ميشال شيحا القضية والرؤية

د. بيار عبده دكاش طبيب ونائب سابقميشال شيحا القضية والرؤية

كيف يمكنني أن أتكلم عن إنسان بهذه المكانة المرموقة - حسبما ترامى إلى مسمعي؛ وأنا لم أعرفه عن قرب، ولم أعاصره، وخفت من أن لا أفيه حقه. لكن المحاولة مستحبة وإن كانت تشبه المغامرة.

أجل. لم يحالفني الحظ بأن ألتقيه من قبل، وأن أتعرف إليه عن كثب، فرحت أفتش عنه في سيرته الذاتية، وفيما كتب فيه وما صدر عنه من مقالات وما أطلقه من آراء؛ فوقفت واجمًا أمام وفرتها، أختصرها بمحطات ثلاث:

 

  • الدستور
  • الرؤية
  • السرّ والصلاة

مدركاً أنني سأثير في هذا الاختيار الغيرة فيما بينها.

  1. الدستور:
  • في وضع الدستور

في سنة 1925 كان ميشال شيحا في لجنة قوامها 13 عضوًا مكلفة بإعداد القانون الأساسي للدستور اللبناني، وفي سنة 1926 شارك إلى جانب بترو طراد وعمر الداعوق في لجنة ثلاثية أوكلت إليها مهمّة وضع مسوَّدة الدستور، والجدير ذكره في هذا السياق أن محفوظات ميشال شيحا تحتوي على المسوَّدة الأصلية للدستور اللبناني، ومختلف التصحيحات المطبوعة على ثلاث مراحل، وهي مستمدة في صيغتها الأولى من الدستور الفرنسي للعام 1875

أما المسوَّدة النهائية فقد أدخل عليها تعديلات، بمبادرة من ميشال شيحا صاحب الفكر الكبير والرؤية الاستباقية والوطنية المجردة عن كل هوى، بوجوب وجود سلطة قوية وثابتة ممثلة بشخص رئيس الجمهورية؛ كما أورد في الدستور مادة لعدم جواز تجديد ولاية رئيس الجمهورية؛ عند انقضاء مدة ولايته. وهذا ما لم نتمكن من الحفاظ عليه في الطائف (1989)  ونحن نعاني اليوم من هذه البدعة التي تمخض عنها فكر قادة الطوائف في لبنان وهي '' إرساء نظام حكم بثلاثة رؤوس، خلافًا لكل منطق إداري ونظام بيولوجي''. وفي 23 أيار 1926 أعلن هنري دي جوفنيل عن إبرام الدستور اللبناني، وبمجيء العام 1930 دخل الدستور اللبناني حيز التنفيذ.

  • في تعديل الدستور

ليس أبلغ من افتتاحية ميشال شيحا، حول التعديل في عهد فخامة الرئيس بشارة الخوري، التي يندد فيها برغبة 40 نائبًا وأكثر الذين وقّعوا وثيقةً بسريةٍ تامة واحتفظوا بها في أحد الأدراج بانتظار صدورها إلى العلن.

وقد رفض التعديل من الناحية المبدئية متخطيًا كل الاعتبارات العاطفية والعائلية والمصالح الذاتية مشددًا على التمسك بمصلحة البلاد العليا فيقول: "من المحزن والمؤسف أن يتم التعاطي مع المواد الدستورية والشأن العام بهذه الطريقة، فهذا دليل على تردي الأخلاق السياسية وعلى الحاجة إلى تقويمها".

وهنا تحضرني المقولة: " يللي ما بتتعب عليه الأيادي ما بتحزن عليه القلوب ".

وإليكم الخبر،

أتاني ذات يوم ليس ببعيد إلى عيادتي في مستشفى سانت تريز رجل مسن محني الظهر عالي الجبين يلح بمقابلتي لأمر مهمّ جدًاّ ولو على غير موعد.

فالتقيته وبادرني بالكلام بصوت متهدج! "أنت تعرف يا دكتور بولفار شمعون وترى أشجار الكينا الكبيرة على جانبيه، إنهم يقطعون أغصانها ويحاول الونش اقتلاع بعضها من جذورها، ثم أجهش بالبكاء ولم أعد أفهم ما يتفوه به من كلمات سوى، "أرجوك أن تتصل بمن بيده الأمر لإيقاف هذا التعدي".ثم أضاف:

" منذ خمسين سنة كنت عاملاً بسيطًا وأسهمت مع زملاء لي بزرعها، وأنا أجيء من وقت إلى آخر أتفقدها، وأفرح بأنها تنمو وتكبر وتسابقني، فأنا أسير إلى حتفي بانحنائي يومًا بعد يوم نحو الأرض التي آمل أن يضمني ترابها، أما هي فتنمو شامخة نحو العلا وأشعر بأنني أخلد بوجودها.

أرجوك يا دكتور ساعدني إنهم يقتلعوني معها أرجوك"!!.

وهكذا نرى كهذا المواطن الأمين أن ميشال شيحا رفض المساس بما صنعت يداه فيقول: "هذا الدستور الذي عملت عليه أكثر من أي شخص كان على ما أظن ..... لن أقبل في أن يمس." وفي خلاصة القول: "ليس خطابنا هذا إلا تعبيرًا عن واجبنا الوطني والسياسي، وعن وعي المجتمع. فما نرفضه وما يثير التحفظ ويستدعي الاستنكار اليوم نجاهر به بالفم الملآن. والجميع يقف في صفوفنا اليوم إن جاهرنا، بما ضاقت به نفوسنا، وخرجنا عن صمتنا". فكم نحن اليوم بحاجة إلى أمثاله !!

  1. الرؤية:

في العام 1949 كتب يقولنحن هنا الجيران المباشرون لإسرائيل، لقد نمت على حدودنا نمو زهرة مسخ تحت نور الشمس فلدينا كل الأسباب التي تجعلنا نقلق من المستقبل وأن نرى ما لا يراه الآخرون أبدًا.

قبل أن تشرق الشمس لتضيء على لوحة الزمن المنبسطة أمامنا بماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومن وراء الغمام المتلبد الذي كان ولا يزال يحول دون انقشاع الرؤية، رأى هذا العبقري والمفكر الكبير والبصير المتبصر بعقله الثاقب والنيّر، الخطر القادم والداهم في مشروع قيام إسرائيل الذي وصفه بأنه"أغرب مشروع سياسي في العالم".

وحذّرَ من تداعياته التي ستهدد فلسطين في زرع هذا الجسم الغريب في هذا المشرق الذي يغطّ في سُباتٍ عميق. وحتى إذا استفاق ستسدل على ناظريه شاشة تعمي البصر بالإضافة إلى بصيرته المصابة بالعمى أو بالقصور أو بالشح في عالم يتطور على عد الثواني وعلى مدار الساعة بسرعة تفوق سرعة الصوت، لا بل تنافس سرعة الضوء.

ولم يقتصر تحذيره على اليهود فوجه إلى العرب والأميركيين والبريطانيين، منددًا ومستنكرًا تعهدهم المجنون في إنشاء دولتين وهو قرار غير معقول وغير ممكن التحقيق وشبه مستحيل، وغير قابل للحياة على مرّ السنين ومصيره سيّءِ ومحكوم بالسقوط المحتم لا بل بالزوال بعد أن يفضي إلى حرب دينية ستسهم في زعزعة أسس العالم "وهو مشروع لاستعمار الشرق الأدنى وهنا يلتقي مع شارل مالك الذي يحذّرِ قائلاً: "إن إسرائيل تخطط لوسم عصرنا بالعصر الإسرائيلي كما وسمت العصور في السابق بإمبراطوريات تعاقبت على مدى التاريخ".

ويستغرب مفكرنا الكبير متسائلاً لماذا هذا الخيار الخاطئ، بينما هناك مجالات وبقاع في العالم أفضل وأجمل وأحسن وهي قابلة للبناء والازدهار والهناء والراحة والسلام؟

  1. السر والصلاة

لقد خفي الكثير من دور ميشال شيحا الطليعي المميز بالسليقة. كان عفيف الكف فعفة اليد من طبعه، فهو شاب ذكي ونشيط، وطني ودبلوماسي وسياسي، مثقف وعبقري وصاحب رؤية تكاد تلامس النبوءة؛ تحارُ في وصفه، سمّه ما شئت، فإن كل النعوت والأوصاف تليق به، ولكنها تبقى عاجزة عن أن تفيه حقه، فأتوقف عند واحدة ترضيني، وهي الإنسان اللبناني الأصيل الذي لا تغريه الألقاب ولا تبطره المناصب ولا تستهويه الشهرة.

أنا لا أسعى إلى رفع الغبن عن ميشال شيحا، والتأكيد على دوره في تأسيس الدولة اللبنانية والمساهمة في بنائها والتمسك بدستورها، بقدر ما أود:

أولاً: أن أسلط الضوء على فارس لبناني أصيل وحارس غيور للديمقراطية، مؤمن بالحرية والروحانية، وبما للتسامح والاستقلال من وجه نيّر وعذب ونبيل يبشر بأن لبنان هو مهد الحضارات والأديان ويستحق أن يستضيفها كمركز عالمي للحوار تسكنه المحبة والسلام بدلاً من الحروب والفقر والدمار.

وثانيا: إلى إثارة جانب مغمور من حياته الروحية وحبه للشعر والتبشير به والتأكيد على أنه وليد الحرية، ويلتقي هنا مع فؤاد افرام البستاني القائل: "إن ألوف الأطنان من الحبر والورق لا تولد بيت شعر واحد".

أما ميشال شيحا حامل القضية اللبنانية وصاحب الرؤية الخارقة، فإنه يصرح بأن الشعر وليد الحرية وهو وليد أوجاعنا أكثر من أفراحنا، هو في الشمس والسكون في الفجر والليل. الشعر يُرجع الإنسان إلى قدره ويغمره سكونًا وحماسًا، والحكومات تجهل نعمه. ثم يضيف قائلاً وقد أخذته نشوة الإبداع:

"الشعر يبلغ الألوهية في ذاتها، إنه سرّ وصلاة".

بوركت ذكراه وليكن القدوة في محاولتنا لإنقاذ لبنان.

ميشال شيحا القضية والرؤية

د. بيار عبده دكاش طبيب ونائب سابقميشال شيحا القضية والرؤية

كيف يمكنني أن أتكلم عن إنسان بهذه المكانة المرموقة - حسبما ترامى إلى مسمعي؛ وأنا لم أعرفه عن قرب، ولم أعاصره، وخفت من أن لا أفيه حقه. لكن المحاولة مستحبة وإن كانت تشبه المغامرة.

أجل. لم يحالفني الحظ بأن ألتقيه من قبل، وأن أتعرف إليه عن كثب، فرحت أفتش عنه في سيرته الذاتية، وفيما كتب فيه وما صدر عنه من مقالات وما أطلقه من آراء؛ فوقفت واجمًا أمام وفرتها، أختصرها بمحطات ثلاث:

 

  • الدستور
  • الرؤية
  • السرّ والصلاة

مدركاً أنني سأثير في هذا الاختيار الغيرة فيما بينها.

  1. الدستور:
  • في وضع الدستور

في سنة 1925 كان ميشال شيحا في لجنة قوامها 13 عضوًا مكلفة بإعداد القانون الأساسي للدستور اللبناني، وفي سنة 1926 شارك إلى جانب بترو طراد وعمر الداعوق في لجنة ثلاثية أوكلت إليها مهمّة وضع مسوَّدة الدستور، والجدير ذكره في هذا السياق أن محفوظات ميشال شيحا تحتوي على المسوَّدة الأصلية للدستور اللبناني، ومختلف التصحيحات المطبوعة على ثلاث مراحل، وهي مستمدة في صيغتها الأولى من الدستور الفرنسي للعام 1875

أما المسوَّدة النهائية فقد أدخل عليها تعديلات، بمبادرة من ميشال شيحا صاحب الفكر الكبير والرؤية الاستباقية والوطنية المجردة عن كل هوى، بوجوب وجود سلطة قوية وثابتة ممثلة بشخص رئيس الجمهورية؛ كما أورد في الدستور مادة لعدم جواز تجديد ولاية رئيس الجمهورية؛ عند انقضاء مدة ولايته. وهذا ما لم نتمكن من الحفاظ عليه في الطائف (1989)  ونحن نعاني اليوم من هذه البدعة التي تمخض عنها فكر قادة الطوائف في لبنان وهي '' إرساء نظام حكم بثلاثة رؤوس، خلافًا لكل منطق إداري ونظام بيولوجي''. وفي 23 أيار 1926 أعلن هنري دي جوفنيل عن إبرام الدستور اللبناني، وبمجيء العام 1930 دخل الدستور اللبناني حيز التنفيذ.

  • في تعديل الدستور

ليس أبلغ من افتتاحية ميشال شيحا، حول التعديل في عهد فخامة الرئيس بشارة الخوري، التي يندد فيها برغبة 40 نائبًا وأكثر الذين وقّعوا وثيقةً بسريةٍ تامة واحتفظوا بها في أحد الأدراج بانتظار صدورها إلى العلن.

وقد رفض التعديل من الناحية المبدئية متخطيًا كل الاعتبارات العاطفية والعائلية والمصالح الذاتية مشددًا على التمسك بمصلحة البلاد العليا فيقول: "من المحزن والمؤسف أن يتم التعاطي مع المواد الدستورية والشأن العام بهذه الطريقة، فهذا دليل على تردي الأخلاق السياسية وعلى الحاجة إلى تقويمها".

وهنا تحضرني المقولة: " يللي ما بتتعب عليه الأيادي ما بتحزن عليه القلوب ".

وإليكم الخبر،

أتاني ذات يوم ليس ببعيد إلى عيادتي في مستشفى سانت تريز رجل مسن محني الظهر عالي الجبين يلح بمقابلتي لأمر مهمّ جدًاّ ولو على غير موعد.

فالتقيته وبادرني بالكلام بصوت متهدج! "أنت تعرف يا دكتور بولفار شمعون وترى أشجار الكينا الكبيرة على جانبيه، إنهم يقطعون أغصانها ويحاول الونش اقتلاع بعضها من جذورها، ثم أجهش بالبكاء ولم أعد أفهم ما يتفوه به من كلمات سوى، "أرجوك أن تتصل بمن بيده الأمر لإيقاف هذا التعدي".ثم أضاف:

" منذ خمسين سنة كنت عاملاً بسيطًا وأسهمت مع زملاء لي بزرعها، وأنا أجيء من وقت إلى آخر أتفقدها، وأفرح بأنها تنمو وتكبر وتسابقني، فأنا أسير إلى حتفي بانحنائي يومًا بعد يوم نحو الأرض التي آمل أن يضمني ترابها، أما هي فتنمو شامخة نحو العلا وأشعر بأنني أخلد بوجودها.

أرجوك يا دكتور ساعدني إنهم يقتلعوني معها أرجوك"!!.

وهكذا نرى كهذا المواطن الأمين أن ميشال شيحا رفض المساس بما صنعت يداه فيقول: "هذا الدستور الذي عملت عليه أكثر من أي شخص كان على ما أظن ..... لن أقبل في أن يمس." وفي خلاصة القول: "ليس خطابنا هذا إلا تعبيرًا عن واجبنا الوطني والسياسي، وعن وعي المجتمع. فما نرفضه وما يثير التحفظ ويستدعي الاستنكار اليوم نجاهر به بالفم الملآن. والجميع يقف في صفوفنا اليوم إن جاهرنا، بما ضاقت به نفوسنا، وخرجنا عن صمتنا". فكم نحن اليوم بحاجة إلى أمثاله !!

  1. الرؤية:

في العام 1949 كتب يقولنحن هنا الجيران المباشرون لإسرائيل، لقد نمت على حدودنا نمو زهرة مسخ تحت نور الشمس فلدينا كل الأسباب التي تجعلنا نقلق من المستقبل وأن نرى ما لا يراه الآخرون أبدًا.

قبل أن تشرق الشمس لتضيء على لوحة الزمن المنبسطة أمامنا بماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومن وراء الغمام المتلبد الذي كان ولا يزال يحول دون انقشاع الرؤية، رأى هذا العبقري والمفكر الكبير والبصير المتبصر بعقله الثاقب والنيّر، الخطر القادم والداهم في مشروع قيام إسرائيل الذي وصفه بأنه"أغرب مشروع سياسي في العالم".

وحذّرَ من تداعياته التي ستهدد فلسطين في زرع هذا الجسم الغريب في هذا المشرق الذي يغطّ في سُباتٍ عميق. وحتى إذا استفاق ستسدل على ناظريه شاشة تعمي البصر بالإضافة إلى بصيرته المصابة بالعمى أو بالقصور أو بالشح في عالم يتطور على عد الثواني وعلى مدار الساعة بسرعة تفوق سرعة الصوت، لا بل تنافس سرعة الضوء.

ولم يقتصر تحذيره على اليهود فوجه إلى العرب والأميركيين والبريطانيين، منددًا ومستنكرًا تعهدهم المجنون في إنشاء دولتين وهو قرار غير معقول وغير ممكن التحقيق وشبه مستحيل، وغير قابل للحياة على مرّ السنين ومصيره سيّءِ ومحكوم بالسقوط المحتم لا بل بالزوال بعد أن يفضي إلى حرب دينية ستسهم في زعزعة أسس العالم "وهو مشروع لاستعمار الشرق الأدنى وهنا يلتقي مع شارل مالك الذي يحذّرِ قائلاً: "إن إسرائيل تخطط لوسم عصرنا بالعصر الإسرائيلي كما وسمت العصور في السابق بإمبراطوريات تعاقبت على مدى التاريخ".

ويستغرب مفكرنا الكبير متسائلاً لماذا هذا الخيار الخاطئ، بينما هناك مجالات وبقاع في العالم أفضل وأجمل وأحسن وهي قابلة للبناء والازدهار والهناء والراحة والسلام؟

  1. السر والصلاة

لقد خفي الكثير من دور ميشال شيحا الطليعي المميز بالسليقة. كان عفيف الكف فعفة اليد من طبعه، فهو شاب ذكي ونشيط، وطني ودبلوماسي وسياسي، مثقف وعبقري وصاحب رؤية تكاد تلامس النبوءة؛ تحارُ في وصفه، سمّه ما شئت، فإن كل النعوت والأوصاف تليق به، ولكنها تبقى عاجزة عن أن تفيه حقه، فأتوقف عند واحدة ترضيني، وهي الإنسان اللبناني الأصيل الذي لا تغريه الألقاب ولا تبطره المناصب ولا تستهويه الشهرة.

أنا لا أسعى إلى رفع الغبن عن ميشال شيحا، والتأكيد على دوره في تأسيس الدولة اللبنانية والمساهمة في بنائها والتمسك بدستورها، بقدر ما أود:

أولاً: أن أسلط الضوء على فارس لبناني أصيل وحارس غيور للديمقراطية، مؤمن بالحرية والروحانية، وبما للتسامح والاستقلال من وجه نيّر وعذب ونبيل يبشر بأن لبنان هو مهد الحضارات والأديان ويستحق أن يستضيفها كمركز عالمي للحوار تسكنه المحبة والسلام بدلاً من الحروب والفقر والدمار.

وثانيا: إلى إثارة جانب مغمور من حياته الروحية وحبه للشعر والتبشير به والتأكيد على أنه وليد الحرية، ويلتقي هنا مع فؤاد افرام البستاني القائل: "إن ألوف الأطنان من الحبر والورق لا تولد بيت شعر واحد".

أما ميشال شيحا حامل القضية اللبنانية وصاحب الرؤية الخارقة، فإنه يصرح بأن الشعر وليد الحرية وهو وليد أوجاعنا أكثر من أفراحنا، هو في الشمس والسكون في الفجر والليل. الشعر يُرجع الإنسان إلى قدره ويغمره سكونًا وحماسًا، والحكومات تجهل نعمه. ثم يضيف قائلاً وقد أخذته نشوة الإبداع:

"الشعر يبلغ الألوهية في ذاتها، إنه سرّ وصلاة".

بوركت ذكراه وليكن القدوة في محاولتنا لإنقاذ لبنان.

ميشال شيحا القضية والرؤية

د. بيار عبده دكاش طبيب ونائب سابقميشال شيحا القضية والرؤية

كيف يمكنني أن أتكلم عن إنسان بهذه المكانة المرموقة - حسبما ترامى إلى مسمعي؛ وأنا لم أعرفه عن قرب، ولم أعاصره، وخفت من أن لا أفيه حقه. لكن المحاولة مستحبة وإن كانت تشبه المغامرة.

أجل. لم يحالفني الحظ بأن ألتقيه من قبل، وأن أتعرف إليه عن كثب، فرحت أفتش عنه في سيرته الذاتية، وفيما كتب فيه وما صدر عنه من مقالات وما أطلقه من آراء؛ فوقفت واجمًا أمام وفرتها، أختصرها بمحطات ثلاث:

 

  • الدستور
  • الرؤية
  • السرّ والصلاة

مدركاً أنني سأثير في هذا الاختيار الغيرة فيما بينها.

  1. الدستور:
  • في وضع الدستور

في سنة 1925 كان ميشال شيحا في لجنة قوامها 13 عضوًا مكلفة بإعداد القانون الأساسي للدستور اللبناني، وفي سنة 1926 شارك إلى جانب بترو طراد وعمر الداعوق في لجنة ثلاثية أوكلت إليها مهمّة وضع مسوَّدة الدستور، والجدير ذكره في هذا السياق أن محفوظات ميشال شيحا تحتوي على المسوَّدة الأصلية للدستور اللبناني، ومختلف التصحيحات المطبوعة على ثلاث مراحل، وهي مستمدة في صيغتها الأولى من الدستور الفرنسي للعام 1875

أما المسوَّدة النهائية فقد أدخل عليها تعديلات، بمبادرة من ميشال شيحا صاحب الفكر الكبير والرؤية الاستباقية والوطنية المجردة عن كل هوى، بوجوب وجود سلطة قوية وثابتة ممثلة بشخص رئيس الجمهورية؛ كما أورد في الدستور مادة لعدم جواز تجديد ولاية رئيس الجمهورية؛ عند انقضاء مدة ولايته. وهذا ما لم نتمكن من الحفاظ عليه في الطائف (1989)  ونحن نعاني اليوم من هذه البدعة التي تمخض عنها فكر قادة الطوائف في لبنان وهي '' إرساء نظام حكم بثلاثة رؤوس، خلافًا لكل منطق إداري ونظام بيولوجي''. وفي 23 أيار 1926 أعلن هنري دي جوفنيل عن إبرام الدستور اللبناني، وبمجيء العام 1930 دخل الدستور اللبناني حيز التنفيذ.

  • في تعديل الدستور

ليس أبلغ من افتتاحية ميشال شيحا، حول التعديل في عهد فخامة الرئيس بشارة الخوري، التي يندد فيها برغبة 40 نائبًا وأكثر الذين وقّعوا وثيقةً بسريةٍ تامة واحتفظوا بها في أحد الأدراج بانتظار صدورها إلى العلن.

وقد رفض التعديل من الناحية المبدئية متخطيًا كل الاعتبارات العاطفية والعائلية والمصالح الذاتية مشددًا على التمسك بمصلحة البلاد العليا فيقول: "من المحزن والمؤسف أن يتم التعاطي مع المواد الدستورية والشأن العام بهذه الطريقة، فهذا دليل على تردي الأخلاق السياسية وعلى الحاجة إلى تقويمها".

وهنا تحضرني المقولة: " يللي ما بتتعب عليه الأيادي ما بتحزن عليه القلوب ".

وإليكم الخبر،

أتاني ذات يوم ليس ببعيد إلى عيادتي في مستشفى سانت تريز رجل مسن محني الظهر عالي الجبين يلح بمقابلتي لأمر مهمّ جدًاّ ولو على غير موعد.

فالتقيته وبادرني بالكلام بصوت متهدج! "أنت تعرف يا دكتور بولفار شمعون وترى أشجار الكينا الكبيرة على جانبيه، إنهم يقطعون أغصانها ويحاول الونش اقتلاع بعضها من جذورها، ثم أجهش بالبكاء ولم أعد أفهم ما يتفوه به من كلمات سوى، "أرجوك أن تتصل بمن بيده الأمر لإيقاف هذا التعدي".ثم أضاف:

" منذ خمسين سنة كنت عاملاً بسيطًا وأسهمت مع زملاء لي بزرعها، وأنا أجيء من وقت إلى آخر أتفقدها، وأفرح بأنها تنمو وتكبر وتسابقني، فأنا أسير إلى حتفي بانحنائي يومًا بعد يوم نحو الأرض التي آمل أن يضمني ترابها، أما هي فتنمو شامخة نحو العلا وأشعر بأنني أخلد بوجودها.

أرجوك يا دكتور ساعدني إنهم يقتلعوني معها أرجوك"!!.

وهكذا نرى كهذا المواطن الأمين أن ميشال شيحا رفض المساس بما صنعت يداه فيقول: "هذا الدستور الذي عملت عليه أكثر من أي شخص كان على ما أظن ..... لن أقبل في أن يمس." وفي خلاصة القول: "ليس خطابنا هذا إلا تعبيرًا عن واجبنا الوطني والسياسي، وعن وعي المجتمع. فما نرفضه وما يثير التحفظ ويستدعي الاستنكار اليوم نجاهر به بالفم الملآن. والجميع يقف في صفوفنا اليوم إن جاهرنا، بما ضاقت به نفوسنا، وخرجنا عن صمتنا". فكم نحن اليوم بحاجة إلى أمثاله !!

  1. الرؤية:

في العام 1949 كتب يقولنحن هنا الجيران المباشرون لإسرائيل، لقد نمت على حدودنا نمو زهرة مسخ تحت نور الشمس فلدينا كل الأسباب التي تجعلنا نقلق من المستقبل وأن نرى ما لا يراه الآخرون أبدًا.

قبل أن تشرق الشمس لتضيء على لوحة الزمن المنبسطة أمامنا بماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومن وراء الغمام المتلبد الذي كان ولا يزال يحول دون انقشاع الرؤية، رأى هذا العبقري والمفكر الكبير والبصير المتبصر بعقله الثاقب والنيّر، الخطر القادم والداهم في مشروع قيام إسرائيل الذي وصفه بأنه"أغرب مشروع سياسي في العالم".

وحذّرَ من تداعياته التي ستهدد فلسطين في زرع هذا الجسم الغريب في هذا المشرق الذي يغطّ في سُباتٍ عميق. وحتى إذا استفاق ستسدل على ناظريه شاشة تعمي البصر بالإضافة إلى بصيرته المصابة بالعمى أو بالقصور أو بالشح في عالم يتطور على عد الثواني وعلى مدار الساعة بسرعة تفوق سرعة الصوت، لا بل تنافس سرعة الضوء.

ولم يقتصر تحذيره على اليهود فوجه إلى العرب والأميركيين والبريطانيين، منددًا ومستنكرًا تعهدهم المجنون في إنشاء دولتين وهو قرار غير معقول وغير ممكن التحقيق وشبه مستحيل، وغير قابل للحياة على مرّ السنين ومصيره سيّءِ ومحكوم بالسقوط المحتم لا بل بالزوال بعد أن يفضي إلى حرب دينية ستسهم في زعزعة أسس العالم "وهو مشروع لاستعمار الشرق الأدنى وهنا يلتقي مع شارل مالك الذي يحذّرِ قائلاً: "إن إسرائيل تخطط لوسم عصرنا بالعصر الإسرائيلي كما وسمت العصور في السابق بإمبراطوريات تعاقبت على مدى التاريخ".

ويستغرب مفكرنا الكبير متسائلاً لماذا هذا الخيار الخاطئ، بينما هناك مجالات وبقاع في العالم أفضل وأجمل وأحسن وهي قابلة للبناء والازدهار والهناء والراحة والسلام؟

  1. السر والصلاة

لقد خفي الكثير من دور ميشال شيحا الطليعي المميز بالسليقة. كان عفيف الكف فعفة اليد من طبعه، فهو شاب ذكي ونشيط، وطني ودبلوماسي وسياسي، مثقف وعبقري وصاحب رؤية تكاد تلامس النبوءة؛ تحارُ في وصفه، سمّه ما شئت، فإن كل النعوت والأوصاف تليق به، ولكنها تبقى عاجزة عن أن تفيه حقه، فأتوقف عند واحدة ترضيني، وهي الإنسان اللبناني الأصيل الذي لا تغريه الألقاب ولا تبطره المناصب ولا تستهويه الشهرة.

أنا لا أسعى إلى رفع الغبن عن ميشال شيحا، والتأكيد على دوره في تأسيس الدولة اللبنانية والمساهمة في بنائها والتمسك بدستورها، بقدر ما أود:

أولاً: أن أسلط الضوء على فارس لبناني أصيل وحارس غيور للديمقراطية، مؤمن بالحرية والروحانية، وبما للتسامح والاستقلال من وجه نيّر وعذب ونبيل يبشر بأن لبنان هو مهد الحضارات والأديان ويستحق أن يستضيفها كمركز عالمي للحوار تسكنه المحبة والسلام بدلاً من الحروب والفقر والدمار.

وثانيا: إلى إثارة جانب مغمور من حياته الروحية وحبه للشعر والتبشير به والتأكيد على أنه وليد الحرية، ويلتقي هنا مع فؤاد افرام البستاني القائل: "إن ألوف الأطنان من الحبر والورق لا تولد بيت شعر واحد".

أما ميشال شيحا حامل القضية اللبنانية وصاحب الرؤية الخارقة، فإنه يصرح بأن الشعر وليد الحرية وهو وليد أوجاعنا أكثر من أفراحنا، هو في الشمس والسكون في الفجر والليل. الشعر يُرجع الإنسان إلى قدره ويغمره سكونًا وحماسًا، والحكومات تجهل نعمه. ثم يضيف قائلاً وقد أخذته نشوة الإبداع:

"الشعر يبلغ الألوهية في ذاتها، إنه سرّ وصلاة".

بوركت ذكراه وليكن القدوة في محاولتنا لإنقاذ لبنان.