت عنوانين ما يضعنا أمام الإشكالية الكبرى المطروحة عن الحرية في كل الفكر الفلسفي ألا وهي العلاقة بين الحرية والحتمية والتي ستقودنا إلى فهم العلاقة بين الحرية والمسؤولية .

نتساءل أولاً، هل إن مبدأ الضرورة الكونية هو مبدا فرضه العقل وأثبتته العلوم أم إنه مقولة ميتافيزيقية ؟ أيًا كان الجواب، فإن الكثير من المفكرين أقروا به ، فكانت الضرورة في الطبيعة ( الرواقيون ) – في إرادة الله – (اللاهوتيون) ، في التاريخ ( هيغل- ماركس) – في العلم ( لابلاس ) – واليوم هنالك إقرار علمي بوجود جزء من اللاحتمية في العالم المادي على أثر اكتشاف الفيزياء الكانتية، من هنا إقرار بوبر باللاحتمية. أما إذا قبلنا بهذا المبدأ وإذا افترضنا أن تفسير الأحداث الطبيعية بمبدأ السببية القائل أن لا نتيجة من دون سبب، وبمبدأ الحتمية القائل إن كل ما يحدث في الكون هو نتيجة لعدة أسباب متصلة بعضها ببعض وفقًا لقوانين ثابتة ومعروفة ، قد ينسحب على تفسير كل الافعال والخيارات الشخصية ، لأنه نادرًا ما تكون أفعالنا من دون سبب واعتبرناها خاضعة  بالتالي لشكل من أشكال الضرورة ، أي أن ما حدث لا يمكن إلا أن يكون ، ألا تصبح عندها الحرية فرضية غير مؤكدة ، فكرة أو وهم؟

فالقبول بالقدرية ينفي أي تأثير لأفعالنا على مجرى الأمور كون الأشياء مرسومة مسبقًا ومكتوبة. اعتبر الفلاسفة الرواقيين (ابيكتيت-سينيك ) أن الطبيعة تخضع لهذا القدر، والأفعال الإنسانية لا تقوى على أي تغيير ، وتصبح الحرية فهم هذا القدر والقبول به .أما القبول بملازمة أفكارنا وإرادتنا ومبدأ الحتمية سيكون ملائمًا أكثر. وهذا ما فعله سبينوزا: لا وجود في روحنا لإرادة مطلقة، حرة ، وأقرت به فلسفة هيغل وماركس التي اعتبرت أن الأفكار والأفعال محكومة بالضرورة التاريخية . فتصبح الحرية في ظل هذه الحتمية الكاملة فهمًا عقلانيًّا لهذه الضرورة وللطبيعة (سبينوزا) مع جعلها طوعًا أداتها الواعية (أنغلز) ،أو الفكرة التي تتحقق عبر التطور (هيغل)، أو النضال المستمر لتحقيقها عند التحرّر الاقتصادي (ماركس).

أما الإقرار  بوجود  إرادة حرة مطلقة تختار من دون سبب (ديكارت- سارتر) فهذا من باب الفرضية النظرية . هل يمكن القبول عمليًّا بوجود الفعل المجاني المفترض، أم أن هذا الفعل هو مجهول الأسباب؟ إن إثبات وجود اللاوعي كان بمثابة تأكيد على وجود حتمية ما في الحياة النفسية (فرويد). وقد حاول كانت حل هذا الإشكال بتمييز عالم الظواهر الطبيعية الذي يخضع لمبدأ الحتمية ، من عالم الحرية الذي ينتمي الى عالم "المعقول"  والذي لا يخضع إلا للقانون الأخلاقي .

إذا افترضنا أن الحرية هي هذه القدرة لإرادتنا في اختيار القانون الذاتي والقانون المشترك  ليمليا علينا أفعالنا ، كما رأينا سابقًا، من دون أن تتحكم فيها كليًّا العوامل الخارجية ،هذه القدرة في اختيار أن نعمل أو لا نعمل ، نكون أمام حرية خاصة بالانسان تجعل منه صانع أفعاله ومسؤولاً عنها ، يتحمل وزر أعبائها ، وهكذا يتجلى لنا ككائن حر يفوق سائر الكائنات ، ولكن هل تتماشى هذه الميزة مع مبدأ السببة ؟ هل نتوهم عندما نقول إننا اخترنا بحرية هذه الإمكانية أو تلك ؟ ماذا لو كانت هنالك أسباب لخياراتنا ربما نجهلها ونعتقد أننا اخترنا بملء إرادتنا ؟ ماذا عندها عن مسؤولية أفعالنا ؟ هل يمكننا الخروج من هذا الخيار المستحيل بين الحرية الملازمة لكرامتنا وبين مبدأ السببية الذي يتيح لنا فهم العالم والفعل فيه.

وأخيرًا، إذا طبقت التفسيرات والتوقعات، المبنية انطلاقًا من العلاقات بين السبب والنتيجة، على الأفعال الإنسانية، فهل يعني ذلك أن الفرد يتلقى الحتميات التي أوضحت العلوم الإنسانية تأثيرها عليها( وراثية، نفسية، اجتماعية، ثقافية ...)، من دون أن يستطيع شيئًا حيالها؟ عندما نتحدّث عن حتمية العلاقة بين السبب والنتيجة، هذا لا يعني إننا لا نستطيع شيئًا حيالهما، ربما تلافينا النتيجة إذا عملنا على السبب. هذا التصوّر لوجود الحتمية من دون ملازمتها للضرورة ، يمكن ان يتلاءم مع شكل من أشكال الحرية. يقول برغسون في هذا الإطار أن الإنسان  يتلقّى كل التأثيرات الخارجية والداخلية ، وما ان يجعلها مندمجة مع ذاته  ،تأخذ طابع الأنا الحقيقي المعبر عن الكيان والهوية الذاتية ، يصبح حرًّا عبر فعله المعبر لكينونته .

 

كيف نفهم المسؤولية؟

ما يهمنا هنا  أولاً هو ما يؤسس لمفهوم المسؤولية . هل نعتبر مسؤولاً من لم يكن لديه الخيار بين ارتكاب عمل مشين وعدم ارتكابه ؟ إننا لا نحكم على المريض النفسى ولا على الطفل  ولا  على الحيوان بأنهم مسؤولون عن أعمالهم، ونعطي أسبابًا تخفيفية لمن كانت قدراته التمييزية مشوشة. يبدو أن امكانية الخيار بين الخير والشر هي شرط أساسي لهذه المسؤولية . وهذا ما يعيدنا إلى مسألة الحرية.

ألا يجب لكي نكون أحرارًا ومسؤولين عن أفعالنا أن يكون لدينا الخيار بين احتمالات عدة  وأن تكون هذه الخيارات غير محتّمة ؟ فإذا افترضنا وجود الحرية المطلقة (ديكارت- سارتر) في أن نختار فعل شيء أو عدم فعله، وأن يكون هذا الخيار لا تحكمه سوى إرادتنا، فيمكن عندها نظريًّا أن نختار الشّر، ولكن ألا نميل أكثر  إلى الخيار الآخر عندما يكون واضحًا لنا ما هو خير وما هو صح ؟ونختار بملء إرادتنا ما يمليه علينا القانون الأخلاقي الصادر عن العقل (كانت). ربما يكون الدافع الاساسي لبعض الفلاسفة في التمسك بفرضية وجود الإرادة الحرة ، هو كونها الشرط الأساسي للمسؤولية ولأخلاقية الإنسان ( كانت- توما الاكويني)، والمعادلة لوجوده (سارتر) وليتحمّل الإنسان أعباء أفعاله.الفيلسوف ديكارت

بالمقابل، إن عدم وجود هذه الإرادة الحرة يقودنا منطقيًّا إلى إبعاد فكرة المسؤولية، فيصبح المجرم دائمًا تحت وطأة مسببات جريمته ويحظى بالأسباب التخفيفية والمسامحة على فعلته .فكبف لنا أن نلائم بين الحتمية والمسؤولية؟ ربما يجدر بنا البحث عن مصادر أخرى للحرية  غير هذه الإمكانية الحرة للخيار بين الخير والشر والتي نجهل منبعها لغاية الآن، فنبحث في تأثير الثقافة، في التربية، في المجتمع، في الاختبار السياسي لهذه الحرية. هتالك ظروف تساعد على نشوء وتطوير الحرية لدى الإنسان من دون أن تختزلها، لذا سنرى دائمًا أناسًا أحرارًا أكثر من غيرهم ، فالحرية عبء كبير والمسؤولية عبء أكبر .

يمكن أن نخلص بعد هذا العمل بأنه اذا كانت فكرتنا عن الحرية تعني"أن أفعل ما أريد" ، فمن غير الممكن أن نكون أحرارًا كليًّا. ففي الواقع، توجد عناصر عدة تقلّص من هذه الحرية، وتشمل حتميات عدة تمنعنا من فعل ما نريد.. ربما وقبل أي شئ، يكون فعل القرار الشخصي النابع من الذات، هو أكثر ما يعبّر عن حرية الخيار لدينا ، بالرغم من الحتميات والظروف المختلفة .فالحرية هي في استقلاليتي الذاتية وفي معرفة ما هو حقيقةً خير أو شر ، وأفعل على أساسه  بما يتناسب مع كرامتي وإنسانيتي، ليس فقط تجاه مصالحي الضيقة الذاتية ، إنما تجاه الإنسانية جمعاء، إلى حد أن أعارض القوانين إذا كانت جائرة، أن أتظاهر إذا كانت القضية عادلة، أن أتصدى لأوامر ظالمة، أن أطالب بحق مسلوب، أن أدافع عن مقهور،  أن أقاوم احتلال. الإنسان يأبى إلا أن يكون حرًّا، لكن في الحرية مجازفة ومخاطرة ،  لذا نرى غالبية الناس يتعايشون مع الظروف ويستكينون  داخل عبوديتهم المقنعة ، تاركين تقرير مصيرهم  "للمسؤولين" ، مستقيلين من التزاماتهم الإنسانية ... وإذا لم نفهم أن حريّتنا ملازمة لوجودنا وأن مسؤوليتنا تشمل الإنسانية جمعاء، فنحن في دائرة الخطر ...لا توجد حرية، بل هناك أناس أحرار.  وفي هذا الإطار فقط ، يجب أن تفهم المسؤولية.

فلسفة

سامية معكرون مدرّ بِة مادة الفلسفة مركز الموارد-جونية

 

 

 

 

درس في الفلسفة

إذا أردنا أن يتحول درس الفلسفة عن الطريقة التقليدية في التلقين وعن الدرس المحاضرة والدخول أكثر إلى الطرائق الناشطة , وإشراك المتعلِّم في بناء معرفته بما ينسجم بالفعل لا بالقول مع روحية التعليم بالكفايات, يجدر بنا إيجاد هيكلة أخرى للدروس ووضع مخطط مختلف للدرس , ربما يكون صعبًا في بداية المطاف , لكنه يلبي أكثر طموحات تدريس هذه المادة للوصول بها إلى الأهداف الأساسية المبتغاة من تعليمها  ألا وهي تعلُّم التفلسف وليس تعليم تاريخ الفلسفة . وهذا يتطلب جهود ومساهمات الجميع لبلورة ديداكتيك لهذه المادة تلبّي خيار التعليم بالكفايات .

بناء عليه  ,سأقدم  تصورًا مرحليًا ممكنًا لهيكلة عامة في تحضير درس في الفلسفة بخطوطه العريضة مستخدمة مباشرة أقوال ونصوص الفلاسفة كسند لتعليم وتعلّم التفلسف، يمكن التحرّك ضمنه بما يتوافر للأساتذة حاليًا من إمكانات، آخذين بالاعتبار كل الظروف المؤسّساتية لهذا التعليم

 
الصف: الثالث الثانوي-  الفروع الأربعة
عنوان الدرس : الحرية والمسؤولية
المدة: 5 ساعات

الأهداف التعلّمية :

  • أفهمة كلمة الحرية
  • وضع الإشكاليات المرتبطة بمفهوم الحرية  
  • محاججة الأطروحات المختلفة حول موضوع الحرية
  • الربط بين الحرية والمسؤولية

إن كلمة الحرية هي من أكثر المفردات استهلاكاً في حياتنا اليومية إن على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي ، ما الذي تتضمنه هذه الكلمة بالنسبة إلى الطلاب ؟ ماذا يريدون فعلاً عند مطالبتهم بالحرية ؟عمّ يتحدثون؟ كيف يمكننا الانتقال من عبارة الحرية الى مفهوم الحرية وهل يمكن إعطاء تحديدًا له ؟ ( مع العلم أن التحديد المفهوي في الفلسفة يختلف عن التحديد اللغوي كون تحديده مرتبطًا بنظرية فلسفية معينة ، يأخذ قيمته من خلالها ، فيصبح المفهوم تصورًا يمكن إعادة النظر فيه، كما سيتّضح لنا لاحقًا التشابك والتلازم الدائم بين عمليّات الأفهمة والأشكلة في الفلسفة). ما هي حقول استعمالاتها وهل تشتغل الحرية بالطريقة نفسها في هذه الحقول المختلفة، ما هي المفاهيم الأخرى المرتبطة بها وما علاقة هذه المفاهيم بعضها ببعض؟ ما هي التساؤلات العديدة حول الحرية وما هي إشكاليّاتها  التي ستتعدّد  وتتشعّب كلما أعطينا تحديدًا  مختلفًا لها ، وما هي تحديدات بعض الفلاسفة لها وما هي أطروحاتهم جوابًا عن تلك الإشكاليات والأسئلة ؟ وكيف حاججوا هذه الاطروحات؟ وهل سيتضح لنا مفهوم الحرية اكثر في نهاية الدرس ونعي معانيه الكامنة ونبدّل في تصوراتنا ونتصرّف على هذا الأساس ؟

 

ما هي الحرية؟ما هي إشكاليّاتها ؟وما هي العلاقة بينها وبين المسؤولية ؟

هنالك عدة سبل للأفهمة والمقصود بالأفهمة أن يعمل الطلاب على البحث عن المعاني والدلالات المختزتة في الموضوع المطروح ,(وهنا موضوع الحرية )، والعمل على المفاهيم الأخرى المرتبطة به ,والتمييز بينها , وإقامة علاقات الترابط في ما بينها بما يتيح إمكانية أشكلتها.

يمكننا بداية، العمل انطلاقًا من إظهار ما هي تصوّرات التلامذة عن الحرية. وهذه الخطوة ليست بمضيعة للوقت كما يظن الكثيرون ، إنما إذا أردنا أن نعمل على الآراء السائدة وعلى الأفكار المسبقة ، يمكننا التوصل إلى دفع التلامذة إلى طريق التفكير الذاتي واستبدال الرأي بالفكر من طريق وضعهم في حالة التشكيك في المعتقدات الشائعة  عبر وعيهم لرهانات هذه الآراء . فنطلب إليهم هنا، ماذا تعني لهم الحرية؟ غالبًا  ما تكون الأجوبة متشابهة والرأي الشائع: " إن الحرية هي أن نفعل كما نشاء " ، و عندها نتساءل ما هي تداعيات هكذا تحديد، ألا يوصلنا من جهة، إلى أن نصبح ضحية لأهوائنا وغرائزنا، ومن جهة أخرى،  إلى شريعة الغاب حيث تكون الغلبة للأقوى ، وتنتفي معهما الحرية . (النزاع المعرفي) ويطرح المشكل الذي يوجب حله: كيف الخروج من ألينة أهوائنا ؟ هل إن الحرية هي أن نفعل ما نريد أم أن هنالك ضوابط للسلوك الحر وما هي طبيعة هذه الحرية الفردية ؟ وكيف تفادي غلبة الأقوى ؟ وبالتالي، نضطر لإعادة النظر بتصوراتنا وبتحديدنا العفوي الأول للحرية. و يكون التشكيك اقوى عند وجود آراء مختلفة، " إن حريتي تتوقّف عندما تبدأ حرية الآخر" (النزاع المعرفي الاجتماعي)، وهنا نتساءل أيضًا عن التداعيات، ألا يحدّ وجود الآخر من حريتي، ألا تتعارض الحريات العامة مع الحرية الفردية ، ونتساءل عن الافتراضات، هكذا تحديد يفترض أن هنالك حدودًا لحريتي في علاقتي مع الآخر، يحدّدها القانون في ما هو مسموح أم غير مسموح فعله لعدم التعدّي على الآخر ...والمشكل الموجب حله هنا: كيفيّة ملاءمة الحرية الفردية وحرّية الآخر، وما هي علاقتهما مع الحرّية السياسية؟ وكيف ملاءمة حريّتي مع طاعة القوانين؟ وتبرز إشكالية أولى:هل القانون يتعارض مع الحرية؟

 

هل القانون يتعارض مع الحرية؟

هنا يطلب إلى التلامذة انطلاقا من أقوال ونصوص بعض الفلاسفة في هذا السياق: قراءة ،تحليل، استخراج المعاني، الأفكار، الأطروحات المختلفة واستثمارها لحل المشكلات الأولى التي طرحت. (عمل مجموعات من 2 – توزع عليها الأقوال بطريقة متوازية – نصف ساعة- ثم عرض عمل كل مجموعة – وضع الأفكار دائمًا على اللوح – مناقشة في صحة المعلومة وفي ملاءمة الجواب للسؤال )، وبعدها يقوم الاستاذ بالتوليفة والخلاصة.

 " الحرية هي الحق بأن نفعل كل ما تسمح به القوانين " مونتسكيو

" الإنسان الحر هو الذي لا يواجه عراقيل  تعوقه في فعل ما يريد، بالنسبة للأشياء التي يستطيع فعلها بقدر ما تسمح له قوته وذكاؤه" هوبز.

" بين القوي والضعيف، بين الغني والفقير، بين السيّد والعبد، الحرية هي التي تقهر، والقانون هو الذي يحرر". لاكوردير

" فيم يمكن أن تكمن حرية الإرادة  سوى في حكم ذاتي، بمعنى الصفة التي لديها بأن تكون قانونًا لذاتهًا. كانت .

"من هو سيّد نفسه يعمل بناء على خيار تمّت مذاكرته ، لا تحت نزوة الرغبة ".  أرسطو

"إن المجال الذي عرفت فيه الحرية دومًا- لا باعتبارها مشكلة بل بما هي واقعة من وقائع الحياة اليومية- إنّما هو الميدان السياسي... وبالرغم من التأثير البالغ الذي مارسه مفهوم الحرية الداخلية غير السياسية على تقاليد الفكر، يبدو أنّه يمكن الإقرار بأن الإنسان لا يمكنه أن يعرف شيئا عن الحرية الداخلية إذا هو لم يختبر بادئ ذي بدء حرية تكون واقعًا ملموسًا في العالم. فنحن نعي أولاً بالحرية أو بنقيضها في علاقتنا بالآخرين، لا في علاقتنا بأنفسنا. ....إن الحرية بما هي واقعة قابلة للإثبات تتطابق مع السياسة.... "آنـا آرندت

   "...يسعى البعض إلى الخلط بين الاستقلال و الحرية في حين أنهما مختلفان إلى حد أن أحدهما يمكن أن يقصي الآخر .إن قيامي بالفعل الذي أريده من شأنه ألا يرضي الآخر وهذه ليست حرية . فالحرية ليست في ممارستي لإرادتي بقدر ما هي في عدم الخضوع لإرادة الآخر و في الوقت نفسه عدم إخضاع إرادة الآخر لإرادتي ...فالإرادة الحرة حقًا هي تلك التي ليس لأي فرد الاعتراض عليها أو مقاومتها وهو ما يتأكد في الحرية العامة حيث ليس من حق أي فرد أن يفعل ما تمنعه حرية الآخر .إن الحرية الحقيقية لا تحطم ذاتها، و من ثمة فالحرية من دون عدالة هي محض تناقض لأن في إنتهاكها من طرف إرادة غير متزنة ضرر مؤكد .قطعًا إذًا لا توجد حرية في غياب القانون أو في حضور من يعتبر نفسه فوق القانون. حتى في حالة الطبيعة فالإنسان ليس حرًّا إلا في حدود القانون الطبيعي الذي يلزم الجميع. إن الشعب الحر يطيع لكنه لا يخدم أبدًا فهو يخضع لرؤساء لا لأسياد، إنه لا يطيع إلا القانون و بالتالي يترفع عن الخضوع للناس.

الشعب الحر هو الذي يجب ألا يرى في الدولة -مهما كان شكلها - الإنسان بل جهاز القانون .."    روسو

" صحيح أن كلّ فرد يتمتّع خارج المجتمع المدني بحرية تامة غير منقوصة، ولكنّها حرّية غير مثمرة، لأنّها، لمّا كانت تعطينا امتياز فعل كلّ يطيب لنا فعله، فإنّها كذلك تترك للآخرين القدرة على أن يحمّلونا كلّ ما يعِنّ لهم.أما في ظل حكومة دولة محكمة الأسس، فإن كل فرد لا يحتفظ من حريته إلا بالقدر الذي يكفيه ليعيش عيشة راضية، و في ودعة تامة ، كما أن الآخرين لا يجردون من حريتهم إلا بقدر ما يُخشى عل غيرهم منها...." هوبز

"إن الانتقال من الوضع الطبيعي إلى الوضع المدني ينشئ في الإنسان تحولاً ملحوظًا, و ذلك بجعله يستعيض عن الغريزة بالعدالة في سلوكه و يجعل أفعاله تكتسي الطابع الأخلاقي الذي كان ينقصها سابقا.  ...فما يخسره المرء من طريق العقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية و حقًّا لا محدودًا في كل ما يسعى أو يستطيع تحصيله, أما ما يغنمه فهو الحرية المدنية و ملكية كل ما لديه. و لكي لا يخطئ في هذه الموازنات فإنه من الواجب أن نميز الحرية الطبيعية التي لا حدود لها إلا قوى الفرد, والحرية المدنية التي تحدها الإرادة العامة, من الحوز الذي هو فعل القوة والملكية التي لا تتأسس إلا بصفة وضعية. فضلاً عن هذا كله نستطيع أن نضيف إلي مكتسبات الوضع المدني الحرية الأخلاقية باعتبار أنها هي وحدها فقط التي تجعل الإنسان بحق سيد نفسه لأن دافع الشهوة وحدها عبودية و طاعة القانون الذي وضعناه لنفسنا حرية ."روسو

بعد عرض ما توصّلت إليه المجموعات، وبعد المناقشة العامة لما أورده هؤلاء الفلاسفة من أطروحات وأفكار تدعمها ، يمكننا التلخيص بالآتي:  لطالما وُجِدَ الإنسان مع الآخر في تجمّعات أخذت أشكالاً مختلفة عبر العصور ( من القبائل الى الدولة )، فمقولة الوضع الطبيعي أو الحرية الطبيعية المطلقة هي مقولة فرضية،  تتشابه حرية الفرد فيها  مع حرية الحيوان  الذي يتحرّك كيفما يشاء ،وعندها تصح مقولة الغلبة للأقوى، وعليه وجب فهمنا للحرية انطلاقًا من هذه العلاقة بالآخرين، الحرية أول ما نختبرها  في المجال السياسي لا في داخلنا (آرندت)، ومن شكل التنظيم الذي اتخذته : فالوضعية المدنية عند روسو تعني الوضعية المجتمعية ، وعند هوبز الوضعية السياسية. ففي كلتا الحالتين وعلى الرغم من الفروقات الأساسية، فالحرية مضمونة أكثر في الوضعية المدنية : قبول بحرية منتقصة مقابل الأمن والاستقرار (هوبز)، وحرية مدنية كاملة يضمنها القانون النابع من الإرادة العامة، إضافة إلى حرية أخلاقية تبعد عن عبودية الغرائز ويصبح الانسان من خلالها سيد نفسه ( روسو) ، فحريتي ليست بالاستقلال عن الآخر، إنما باحترام حريته وحريتي عبر طاعة القانون الذي وضعناه لأنفسنا (روسو).

يمكننا أن نخلص إلى أن الحرية الحقيقية ليست الحرية الطبيعية إنما الحرية الأخلاقية والحرية المدنية. فالحرية ليست الاستقلال (القدرة على فعل ما يحلو لنا) إنما الاستقلالية الذاتية ، بمعنى أن نعطي لذاتنا قانونًا يمليه علينا عقلنا ويجعلنا أسياد ذواتنا ( كانت وروسو ). . من جهة أخرى، الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا من خلال وجود الآخر، ومن خلال الممارسة السياسية داخل المجتمع المدني، وهنا يصبح القانون شرط ممارسة الحرية الفردية ،على أن تكون الإرادة العامة مصدر هذا القانون. الحرية ليست إذًا التصرف العشوائي من دون رادع أو رقيب(أرسطو) ، فالقانون الأخلاقي الذاتي يخرجنا من سطوة غرائزنا (كانت)، والقانون الوضعي المشترك  يخلصنا من سطوة الأقوى (روسو)، الحرية من دون قانون هي باطلة ووهمية (لاكوردير). (لكن هذه الإرادة العامة المفترضة الركيزة الأساسية للديمقراطية عند روسو، هي في الواقع خيال نظري، فهي تعني إرادة المواطنين أجمع في اختيار قوانين يوافقون كلهم عليها عبر عقد اجتماعي وتكون ركيزتها العقل لا المصالح الشخصية لتخدم المصالح العامة). إنما في الواقع، نسأل من يشرّع القانون الوضعي فعليًا وهل انتفت سيطرة الأقوى في المجتمعات المدنية الحديثة حتى الأكثر ديمقراطية ؟ وفيمَ تكمن حريتنا عندئذ، هل في الانصياع الأعمى للقانون أم تتجلى أكثر في التمرّد والسعي إلى تغييره؟ وأيضًا، ألا نجد أحيانا تعارضًا بين القانون الأخلاقي والقانون الوضعي فماذا عسى حريتي أن تختار؟

ما هي المسؤولية المترتبة على الإنسان الذي يتخطى القانون؟ إذا تخطى  القانون الوضعي ، نتكلم على المسؤولية الجزائية (عندما أرتكب شخصيًا المخالفة أو الجرم)، أو المسؤولية المدنية (عندما يجبرني القانون على إصلاح الأضرار الناتجة من الغير _ كشركة التأمين مثلاً)، وفي حال تخطى القانون الأخلاقي، نتكلم على المسؤولية الأخلاقية ( عندما يؤنبني ضميري على عمل سىء أقدمت عليه أو عمل جيّد لم أقم به)؟ المسؤولية تعني أن نسأل عن أفعالنا ونتحمل أعباء هذه المساءلة. في هذه المرحلة، نكتفي بتحديد، تصنيف وتمييز مفردة المسؤولية.

يمكننا الانتقال بعدها لمحاولة تصنيف المفاهيم المتقاربة من الحرية والمفاهيم المعاكسة لها ومحاولة التفريق في ما بينها: الطلب إلى التلامذة وضع لائحة بالكلمات التي يرونها متقاربة مع كلمة الحرية مقابل لائحة بالكلمات المعاكسة. يساعد المعلِّم على إيجاد وتحديد المفاهيم التي عبر عنها التلامذة بشكل مَثَل أو ما شابه، ولم يستطيعوا تسميتها (صعوبة التجريد)، ثم توضع اللائحة على اللوح. ممكن أن نحصل على هكذا جدول :

الحرية اللاحرية

التحرر – التحرير – العفوية – الاندفاع – اللاحتمية -الإرادة – العقل – الخيار - القرار- الاستقلال – السيادة- اليمقراطية- الحق- القدرة- المسموح – الإمكانية- الليبرالية

العبودية – الاحتلال – السجن – الحتمية -القدرية – الضرورة- الجهل – الخضوع – الأهواء – التدخل الخارجي- النظام الشمولي- الممنوع – القانون – النظام- المحرّم- الاشتراكية

ومن ثم القيام بالتفريق بين الكلمات بالقدر الممكن وبشكل أوّلي ، يتبع ذلك صياغة مصحّحة من قبل المعلِّم لتعريف الكلمات الصعبة لكي تصبح إمكانية التفريق أسهل (الحتمية / القدرية- الضرورة – التحرر/التحرير- الليبرالية/الاشتراكية ...)، هل من قاسم مشترك يتضمنه جدول مفردات اللاحرية ؟ أليست تعبر بشكل من الأشكال عن أنواع مختلفة من الضغوطات والقيود؟ يعود التلامذة لمحاولة التفريق بين القيود الخارجية والقيود الداخلية. ونصل إلى القول بأن الحرية هي في عدم وجود ضغوط أو قيود تمنعنا من فعل ما نريد. وبعدها محاولة تحديد للحرية بالصيغة الإيجابية انطلاقا من الكلمات التي أوردوها. مثلاً: " الحرية هي حق الاختيار"، " الحرية هي السيطرة على الجهل والأهواء"، "الحرية هي الاستقلال عن الآخر"، " الحرية هي التحرّر من العبودية "،....بعد إعطاء هذه التحديدات، يمكننا التساؤل : هل يصح دائمًا وضع الحرية بمواجهة القانون أو الحتمية، أو هل يجب أن نما هي بين الحرية والليبرالية، أو هل الاستقلال يؤمن الحرية الفردية؟ أو هل العفوية والاندفاع هما سمة حقيقية للحرية؟

نلاحظ ، بعد  هذا البحث عن معاني كلمة الحرية، وبعد طرح كل هذه ألاسئلة، أننا أقحمنا مفهوم الحرية في مجالات مختلفة ، هذا لأن حقول استخدام كلمة الحرية متعددة: حقل ميتافيزيقي ، أخلاقي ، نفسي، إجتماعي ، قضائي ، سياسي ، إلخ ... لكننا لا نعرف ما إذا كانت الحرية تشتغل بالطريقة نفسها في كل هذه الحقول  ، أو ما إذا كان باستطاعتنا إلغاء أحد المعاني المختلفة لها عند تعاطينا مع وضعية حياتية حقيقية المفترض أن تمارس فيها حريتنا . سنتعاطى مع هذه المعاني بما يخدم فهمنا للعلاقة بين الحرية والمسؤولية .

نسأل التلامذة هل يمكنهم تصوّر إشكالية تتقاطع مع شبكة المفاهيم الواردة في الجدول السابق ، ربما يتوصلون بمساعدة المعلِّم ... هل يستطيع الإنسان الانعتاق من كل ما يقيّده؟  وتطرح إشكالية ثانية : هل الحتمية تلغي الحرية ؟ وإذا كانت الحرية هي شرط أساسي للمسؤولية ، هل الحتمية تلغي المسؤولية ؟

 

 هل الحتمية تلغي الحرية؟

أذا كانت افعالنا تخضع لمبدأ الحتمية ، فبماذا نحن احرارا"؟ وكيف يمكن الكلام على مسؤولية أفعالنا؟

هنا أيضًا يطلب إلى التلامذة انطلاقًا من أقوال بعض الفلاسفة في هذا السياق: قراءة، تحليل، استخراج المعاني، الأفكار، الأطروحات المختلفة واستثمارها لحل المشكلة المطروحة. ( عمل مجموعات من 2 – توزع  عليها الأقوال بطريقة متوازية – نصف ساعة- عرض عمل كل مجموعة – وضع الأفكار دائمًا على اللوح – مناقشة في صحة المعلومة وفي ملاءمة الجواب للسؤال ) وبعدها يقوم المعلِّم بالتوليفة والخلاصة. 

" إنه من البديهي جدًا امتلاكنا لإرادة حرة تعطي موافقتها أو لا تعطيها متى تشاء ، وأن تحسب كواحدة من عامة البديهيات".  ديكارت.

" إن السبب الذي أورده ديكارت لإثبات استقلالية أعمالنا الحرة بناء على شعورٍ داخلي مزعوم، لا قوة له. لا يمكننا أن نشعر باستقلاليتنا بشكل صحيح ولا أن ندرك دائمًا الأسباب الكامنة وراء قراراتنا والتي غالبًا ما تكون غير منظورة  ...".لايبنتز

" إن الإرادة النابعة من الداخل هي المبدأ الأوحد لكل القوانين الأخلاقية والواجبات التي تلتزم بها؛ وعلى العكس فإن الإرادة الخاضعة لإلزامات خارجية للخيار الحر, ليس فقط أنها لا تشكل قاعدة للإلزام، إنما تتعارض مع مبدأ الإلزام وأخلاقية الإرادة ".  كانت .

" إذًا ، نكون أحرارًا عندما تصدر أفعالنا من شخصيتنا الكلية، عندما تعبر عنها وعندما تكون بتشابه غير موصوف معها، كالذي نشاهده أحيانًا بين الفنان وآثاره ".برغسون .

" إن الأشياء التي تتعلق بنا هي بطبيعتها حرة، والتي لا تتعلق بنا، فهي عاجزة، عبدة، غريبة عنا ". إبيكتيت .

" نعطي صفة الحر لشيء ما موجود ويعمل فقط من خلال ضرورة طبيعته ..." سبينوزا .

"من هو سيّد نفسه يعمل بناء على خيار تمّت مذاكرته، لا تحت نزوة الرغبة ".  أرسطو .

" إن حرية الإرادة لا تعني إذًا شيئًا آخر سوى الخيار بناء على وعي الوضعية". أنغلز .

" إن الذين يعتقدون أنهم يتكلمون أو يصمتون أو يفعلون أي شيء كان، انطلاقًا من قرار ذاتي حرّ، فهم يتوهّمون". سبينوزا.

"محتّم كليًّا وحرّ كليًّا، مجبر على تحمّل أعباء الحتمية لكي ارفع عاليًا أهداف حريّتي، أن أجعل من هذه الحتمية التزامًا إضافيًّا ". سارتر.

"لأنه، إذا كنت دائمًا على علم بما هو حق وما هو خير بشكل واضح ، فلا لزوم للعناء في المذاكرة من أجل إعطاء حكم أو خيار عليّ اتخاذه، وأكون بذلك حرًّا كلياً. ديكارت .

"... إلا أن الحرية لا تقتضي عدم تحمل أي شيء ، إنما أن نضع روحنا فوق المظالم ، وأن نجعل من أنفسنا المصدر الأوحد لأفراحنا ، وأن نقيم انقطاعًا مع العناصر الخارجية، لتفادي الحياة المضطربة لذاك الذي يخشى السنة وضحك واهانات الآخرين في أية ساعة وفي أي ظرف ..." سينيك

"...ولسوف يدحض جنون العظمة البشري مرة ثالثة بما يتم في أيامنا من بحث نفساني يروم أن يبين للأنا أنه ليس سيدًا حتى في بيته ، بل وأن عليه أن يقنع بمعلومات قليلة و جزئية عما يحدث ، خارج وعيه ، في حياته النفسية ".  فرويد

" يمكننا دراسة ما مضى ، لكن ما مضى قد انتهى ، وانطلاقًا من ذلك ، ليس بإمكاننا التكهن بأي شيء ، واللحاق بالتيار ؛ إنما علينا ببساطة العمل ومحاولة جعل الأشياء أفضل. فاللحظة الحاضرة هي هذه التي ينتهي عندها التاريخ ، وليس بإمكاننا على الإطلاق رؤية المستقبل معتقدين إمكانية توقعه بفضل التيار. وكذلك لا نستطيع أن نقول لأنفسنا: فقد عرفت دومًا أن النهر سوف يمر من هنا". بوبر

" إن جدلية العقل تنبع مما سبق. لأنه بالنسبة للإرادة ، تبدو الحرية المرافقة لها متناقضة مع الضرورة الطبيعية  وعند هذا التقاطع، يجد العقل في نيته التأملية، طريق الضرورة الطبيعية مفتوحة وقابلة لاستمرارية الحياة أكثر من طريق الحرية، وبالرغم من ذلك، ففي النية العملية للعقل، يصبح طريق الحرية هو الوحيد الذي يمكننا من استخدام العقل في سلوكنا. لهذا ، فإنه يستحيل سواء على الفلسفة الأكثر إرهافًا أو على العقل الإنساني الأكثر شيوعًا تغييب الحرية عبر مسالك عقلانية ".  كانت

هل يمكنهم رؤية علاقة ما بين هذه التحديدات، أوجه شبه أو اختلاف في تلك التصوّرات حول مفهوم الحرية ؟ يطلب تصنيف أولي . ربما يلاحظون أن هذه التحديدات تعطي بغالبيتها مواقف من تصوّرهم الأول الذي أعطوه عن الحرية، ولكن سرعان ما سنكتشف ونحن نحلل أنه هنالك فروقات كثيرة  وتمايزات، عدا أن هنالك مفاهيم جديدة يجب شرحها لفهم التمايز والتشابه والاختلاف ( الإرادة الحرة –الضرورة ...)  ويتضح لنا مجددًا التلازم ا بين الأشكلة والأفهمة. وبعد التحليل والنقاش ، يمكن الوصول إلى صورة أوضح عن هذه التصورات، ووضعها مبدئيًّا تحت عنوانين ما يضعنا أمام الإشكالية الكبرى المطروحة عن الحرية في كل الفكر الفلسفي ألا وهي العلاقة بين الحرية والحتمية والتي ستقودنا إلى فهم العلاقة بين الحرية والمسؤولية .

نتساءل أولاً، هل إن مبدأ الضرورة الكونية هو مبدا فرضه العقل وأثبتته العلوم أم إنه مقولة ميتافيزيقية ؟ أيًا كان الجواب، فإن الكثير من المفكرين أقروا به ، فكانت الضرورة في الطبيعة ( الرواقيون ) – في إرادة الله – (اللاهوتيون) ، في التاريخ ( هيغل- ماركس) – في العلم ( لابلاس ) – واليوم هنالك إقرار علمي بوجود جزء من اللاحتمية في العالم المادي على أثر اكتشاف الفيزياء الكانتية، من هنا إقرار بوبر باللاحتمية. أما إذا قبلنا بهذا المبدأ وإذا افترضنا أن تفسير الأحداث الطبيعية بمبدأ السببية القائل أن لا نتيجة من دون سبب، وبمبدأ الحتمية القائل إن كل ما يحدث في الكون هو نتيجة لعدة أسباب متصلة بعضها ببعض وفقًا لقوانين ثابتة ومعروفة ، قد ينسحب على تفسير كل الافعال والخيارات الشخصية ، لأنه نادرًا ما تكون أفعالنا من دون سبب واعتبرناها خاضعة  بالتالي لشكل من أشكال الضرورة ، أي أن ما حدث لا يمكن إلا أن يكون ، ألا تصبح عندها الحرية فرضية غير مؤكدة ، فكرة أو وهم؟

فالقبول بالقدرية ينفي أي تأثير لأفعالنا على مجرى الأمور كون الأشياء مرسومة مسبقًا ومكتوبة. اعتبر الفلاسفة الرواقيين (ابيكتيت-سينيك ) أن الطبيعة تخضع لهذا القدر، والأفعال الإنسانية لا تقوى على أي تغيير ، وتصبح الحرية فهم هذا القدر والقبول به .أما القبول بملازمة أفكارنا وإرادتنا ومبدأ الحتمية سيكون ملائمًا أكثر. وهذا ما فعله سبينوزا: لا وجود في روحنا لإرادة مطلقة، حرة ، وأقرت به فلسفة هيغل وماركس التي اعتبرت أن الأفكار والأفعال محكومة بالضرورة التاريخية . فتصبح الحرية في ظل هذه الحتمية الكاملة فهمًا عقلانيًّا لهذه الضرورة وللطبيعة (سبينوزا) مع جعلها طوعًا أداتها الواعية (أنغلز) ،أو الفكرة التي تتحقق عبر التطور (هيغل)، أو النضال المستمر لتحقيقها عند التحرّر الاقتصادي (ماركس).

أما الإقرار  بوجود  إرادة حرة مطلقة تختار من دون سبب (ديكارت- سارتر) فهذا من باب الفرضية النظرية . هل يمكن القبول عمليًّا بوجود الفعل المجاني المفترض، أم أن هذا الفعل هو مجهول الأسباب؟ إن إثبات وجود اللاوعي كان بمثابة تأكيد على وجود حتمية ما في الحياة النفسية (فرويد). وقد حاول كانت حل هذا الإشكال بتمييز عالم الظواهر الطبيعية الذي يخضع لمبدأ الحتمية ، من عالم الحرية الذي ينتمي الى عالم "المعقول"  والذي لا يخضع إلا للقانون الأخلاقي .

إذا افترضنا أن الحرية هي هذه القدرة لإرادتنا في اختيار القانون الذاتي والقانون المشترك  ليمليا علينا أفعالنا ، كما رأينا سابقًا، من دون أن تتحكم فيها كليًّا العوامل الخارجية ،هذه القدرة في اختيار أن نعمل أو لا نعمل ، نكون أمام حرية خاصة بالانسان تجعل منه صانع أفعاله ومسؤولاً عنها ، يتحمل وزر أعبائها ، وهكذا يتجلى لنا ككائن حر يفوق سائر الكائنات ، ولكن هل تتماشى هذه الميزة مع مبدأ السببة ؟ هل نتوهم عندما نقول إننا اخترنا بحرية هذه الإمكانية أو تلك ؟ ماذا لو كانت هنالك أسباب لخياراتنا ربما نجهلها ونعتقد أننا اخترنا بملء إرادتنا ؟ ماذا عندها عن مسؤولية أفعالنا ؟ هل يمكننا الخروج من هذا الخيار المستحيل بين الحرية الملازمة لكرامتنا وبين مبدأ السببية الذي يتيح لنا فهم العالم والفعل فيه.

وأخيرًا، إذا طبقت التفسيرات والتوقعات، المبنية انطلاقًا من العلاقات بين السبب والنتيجة، على الأفعال الإنسانية، فهل يعني ذلك أن الفرد يتلقى الحتميات التي أوضحت العلوم الإنسانية تأثيرها عليها( وراثية، نفسية، اجتماعية، ثقافية ...)، من دون أن يستطيع شيئًا حيالها؟ عندما نتحدّث عن حتمية العلاقة بين السبب والنتيجة، هذا لا يعني إننا لا نستطيع شيئًا حيالهما، ربما تلافينا النتيجة إذا عملنا على السبب. هذا التصوّر لوجود الحتمية من دون ملازمتها للضرورة ، يمكن ان يتلاءم مع شكل من أشكال الحرية. يقول برغسون في هذا الإطار أن الإنسان  يتلقّى كل التأثيرات الخارجية والداخلية ، وما ان يجعلها مندمجة مع ذاته  ،تأخذ طابع الأنا الحقيقي المعبر عن الكيان والهوية الذاتية ، يصبح حرًّا عبر فعله المعبر لكينونته .

 

كيف نفهم المسؤولية؟

ما يهمنا هنا  أولاً هو ما يؤسس لمفهوم المسؤولية . هل نعتبر مسؤولاً من لم يكن لديه الخيار بين ارتكاب عمل مشين وعدم ارتكابه ؟ إننا لا نحكم على المريض النفسى ولا على الطفل  ولا  على الحيوان بأنهم مسؤولون عن أعمالهم، ونعطي أسبابًا تخفيفية لمن كانت قدراته التمييزية مشوشة. يبدو أن امكانية الخيار بين الخير والشر هي شرط أساسي لهذه المسؤولية . وهذا ما يعيدنا إلى مسألة الحرية.

ألا يجب لكي نكون أحرارًا ومسؤولين عن أفعالنا أن يكون لدينا الخيار بين احتمالات عدة  وأن تكون هذه الخيارات غير محتّمة ؟ فإذا افترضنا وجود الحرية المطلقة (ديكارت- سارتر) في أن نختار فعل شيء أو عدم فعله، وأن يكون هذا الخيار لا تحكمه سوى إرادتنا، فيمكن عندها نظريًّا أن نختار الشّر، ولكن ألا نميل أكثر  إلى الخيار الآخر عندما يكون واضحًا لنا ما هو خير وما هو صح ؟ونختار بملء إرادتنا ما يمليه علينا القانون الأخلاقي الصادر عن العقل (كانت). ربما يكون الدافع الاساسي لبعض الفلاسفة في التمسك بفرضية وجود الإرادة الحرة ، هو كونها الشرط الأساسي للمسؤولية ولأخلاقية الإنسان ( كانت- توما الاكويني)، والمعادلة لوجوده (سارتر) وليتحمّل الإنسان أعباء أفعاله.الفيلسوف ديكارت

بالمقابل، إن عدم وجود هذه الإرادة الحرة يقودنا منطقيًّا إلى إبعاد فكرة المسؤولية، فيصبح المجرم دائمًا تحت وطأة مسببات جريمته ويحظى بالأسباب التخفيفية والمسامحة على فعلته .فكبف لنا أن نلائم بين الحتمية والمسؤولية؟ ربما يجدر بنا البحث عن مصادر أخرى للحرية  غير هذه الإمكانية الحرة للخيار بين الخير والشر والتي نجهل منبعها لغاية الآن، فنبحث في تأثير الثقافة، في التربية، في المجتمع، في الاختبار السياسي لهذه الحرية. هتالك ظروف تساعد على نشوء وتطوير الحرية لدى الإنسان من دون أن تختزلها، لذا سنرى دائمًا أناسًا أحرارًا أكثر من غيرهم ، فالحرية عبء كبير والمسؤولية عبء أكبر .

يمكن أن نخلص بعد هذا العمل بأنه اذا كانت فكرتنا عن الحرية تعني"أن أفعل ما أريد" ، فمن غير الممكن أن نكون أحرارًا كليًّا. ففي الواقع، توجد عناصر عدة تقلّص من هذه الحرية، وتشمل حتميات عدة تمنعنا من فعل ما نريد.. ربما وقبل أي شئ، يكون فعل القرار الشخصي النابع من الذات، هو أكثر ما يعبّر عن حرية الخيار لدينا ، بالرغم من الحتميات والظروف المختلفة .فالحرية هي في استقلاليتي الذاتية وفي معرفة ما هو حقيقةً خير أو شر ، وأفعل على أساسه  بما يتناسب مع كرامتي وإنسانيتي، ليس فقط تجاه مصالحي الضيقة الذاتية ، إنما تجاه الإنسانية جمعاء، إلى حد أن أعارض القوانين إذا كانت جائرة، أن أتظاهر إذا كانت القضية عادلة، أن أتصدى لأوامر ظالمة، أن أطالب بحق مسلوب، أن أدافع عن مقهور،  أن أقاوم احتلال. الإنسان يأبى إلا أن يكون حرًّا، لكن في الحرية مجازفة ومخاطرة ،  لذا نرى غالبية الناس يتعايشون مع الظروف ويستكينون  داخل عبوديتهم المقنعة ، تاركين تقرير مصيرهم  "للمسؤولين" ، مستقيلين من التزاماتهم الإنسانية ... وإذا لم نفهم أن حريّتنا ملازمة لوجودنا وأن مسؤوليتنا تشمل الإنسانية جمعاء، فنحن في دائرة الخطر ...لا توجد حرية، بل هناك أناس أحرار.  وفي هذا الإطار فقط ، يجب أن تفهم المسؤولية.