اللُّغة العَرَبيَّة بين الأمس واليوم

صورة للدكتور ميخائيل مسعود

في نشأة اللّغة العربيّة 

اللُّغة

اللُّغة، في الأصل، وسيلة التّخاطب والتّفاهم بين جماعة من النّاس.

وهي « تعبّر عن واقع الفئة النّاطقة بها، وطبعها، ونفسيّتها، وعقليّتها، ومُناخها الاجتماعيّ والتاريخيّ»(1).

وأفضل ما في اللّغة أنّها تميّز الإنسان، كمخلوق ناطق، عمّا سواه من المخلوقات.

ذهب بعضهم، في نشأة اللّغة العربيّة، مذاهب شتّى، لا مجال لذكرها هنا(2) فهي تهّم الدّراسين المتخصّصين أكثر من المدرّسين والتلامذة، وأكثر من قرّاء «المجلّة التربويّة».

لأسباب كثيرة، ربط المؤرّخون اللّغة العربيّة بـ «عدنان» و« قحطان» (3) ... ونسبها كلّ فريق إلى نفسه، أو إلى جماعته.

وفضّل المتأخّرون منهم تسميتها بلغة قريش، أو لغة مكّة؛ لِمَا اكتسبته «قريش» و«مكّة» من مكانة دينيّة سياسيّة...

« ومهما يكن من أمر الأسماء التي سميّت بها اللّغة العربيّة - «عدنانيَّة»، قحطانيَّة، «مُضَريَّة»، «قريشيّة»، «مكيةّ»، «نجديّة»، «حجازيّة» – فإنّ دلالتها واحدة؛ هي اللّغة التي وصلت إلينا، والتي نعرفها باللّغة العربيّة الفصحى(4).

لغة لكلّ الناس

منذ أن وجد الأعراب أنفسهم قبائل تعيش على الغزو، والرعي،  والثأر... وتختلف في اللهجات، قامت دويلات حضاريّة، في مقدّمتها دولة الأنباط .

كانت حضارة الأنباط ساميّة في ديانتها ، يونانيّة – رومانيّة في هندستها، آراميّة في كتابتها، وعربيّة في لغتها(5).

والأبجديّة العربيّة قد انحدرت من الحروف النبطيّة مباشرة، وبقيت، كما كانت، من ثمانية وعشرين حرفًا.

ومهما قيل، في هذه اللّغة، أقوال، يبقى التاريخ شاهدًا على أسواق الأدب، في العصر الذي سبق ظهور الإسلام ؛  وعلى ما عُلِّق، على أستار الكعبة، من مذهّبات، ومعلّقات، وسبع أو عشر طوال.

ومن المعروف أن القَسَاوِسَة والرهبان، كانوا يَعِظُون ويبشرون، في أسواق العرب، ويذكرون البعث والحساب والجنّة والنّار، بلغةٍ عربيّة فصيحة.

مع ظهور الإسلام، تعزّزت اللّغىة العربيّة بالقرآن، والفقه، والحديث، والسنّة ... وبلغت مرتبة القداسة،  بنظر كثرة من الناس.

 ومع الفتوحات العربيّة، وتمازج اللّغات، والتّرجمة والنّقل، على أيدي المسيحيّين السّريان، وتجاوب اللّغة العربيّة مع الألفاظ الأعجميّة – من طريق الاشتقاق- صارت اللّغة العربيّة لغة التأليف، والطبّ، والفلسفة، والعلم، والقانون، والتّجارة، والإدارة، والتنظيم ...

أي أنها صارت لغة عالميّة، في إمبراطوريّة مترامية الأطراف.

ازدهار اللّغة العربيّة

ازدهرت اللّغة العربيّة ازدهارًا غير مسبوق. فبلغت عصرها الذهبيّ في العصرين: العبّاسيّ والأندلسيّ.

وإلى الشعر التجديديّ، والنثر الفنّيّ، والأدب القصصيّ، والفلسفة، والطبّ والرياضيّات... وُضِعَت مؤلفات كثيرة مهمّة في اللّغة ، على وجه الخصوص.

وتجلّى الإشعاع الحضاريّ والعقليّ في مراكز ثقافيّة مهمّة: الكوفة، والبصرة، والمدينة، والحجاز...

انحطاط اللّغة العربيّة

في ظلّ حكم الأتراك العثمانيّين، حلّت النّكبة بالبلدان العربيّة، « وخيّم الجهل على البلاد الحزينة الناطقة بالضّاد »(6)...

« أمّا الآداب العربيّة، على الإجمال، فأصبحت في أحطّ أدوارها، وندر نبوغ العلماء والمفكّرين»..(7)

وقد أعرض الأتراك عن اللّغة العربيّة، وجعلوا التركيّة لغة رسميّة... فهبطت اللّغة، في عهدهم، وفسدت ملكة البلاغة، « وتصلبّت أذهان الأدباء... وران عليهم خمول ، لم يستفيقوا منه إلّا على مدافع
« نابليون»، في مصر، ونواقيس الأديار، في لبنان»(8).

وعلى العموم، انحّطت الحضارة العربيّة إلى الدرك الأسفل، وأَلِفَت الشّعوب هذه الحالة السيّئة ... وفقد الدين روحه، وسادت الخرافات، وأصبح التّصوّف ألعابًا بهلوانيّة، والدّين مظاهر شكليّة...(9)

اللّغة في عصر النّهضة

بعد ركود وتقهقر واستكانة... تفتّح العرب على المفاهيم السياسية والقوميّة.

وبعد انقسامهم، وتخلّفهم، واستبعادهم، كان لا بدّ من توعية؛ في نهضة حديثة، قام بها الأدباء.

ويبدو أنّ يقظة الشّرق، قد أعادت الإحترام إلى اللّغة العربيّة، والقوميّة، ونبذ الطائفيّة، والمواقف الوطنيّة... من طريق الصحف والمطابع والجمعيّات والخطب... وكلّها بلغة عربيّة فصحى.

ومع يقظة الشّرق، كان لبنان نقطة احتكاك مباشر بالثّقافة الغربيّة. وقد برز فيه وفي مصر، روّاد نهضة كبار(10).

ومع الإرساليّات الأجنبيّة الّتي عمّت البلاد، استفاق لبنان على فجر نهضة تعليميّة غير مسبوقة.

ومع أن هذه المدارس كانت تعلّم لغات متعدّدة ، فقد حافظت على اللّغة العربيّة، ولم تتنكّر لها بحالٍ من الأحوال.

بين الأمس واليوم

بالأمس القريب، كانت اللّغة العربيّة في المرتبة الأولى بين موادّ التعليم.

وكان معلّم العربيّة وجه المدرسة، ولسان حال المجتمع، ومحطّ أنظار الناس، وخطيب المناسبات، وحَكَم المباريات...

وكانت كلّ مؤسّسة تعليميّة معروفة، تفاخر بأنّ الأديب الفلانيّ يعلّم اللّغة العربيّة فيها...

فما الّذي جرى اليوم للّغة العربيّة التي تنكّر لها أبناؤها؟!

تعليم اللّغة العربيّة

للمحافظة على اللّغة العربيّة، لا بدّ من تعليمها لأبناء الجيل .

ولتعليم اللّغة العربيّة، لا بدّ من:

  1. تلميذ: فالتلميذ هو الأساس في تلقي العِلم والمعرفة، بشكل واضح وصريح، وهادئ... وهو في النّهاية طالب؛ أي طالب معرفة. 

        والتّلامذة، مجتمعين، هم المجتمع الحضاريّ المنتَظَر، وهم المستقبل الواعِد، وأعمدة الوطن، وكيانه، وأسس بقائه، وتقدّمه، ووجهه الحضاريّ الأبرز...

  1. ومعلّم: فالمعلّم هو الموجّه، والمساعد، والمربّي، وصاحب الرّسالة، والمثال...
  2. وكتاب: أمّا الكتاب، فهو ورق الكتابة، ولوح النّصوص، والكتابات المتقاربة، والقصائد، والحِكَم، والأمثال... وهو مستودع المعرفة، ومرجع العارفين والنّخبة... والمدرسة، هي الّتي يجتمع فيها الثلاثة، لتتمّ في رحابها أرقى عمليّة حضاريّة ، في تاريخ البشريّة: (التّعليم).

وفي رسالة المعلّم، تعليم التّلميذ القراءة والكتابة. وتعلميه أنّ الكتابة أرقى من القراءة، وأسمى، وأكثر قدسيّة.

وأنّ من معاني الكتابة:

نقل الكلمة المكتوبة، من النّطق المسموع، إلى التّفكير المرئيّ. وعليه، يكتب الكاتب نصّه بخطًّ واضح، وأنيقٍ، وعلى أرقى ما يكون من الّذوق. وأنّ هنالك علاقة وثيقة بين اللّغة والحياة، وبين اللفظ والشيء الّذي يدلّ عليه.

في عمليّة تعليم اللّغة، يتحّول المعلّم الناجح إلى مدرسة، وكتاب، ومرجع، وبنك معلومات، ومصدر تشويق... من طريق تعريف التّلامذة على نصوص مختارة، قريبَة من عالَمهم؛ لنخبة من رجال الأدب وحثِّهم على محاكاتهم وتتبّع خطاهم... والإصرار على المطالعة، واقتناء الكتب...

ولا حلّ إلاّ بتعزيز مكانة المطالعة، واختيار كتاب المطالعة، من قِبَل معلّم المادّة المتخصّص.

قال أحد المربّين الكبار:

« في مجالَي التعليم والتربية، نعرف انحرافًا خطيرًا في تدريس اللّغة العربيّة؛ إذ كثيرًا ما نشدّد على علوم اللّغة أكثر من إعادة اللّغة كوسيلة – الأهمّيّة الواجبة. وما يفضح هذا هو إهمالنا للصّرف، واهتمامنا البالغ بالنّحو. عِلْمًا أن اللّغة كانت قبل قواعدها»(11).

حلول واقتراحات(12)

في المجتمع الكبير المصاب بحالة من اللاوعي، والتعصّب الأعمى، والتفتّت، والانحلال... وهدم الحضارت، عن سابق تصوّر وتصميم ... لا بدّ وأن يبقى لبنان في طليعة الدّول المتقدّمة، في هذا الشّرق. وأن تبقى اللّغة العربيّة مصانة فيه.

 ولا يكون هذا إلاّ بما يلي:

  • العمل على إحياء مشروع تجمّع المدارس: مؤسسة تربويّة كبيرة، أو أكثر، في كلّ قضاء.
  • إقفال المدارس التي تتاجر بالعِلم، والكتب، والدفاتر، والمذهبيّة...
  • إلغاء بدعة التّعاقد في المدارس، وإدخال المتعاقدين في ملاك وزارة التربية، بحسب اختصاصاتهم.. وبعد إجراء دورات تدريبيّة لهم.
  • تطوير المناهج التربويّة بشكل دائم ومستمرّ، وتصحيح الأخطاء الواردة في بعض الكتب، ووضع كتاب واحد موّحد للّغة العربيّة...
  • إبعاد التدخّل من أيّ جهة كان عن المدارس: نقل، ومناقلات، وتشكيلات كيفيّة، وفتح مدارس، وتغيير مديرين، وتكبيل أيدي الموظّفين الأكفياء... وإن من الفئة الأولى.
  • تشجيع المطالعة، والنّدوات، والمحاضرات، واستضافة المفكّرين، والأدباء، والمثقّفين... في المدارس.
  • اقتراح إلغاء القواعد من المرحلة الابتدائية على ان يقوم المعلّم والتلامذة بالاستقراء واستنتاج القاعدة من النصّ. ذلك أن وظيفة القواعد هي جعل التلميذ قادرًا على إنشاء نصّ بلغةٍ سليمة وإبعاد التلامذة عن الحفظ الببّغائي. ومن المعروف أن العرب قالوا الشِّعر الفصيح وكتبوا العربيّة  الصحيحة قبل وجود قواعد اللّغة.
  • التركيز على إعداد المعلّم المتمكّن من اللّغة العربيّة، ومتابعة العمل التربويّ: بتفاهم، وتبادل الرأي، والتّوجيه، والتّشجيع، وإجراء مسابقات فصليّة بين التلامذة، وإشراكهم بمجلّة حائط... وللبحث صِلَةٌ، وصِلاتٌ، وصَلاةٌ.

    الحواشي:

  1. جبّور عبد النور: المعجم الأدبيّ، دار العلم للملايين- بيروت.
  2. للباحثين والمتخصّصين، أنظر مقالة: «اللّغة اصطلاح لا توقيف»، المجلة العربيّة للعلوم الإنسانية، الكويت، المجلّد الخامس، العدد 18.
  3. عدنان: هو ابن اسماعيل بن ابراهيم الخليل، وجدّ القبائل الشماليّة.قحطان: أبو قبائل اليمن العربيّة. انقسم بنوه إلى: أهل حَضَر، وأهل وَبَر. وقيل إنّ قحطان هذا، أول من تكلّم العربيّة. فسمّي لذلك يَعْرُب.
  4. أنيس فريحه: في اللّغة العربيّة  وبعض مشكلاتها، دار النهار للنشر.
  5. ميخائيل مسعود:  مسافات حضاريّة ( بحث في البعد العربيّ عن حضارة العصر الحديث) ، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان.
  6. لويس شيخو: شعراء النصرانيّة بعد الإسلام ، بيروت ، المطبعة الكاثوليكليّة 1924.
  7. جرجي زيدان: تاريخ آداب اللّغة العربيّة ( أربعة أجزاء)، بيروت، دار مكتبة الحياة 1978.
  8. بطرس البستاني: أدباء العرب في الجاهليّة وصدر الإسلام ( أربعة أجزاء)، بيروت ، دار الجيل، ودار مارون عبّود 1979.
  9. أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، بيروت- دار الكتاب العربي -1979.
  10. من روّاد النهضة : جرمانوس فرحات- بطرس مبارك- يوسف السمعاني-اسطفان عوّاد– مارون نقّاش-أحمد شوقي–ناصيف اليازجي-حافظ ابراهيم– فوزي المعلوف– بطرس البستاني– أحمد فارس الشدياق-جمال الدين الأفغاني–عبد الرحمن الكواكبي- ابراهيم اليازجي- ولي الدين يكن- سليمان البستاني- أمين الريحاني– جبران خليل جبران ... وغيرهم ، وغيرهم.
  11. الأستاذ المربّي : شفيق حيدر.( من ندوة حول كتاب: العربيّة لغة حياة وتطوّر، للأستاذ: جورج فرج. مركز الصفدي الثقافي- طرابلس).
  12.  أعتذر شديد العذر، بسبب هذا الإيجاز الشديد؛ لأن وضع البلاد وأحوال التّربية والتّعليم، ووضع المدارس والمعلّمين... أمور تمنع من معالجة الموضوع بإسهاب، في هذا الوقت بالذات.

اللُّغة العَرَبيَّة بين الأمس واليوم

صورة للدكتور ميخائيل مسعود

في نشأة اللّغة العربيّة 

اللُّغة

اللُّغة، في الأصل، وسيلة التّخاطب والتّفاهم بين جماعة من النّاس.

وهي « تعبّر عن واقع الفئة النّاطقة بها، وطبعها، ونفسيّتها، وعقليّتها، ومُناخها الاجتماعيّ والتاريخيّ»(1).

وأفضل ما في اللّغة أنّها تميّز الإنسان، كمخلوق ناطق، عمّا سواه من المخلوقات.

ذهب بعضهم، في نشأة اللّغة العربيّة، مذاهب شتّى، لا مجال لذكرها هنا(2) فهي تهّم الدّراسين المتخصّصين أكثر من المدرّسين والتلامذة، وأكثر من قرّاء «المجلّة التربويّة».

لأسباب كثيرة، ربط المؤرّخون اللّغة العربيّة بـ «عدنان» و« قحطان» (3) ... ونسبها كلّ فريق إلى نفسه، أو إلى جماعته.

وفضّل المتأخّرون منهم تسميتها بلغة قريش، أو لغة مكّة؛ لِمَا اكتسبته «قريش» و«مكّة» من مكانة دينيّة سياسيّة...

« ومهما يكن من أمر الأسماء التي سميّت بها اللّغة العربيّة - «عدنانيَّة»، قحطانيَّة، «مُضَريَّة»، «قريشيّة»، «مكيةّ»، «نجديّة»، «حجازيّة» – فإنّ دلالتها واحدة؛ هي اللّغة التي وصلت إلينا، والتي نعرفها باللّغة العربيّة الفصحى(4).

لغة لكلّ الناس

منذ أن وجد الأعراب أنفسهم قبائل تعيش على الغزو، والرعي،  والثأر... وتختلف في اللهجات، قامت دويلات حضاريّة، في مقدّمتها دولة الأنباط .

كانت حضارة الأنباط ساميّة في ديانتها ، يونانيّة – رومانيّة في هندستها، آراميّة في كتابتها، وعربيّة في لغتها(5).

والأبجديّة العربيّة قد انحدرت من الحروف النبطيّة مباشرة، وبقيت، كما كانت، من ثمانية وعشرين حرفًا.

ومهما قيل، في هذه اللّغة، أقوال، يبقى التاريخ شاهدًا على أسواق الأدب، في العصر الذي سبق ظهور الإسلام ؛  وعلى ما عُلِّق، على أستار الكعبة، من مذهّبات، ومعلّقات، وسبع أو عشر طوال.

ومن المعروف أن القَسَاوِسَة والرهبان، كانوا يَعِظُون ويبشرون، في أسواق العرب، ويذكرون البعث والحساب والجنّة والنّار، بلغةٍ عربيّة فصيحة.

مع ظهور الإسلام، تعزّزت اللّغىة العربيّة بالقرآن، والفقه، والحديث، والسنّة ... وبلغت مرتبة القداسة،  بنظر كثرة من الناس.

 ومع الفتوحات العربيّة، وتمازج اللّغات، والتّرجمة والنّقل، على أيدي المسيحيّين السّريان، وتجاوب اللّغة العربيّة مع الألفاظ الأعجميّة – من طريق الاشتقاق- صارت اللّغة العربيّة لغة التأليف، والطبّ، والفلسفة، والعلم، والقانون، والتّجارة، والإدارة، والتنظيم ...

أي أنها صارت لغة عالميّة، في إمبراطوريّة مترامية الأطراف.

ازدهار اللّغة العربيّة

ازدهرت اللّغة العربيّة ازدهارًا غير مسبوق. فبلغت عصرها الذهبيّ في العصرين: العبّاسيّ والأندلسيّ.

وإلى الشعر التجديديّ، والنثر الفنّيّ، والأدب القصصيّ، والفلسفة، والطبّ والرياضيّات... وُضِعَت مؤلفات كثيرة مهمّة في اللّغة ، على وجه الخصوص.

وتجلّى الإشعاع الحضاريّ والعقليّ في مراكز ثقافيّة مهمّة: الكوفة، والبصرة، والمدينة، والحجاز...

انحطاط اللّغة العربيّة

في ظلّ حكم الأتراك العثمانيّين، حلّت النّكبة بالبلدان العربيّة، « وخيّم الجهل على البلاد الحزينة الناطقة بالضّاد »(6)...

« أمّا الآداب العربيّة، على الإجمال، فأصبحت في أحطّ أدوارها، وندر نبوغ العلماء والمفكّرين»..(7)

وقد أعرض الأتراك عن اللّغة العربيّة، وجعلوا التركيّة لغة رسميّة... فهبطت اللّغة، في عهدهم، وفسدت ملكة البلاغة، « وتصلبّت أذهان الأدباء... وران عليهم خمول ، لم يستفيقوا منه إلّا على مدافع
« نابليون»، في مصر، ونواقيس الأديار، في لبنان»(8).

وعلى العموم، انحّطت الحضارة العربيّة إلى الدرك الأسفل، وأَلِفَت الشّعوب هذه الحالة السيّئة ... وفقد الدين روحه، وسادت الخرافات، وأصبح التّصوّف ألعابًا بهلوانيّة، والدّين مظاهر شكليّة...(9)

اللّغة في عصر النّهضة

بعد ركود وتقهقر واستكانة... تفتّح العرب على المفاهيم السياسية والقوميّة.

وبعد انقسامهم، وتخلّفهم، واستبعادهم، كان لا بدّ من توعية؛ في نهضة حديثة، قام بها الأدباء.

ويبدو أنّ يقظة الشّرق، قد أعادت الإحترام إلى اللّغة العربيّة، والقوميّة، ونبذ الطائفيّة، والمواقف الوطنيّة... من طريق الصحف والمطابع والجمعيّات والخطب... وكلّها بلغة عربيّة فصحى.

ومع يقظة الشّرق، كان لبنان نقطة احتكاك مباشر بالثّقافة الغربيّة. وقد برز فيه وفي مصر، روّاد نهضة كبار(10).

ومع الإرساليّات الأجنبيّة الّتي عمّت البلاد، استفاق لبنان على فجر نهضة تعليميّة غير مسبوقة.

ومع أن هذه المدارس كانت تعلّم لغات متعدّدة ، فقد حافظت على اللّغة العربيّة، ولم تتنكّر لها بحالٍ من الأحوال.

بين الأمس واليوم

بالأمس القريب، كانت اللّغة العربيّة في المرتبة الأولى بين موادّ التعليم.

وكان معلّم العربيّة وجه المدرسة، ولسان حال المجتمع، ومحطّ أنظار الناس، وخطيب المناسبات، وحَكَم المباريات...

وكانت كلّ مؤسّسة تعليميّة معروفة، تفاخر بأنّ الأديب الفلانيّ يعلّم اللّغة العربيّة فيها...

فما الّذي جرى اليوم للّغة العربيّة التي تنكّر لها أبناؤها؟!

تعليم اللّغة العربيّة

للمحافظة على اللّغة العربيّة، لا بدّ من تعليمها لأبناء الجيل .

ولتعليم اللّغة العربيّة، لا بدّ من:

  1. تلميذ: فالتلميذ هو الأساس في تلقي العِلم والمعرفة، بشكل واضح وصريح، وهادئ... وهو في النّهاية طالب؛ أي طالب معرفة. 

        والتّلامذة، مجتمعين، هم المجتمع الحضاريّ المنتَظَر، وهم المستقبل الواعِد، وأعمدة الوطن، وكيانه، وأسس بقائه، وتقدّمه، ووجهه الحضاريّ الأبرز...

  1. ومعلّم: فالمعلّم هو الموجّه، والمساعد، والمربّي، وصاحب الرّسالة، والمثال...
  2. وكتاب: أمّا الكتاب، فهو ورق الكتابة، ولوح النّصوص، والكتابات المتقاربة، والقصائد، والحِكَم، والأمثال... وهو مستودع المعرفة، ومرجع العارفين والنّخبة... والمدرسة، هي الّتي يجتمع فيها الثلاثة، لتتمّ في رحابها أرقى عمليّة حضاريّة ، في تاريخ البشريّة: (التّعليم).

وفي رسالة المعلّم، تعليم التّلميذ القراءة والكتابة. وتعلميه أنّ الكتابة أرقى من القراءة، وأسمى، وأكثر قدسيّة.

وأنّ من معاني الكتابة:

نقل الكلمة المكتوبة، من النّطق المسموع، إلى التّفكير المرئيّ. وعليه، يكتب الكاتب نصّه بخطًّ واضح، وأنيقٍ، وعلى أرقى ما يكون من الّذوق. وأنّ هنالك علاقة وثيقة بين اللّغة والحياة، وبين اللفظ والشيء الّذي يدلّ عليه.

في عمليّة تعليم اللّغة، يتحّول المعلّم الناجح إلى مدرسة، وكتاب، ومرجع، وبنك معلومات، ومصدر تشويق... من طريق تعريف التّلامذة على نصوص مختارة، قريبَة من عالَمهم؛ لنخبة من رجال الأدب وحثِّهم على محاكاتهم وتتبّع خطاهم... والإصرار على المطالعة، واقتناء الكتب...

ولا حلّ إلاّ بتعزيز مكانة المطالعة، واختيار كتاب المطالعة، من قِبَل معلّم المادّة المتخصّص.

قال أحد المربّين الكبار:

« في مجالَي التعليم والتربية، نعرف انحرافًا خطيرًا في تدريس اللّغة العربيّة؛ إذ كثيرًا ما نشدّد على علوم اللّغة أكثر من إعادة اللّغة كوسيلة – الأهمّيّة الواجبة. وما يفضح هذا هو إهمالنا للصّرف، واهتمامنا البالغ بالنّحو. عِلْمًا أن اللّغة كانت قبل قواعدها»(11).

حلول واقتراحات(12)

في المجتمع الكبير المصاب بحالة من اللاوعي، والتعصّب الأعمى، والتفتّت، والانحلال... وهدم الحضارت، عن سابق تصوّر وتصميم ... لا بدّ وأن يبقى لبنان في طليعة الدّول المتقدّمة، في هذا الشّرق. وأن تبقى اللّغة العربيّة مصانة فيه.

 ولا يكون هذا إلاّ بما يلي:

  • العمل على إحياء مشروع تجمّع المدارس: مؤسسة تربويّة كبيرة، أو أكثر، في كلّ قضاء.
  • إقفال المدارس التي تتاجر بالعِلم، والكتب، والدفاتر، والمذهبيّة...
  • إلغاء بدعة التّعاقد في المدارس، وإدخال المتعاقدين في ملاك وزارة التربية، بحسب اختصاصاتهم.. وبعد إجراء دورات تدريبيّة لهم.
  • تطوير المناهج التربويّة بشكل دائم ومستمرّ، وتصحيح الأخطاء الواردة في بعض الكتب، ووضع كتاب واحد موّحد للّغة العربيّة...
  • إبعاد التدخّل من أيّ جهة كان عن المدارس: نقل، ومناقلات، وتشكيلات كيفيّة، وفتح مدارس، وتغيير مديرين، وتكبيل أيدي الموظّفين الأكفياء... وإن من الفئة الأولى.
  • تشجيع المطالعة، والنّدوات، والمحاضرات، واستضافة المفكّرين، والأدباء، والمثقّفين... في المدارس.
  • اقتراح إلغاء القواعد من المرحلة الابتدائية على ان يقوم المعلّم والتلامذة بالاستقراء واستنتاج القاعدة من النصّ. ذلك أن وظيفة القواعد هي جعل التلميذ قادرًا على إنشاء نصّ بلغةٍ سليمة وإبعاد التلامذة عن الحفظ الببّغائي. ومن المعروف أن العرب قالوا الشِّعر الفصيح وكتبوا العربيّة  الصحيحة قبل وجود قواعد اللّغة.
  • التركيز على إعداد المعلّم المتمكّن من اللّغة العربيّة، ومتابعة العمل التربويّ: بتفاهم، وتبادل الرأي، والتّوجيه، والتّشجيع، وإجراء مسابقات فصليّة بين التلامذة، وإشراكهم بمجلّة حائط... وللبحث صِلَةٌ، وصِلاتٌ، وصَلاةٌ.

    الحواشي:

  1. جبّور عبد النور: المعجم الأدبيّ، دار العلم للملايين- بيروت.
  2. للباحثين والمتخصّصين، أنظر مقالة: «اللّغة اصطلاح لا توقيف»، المجلة العربيّة للعلوم الإنسانية، الكويت، المجلّد الخامس، العدد 18.
  3. عدنان: هو ابن اسماعيل بن ابراهيم الخليل، وجدّ القبائل الشماليّة.قحطان: أبو قبائل اليمن العربيّة. انقسم بنوه إلى: أهل حَضَر، وأهل وَبَر. وقيل إنّ قحطان هذا، أول من تكلّم العربيّة. فسمّي لذلك يَعْرُب.
  4. أنيس فريحه: في اللّغة العربيّة  وبعض مشكلاتها، دار النهار للنشر.
  5. ميخائيل مسعود:  مسافات حضاريّة ( بحث في البعد العربيّ عن حضارة العصر الحديث) ، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان.
  6. لويس شيخو: شعراء النصرانيّة بعد الإسلام ، بيروت ، المطبعة الكاثوليكليّة 1924.
  7. جرجي زيدان: تاريخ آداب اللّغة العربيّة ( أربعة أجزاء)، بيروت، دار مكتبة الحياة 1978.
  8. بطرس البستاني: أدباء العرب في الجاهليّة وصدر الإسلام ( أربعة أجزاء)، بيروت ، دار الجيل، ودار مارون عبّود 1979.
  9. أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، بيروت- دار الكتاب العربي -1979.
  10. من روّاد النهضة : جرمانوس فرحات- بطرس مبارك- يوسف السمعاني-اسطفان عوّاد– مارون نقّاش-أحمد شوقي–ناصيف اليازجي-حافظ ابراهيم– فوزي المعلوف– بطرس البستاني– أحمد فارس الشدياق-جمال الدين الأفغاني–عبد الرحمن الكواكبي- ابراهيم اليازجي- ولي الدين يكن- سليمان البستاني- أمين الريحاني– جبران خليل جبران ... وغيرهم ، وغيرهم.
  11. الأستاذ المربّي : شفيق حيدر.( من ندوة حول كتاب: العربيّة لغة حياة وتطوّر، للأستاذ: جورج فرج. مركز الصفدي الثقافي- طرابلس).
  12.  أعتذر شديد العذر، بسبب هذا الإيجاز الشديد؛ لأن وضع البلاد وأحوال التّربية والتّعليم، ووضع المدارس والمعلّمين... أمور تمنع من معالجة الموضوع بإسهاب، في هذا الوقت بالذات.

اللُّغة العَرَبيَّة بين الأمس واليوم

صورة للدكتور ميخائيل مسعود

في نشأة اللّغة العربيّة 

اللُّغة

اللُّغة، في الأصل، وسيلة التّخاطب والتّفاهم بين جماعة من النّاس.

وهي « تعبّر عن واقع الفئة النّاطقة بها، وطبعها، ونفسيّتها، وعقليّتها، ومُناخها الاجتماعيّ والتاريخيّ»(1).

وأفضل ما في اللّغة أنّها تميّز الإنسان، كمخلوق ناطق، عمّا سواه من المخلوقات.

ذهب بعضهم، في نشأة اللّغة العربيّة، مذاهب شتّى، لا مجال لذكرها هنا(2) فهي تهّم الدّراسين المتخصّصين أكثر من المدرّسين والتلامذة، وأكثر من قرّاء «المجلّة التربويّة».

لأسباب كثيرة، ربط المؤرّخون اللّغة العربيّة بـ «عدنان» و« قحطان» (3) ... ونسبها كلّ فريق إلى نفسه، أو إلى جماعته.

وفضّل المتأخّرون منهم تسميتها بلغة قريش، أو لغة مكّة؛ لِمَا اكتسبته «قريش» و«مكّة» من مكانة دينيّة سياسيّة...

« ومهما يكن من أمر الأسماء التي سميّت بها اللّغة العربيّة - «عدنانيَّة»، قحطانيَّة، «مُضَريَّة»، «قريشيّة»، «مكيةّ»، «نجديّة»، «حجازيّة» – فإنّ دلالتها واحدة؛ هي اللّغة التي وصلت إلينا، والتي نعرفها باللّغة العربيّة الفصحى(4).

لغة لكلّ الناس

منذ أن وجد الأعراب أنفسهم قبائل تعيش على الغزو، والرعي،  والثأر... وتختلف في اللهجات، قامت دويلات حضاريّة، في مقدّمتها دولة الأنباط .

كانت حضارة الأنباط ساميّة في ديانتها ، يونانيّة – رومانيّة في هندستها، آراميّة في كتابتها، وعربيّة في لغتها(5).

والأبجديّة العربيّة قد انحدرت من الحروف النبطيّة مباشرة، وبقيت، كما كانت، من ثمانية وعشرين حرفًا.

ومهما قيل، في هذه اللّغة، أقوال، يبقى التاريخ شاهدًا على أسواق الأدب، في العصر الذي سبق ظهور الإسلام ؛  وعلى ما عُلِّق، على أستار الكعبة، من مذهّبات، ومعلّقات، وسبع أو عشر طوال.

ومن المعروف أن القَسَاوِسَة والرهبان، كانوا يَعِظُون ويبشرون، في أسواق العرب، ويذكرون البعث والحساب والجنّة والنّار، بلغةٍ عربيّة فصيحة.

مع ظهور الإسلام، تعزّزت اللّغىة العربيّة بالقرآن، والفقه، والحديث، والسنّة ... وبلغت مرتبة القداسة،  بنظر كثرة من الناس.

 ومع الفتوحات العربيّة، وتمازج اللّغات، والتّرجمة والنّقل، على أيدي المسيحيّين السّريان، وتجاوب اللّغة العربيّة مع الألفاظ الأعجميّة – من طريق الاشتقاق- صارت اللّغة العربيّة لغة التأليف، والطبّ، والفلسفة، والعلم، والقانون، والتّجارة، والإدارة، والتنظيم ...

أي أنها صارت لغة عالميّة، في إمبراطوريّة مترامية الأطراف.

ازدهار اللّغة العربيّة

ازدهرت اللّغة العربيّة ازدهارًا غير مسبوق. فبلغت عصرها الذهبيّ في العصرين: العبّاسيّ والأندلسيّ.

وإلى الشعر التجديديّ، والنثر الفنّيّ، والأدب القصصيّ، والفلسفة، والطبّ والرياضيّات... وُضِعَت مؤلفات كثيرة مهمّة في اللّغة ، على وجه الخصوص.

وتجلّى الإشعاع الحضاريّ والعقليّ في مراكز ثقافيّة مهمّة: الكوفة، والبصرة، والمدينة، والحجاز...

انحطاط اللّغة العربيّة

في ظلّ حكم الأتراك العثمانيّين، حلّت النّكبة بالبلدان العربيّة، « وخيّم الجهل على البلاد الحزينة الناطقة بالضّاد »(6)...

« أمّا الآداب العربيّة، على الإجمال، فأصبحت في أحطّ أدوارها، وندر نبوغ العلماء والمفكّرين»..(7)

وقد أعرض الأتراك عن اللّغة العربيّة، وجعلوا التركيّة لغة رسميّة... فهبطت اللّغة، في عهدهم، وفسدت ملكة البلاغة، « وتصلبّت أذهان الأدباء... وران عليهم خمول ، لم يستفيقوا منه إلّا على مدافع
« نابليون»، في مصر، ونواقيس الأديار، في لبنان»(8).

وعلى العموم، انحّطت الحضارة العربيّة إلى الدرك الأسفل، وأَلِفَت الشّعوب هذه الحالة السيّئة ... وفقد الدين روحه، وسادت الخرافات، وأصبح التّصوّف ألعابًا بهلوانيّة، والدّين مظاهر شكليّة...(9)

اللّغة في عصر النّهضة

بعد ركود وتقهقر واستكانة... تفتّح العرب على المفاهيم السياسية والقوميّة.

وبعد انقسامهم، وتخلّفهم، واستبعادهم، كان لا بدّ من توعية؛ في نهضة حديثة، قام بها الأدباء.

ويبدو أنّ يقظة الشّرق، قد أعادت الإحترام إلى اللّغة العربيّة، والقوميّة، ونبذ الطائفيّة، والمواقف الوطنيّة... من طريق الصحف والمطابع والجمعيّات والخطب... وكلّها بلغة عربيّة فصحى.

ومع يقظة الشّرق، كان لبنان نقطة احتكاك مباشر بالثّقافة الغربيّة. وقد برز فيه وفي مصر، روّاد نهضة كبار(10).

ومع الإرساليّات الأجنبيّة الّتي عمّت البلاد، استفاق لبنان على فجر نهضة تعليميّة غير مسبوقة.

ومع أن هذه المدارس كانت تعلّم لغات متعدّدة ، فقد حافظت على اللّغة العربيّة، ولم تتنكّر لها بحالٍ من الأحوال.

بين الأمس واليوم

بالأمس القريب، كانت اللّغة العربيّة في المرتبة الأولى بين موادّ التعليم.

وكان معلّم العربيّة وجه المدرسة، ولسان حال المجتمع، ومحطّ أنظار الناس، وخطيب المناسبات، وحَكَم المباريات...

وكانت كلّ مؤسّسة تعليميّة معروفة، تفاخر بأنّ الأديب الفلانيّ يعلّم اللّغة العربيّة فيها...

فما الّذي جرى اليوم للّغة العربيّة التي تنكّر لها أبناؤها؟!

تعليم اللّغة العربيّة

للمحافظة على اللّغة العربيّة، لا بدّ من تعليمها لأبناء الجيل .

ولتعليم اللّغة العربيّة، لا بدّ من:

  1. تلميذ: فالتلميذ هو الأساس في تلقي العِلم والمعرفة، بشكل واضح وصريح، وهادئ... وهو في النّهاية طالب؛ أي طالب معرفة. 

        والتّلامذة، مجتمعين، هم المجتمع الحضاريّ المنتَظَر، وهم المستقبل الواعِد، وأعمدة الوطن، وكيانه، وأسس بقائه، وتقدّمه، ووجهه الحضاريّ الأبرز...

  1. ومعلّم: فالمعلّم هو الموجّه، والمساعد، والمربّي، وصاحب الرّسالة، والمثال...
  2. وكتاب: أمّا الكتاب، فهو ورق الكتابة، ولوح النّصوص، والكتابات المتقاربة، والقصائد، والحِكَم، والأمثال... وهو مستودع المعرفة، ومرجع العارفين والنّخبة... والمدرسة، هي الّتي يجتمع فيها الثلاثة، لتتمّ في رحابها أرقى عمليّة حضاريّة ، في تاريخ البشريّة: (التّعليم).

وفي رسالة المعلّم، تعليم التّلميذ القراءة والكتابة. وتعلميه أنّ الكتابة أرقى من القراءة، وأسمى، وأكثر قدسيّة.

وأنّ من معاني الكتابة:

نقل الكلمة المكتوبة، من النّطق المسموع، إلى التّفكير المرئيّ. وعليه، يكتب الكاتب نصّه بخطًّ واضح، وأنيقٍ، وعلى أرقى ما يكون من الّذوق. وأنّ هنالك علاقة وثيقة بين اللّغة والحياة، وبين اللفظ والشيء الّذي يدلّ عليه.

في عمليّة تعليم اللّغة، يتحّول المعلّم الناجح إلى مدرسة، وكتاب، ومرجع، وبنك معلومات، ومصدر تشويق... من طريق تعريف التّلامذة على نصوص مختارة، قريبَة من عالَمهم؛ لنخبة من رجال الأدب وحثِّهم على محاكاتهم وتتبّع خطاهم... والإصرار على المطالعة، واقتناء الكتب...

ولا حلّ إلاّ بتعزيز مكانة المطالعة، واختيار كتاب المطالعة، من قِبَل معلّم المادّة المتخصّص.

قال أحد المربّين الكبار:

« في مجالَي التعليم والتربية، نعرف انحرافًا خطيرًا في تدريس اللّغة العربيّة؛ إذ كثيرًا ما نشدّد على علوم اللّغة أكثر من إعادة اللّغة كوسيلة – الأهمّيّة الواجبة. وما يفضح هذا هو إهمالنا للصّرف، واهتمامنا البالغ بالنّحو. عِلْمًا أن اللّغة كانت قبل قواعدها»(11).

حلول واقتراحات(12)

في المجتمع الكبير المصاب بحالة من اللاوعي، والتعصّب الأعمى، والتفتّت، والانحلال... وهدم الحضارت، عن سابق تصوّر وتصميم ... لا بدّ وأن يبقى لبنان في طليعة الدّول المتقدّمة، في هذا الشّرق. وأن تبقى اللّغة العربيّة مصانة فيه.

 ولا يكون هذا إلاّ بما يلي:

  • العمل على إحياء مشروع تجمّع المدارس: مؤسسة تربويّة كبيرة، أو أكثر، في كلّ قضاء.
  • إقفال المدارس التي تتاجر بالعِلم، والكتب، والدفاتر، والمذهبيّة...
  • إلغاء بدعة التّعاقد في المدارس، وإدخال المتعاقدين في ملاك وزارة التربية، بحسب اختصاصاتهم.. وبعد إجراء دورات تدريبيّة لهم.
  • تطوير المناهج التربويّة بشكل دائم ومستمرّ، وتصحيح الأخطاء الواردة في بعض الكتب، ووضع كتاب واحد موّحد للّغة العربيّة...
  • إبعاد التدخّل من أيّ جهة كان عن المدارس: نقل، ومناقلات، وتشكيلات كيفيّة، وفتح مدارس، وتغيير مديرين، وتكبيل أيدي الموظّفين الأكفياء... وإن من الفئة الأولى.
  • تشجيع المطالعة، والنّدوات، والمحاضرات، واستضافة المفكّرين، والأدباء، والمثقّفين... في المدارس.
  • اقتراح إلغاء القواعد من المرحلة الابتدائية على ان يقوم المعلّم والتلامذة بالاستقراء واستنتاج القاعدة من النصّ. ذلك أن وظيفة القواعد هي جعل التلميذ قادرًا على إنشاء نصّ بلغةٍ سليمة وإبعاد التلامذة عن الحفظ الببّغائي. ومن المعروف أن العرب قالوا الشِّعر الفصيح وكتبوا العربيّة  الصحيحة قبل وجود قواعد اللّغة.
  • التركيز على إعداد المعلّم المتمكّن من اللّغة العربيّة، ومتابعة العمل التربويّ: بتفاهم، وتبادل الرأي، والتّوجيه، والتّشجيع، وإجراء مسابقات فصليّة بين التلامذة، وإشراكهم بمجلّة حائط... وللبحث صِلَةٌ، وصِلاتٌ، وصَلاةٌ.

    الحواشي:

  1. جبّور عبد النور: المعجم الأدبيّ، دار العلم للملايين- بيروت.
  2. للباحثين والمتخصّصين، أنظر مقالة: «اللّغة اصطلاح لا توقيف»، المجلة العربيّة للعلوم الإنسانية، الكويت، المجلّد الخامس، العدد 18.
  3. عدنان: هو ابن اسماعيل بن ابراهيم الخليل، وجدّ القبائل الشماليّة.قحطان: أبو قبائل اليمن العربيّة. انقسم بنوه إلى: أهل حَضَر، وأهل وَبَر. وقيل إنّ قحطان هذا، أول من تكلّم العربيّة. فسمّي لذلك يَعْرُب.
  4. أنيس فريحه: في اللّغة العربيّة  وبعض مشكلاتها، دار النهار للنشر.
  5. ميخائيل مسعود:  مسافات حضاريّة ( بحث في البعد العربيّ عن حضارة العصر الحديث) ، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان.
  6. لويس شيخو: شعراء النصرانيّة بعد الإسلام ، بيروت ، المطبعة الكاثوليكليّة 1924.
  7. جرجي زيدان: تاريخ آداب اللّغة العربيّة ( أربعة أجزاء)، بيروت، دار مكتبة الحياة 1978.
  8. بطرس البستاني: أدباء العرب في الجاهليّة وصدر الإسلام ( أربعة أجزاء)، بيروت ، دار الجيل، ودار مارون عبّود 1979.
  9. أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، بيروت- دار الكتاب العربي -1979.
  10. من روّاد النهضة : جرمانوس فرحات- بطرس مبارك- يوسف السمعاني-اسطفان عوّاد– مارون نقّاش-أحمد شوقي–ناصيف اليازجي-حافظ ابراهيم– فوزي المعلوف– بطرس البستاني– أحمد فارس الشدياق-جمال الدين الأفغاني–عبد الرحمن الكواكبي- ابراهيم اليازجي- ولي الدين يكن- سليمان البستاني- أمين الريحاني– جبران خليل جبران ... وغيرهم ، وغيرهم.
  11. الأستاذ المربّي : شفيق حيدر.( من ندوة حول كتاب: العربيّة لغة حياة وتطوّر، للأستاذ: جورج فرج. مركز الصفدي الثقافي- طرابلس).
  12.  أعتذر شديد العذر، بسبب هذا الإيجاز الشديد؛ لأن وضع البلاد وأحوال التّربية والتّعليم، ووضع المدارس والمعلّمين... أمور تمنع من معالجة الموضوع بإسهاب، في هذا الوقت بالذات.