اللّغة العربية التعلُّمية بين الواقع والمرتجى

(مقاربة نظرية – ميدانية)اللّغة العربية التعلُّمية بين الواقع والمرتجى

  1. مقدمة.

   جاء في المعاجم أن اللّغة "أصوات يعبِّر بها كلّ قوم عن أغراضهم"(1). وجاء في الاستعمال أن اللّغة ظاهرة بسيكولوجية ثقافية تتألّف من رموز صوتية لغوية، مسموعة ومكتوبة، اكتسبت معانيها عن طريق الاختبار، وبها يتم التفاهم والتفاعل. وأنها "ظاهرة اجتماعية تخضع لتأثير مجتمعاتها، ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا"(2). وأنها "الأداة المعبّرة عن حركة المجتمع وتطوّره، وهي مخزون تراث الأمّة وقيمها ومفاهيمها، وأداة ربط بين حاضر الأمة ومستقبلها"(3). وحين يتعلّق الأمر باللّغة الأم تغدو اللّغة مكوّنًا من مكوّنات الهويّة الحضارية.

وعليه، تكون اللّغة وسيلة تواصل، وأداة إبداع، وناقل معرفة، ووعاء فكر، وحافظ تراث، ومكوّنًا من مكوّنات الهوية. وانطلاقًا من أهمّيّة هذه الوظائف وخطورتها، لا يعود إتقان اللّغة مجرّد ترف معرفي بل يغدو واجبًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا ومعرفيًّا ووطنيًّا. من هنا، من الطبيعي أن يقترن، أيّ إخلال بهذا الواجب المتعدّد، بالقلق، وأن يثير تراجع التحصيل التعلّمي اللّغوي اهتمام المراجع المسؤولة، ويستدعي دراسة الأسباب واقتراح سبل المعالجة.

  1. اللّغة العربية في المناهج.

   يتناول حضور اللّغة العربية في مناهج التعليم العام الصادرة بالمرسوم 10227 تاريخ 8 أيار 1997 عدد حصص التدريس الأسبوعية، الأهداف العامّة، المحتوى، وتوجيهات في طرائق التدريس.

  • من حيث عدد حصص التدريس، تساوي المناهج بين اللّغة العربية، اللغة الأمّ للمتعلّم، واللّغة الأجنبية الأولى في جميع صفوف التعليم العام ما قبل الجامعي، وإذا ما أضفنا الحصص المخصّصة للّغة الأجنبية الثانية، بدءًا من السنة السابعة من مرحلة التعليم الأساسي حتى السنة الثالثة الثانوية، يكون الميزان قد مال لمصلحة اللّغة الأجنبية، الأولى والثانية. وكان الأحرى به أن يميل لمصلحة اللّغة الأم في المرحلة الابتدائية من التعليم الأساسي على الأقل، لأنها المرحلة المعنية بتكوين المعجم الخطّي للطفل، ولأنها "أكثر المراحل حساسية لتكوين المتعلّم لمخزونه المعجمي، ذلك أن المتعلّم يكون في هذه المرحلة من عمره الأكثر تقبّلاً للمفردات، والأكثر قدرة على استيعابها والتدرّب على استثمارها في السياقات المختلفة..."(4).
  • من حيث الأهداف العامّة، تحدّد المناهج ثلاثين هدفًا عامًّا يُسهم تعليم اللّغة العربية في تحقيقها. يهدف ثلثاها إلى "بناء شخصية المتعلّم الفرد والمواطن" بأبعادها الفكرية والوجدانية والسلوكية والروحية والأخلاقية والعلمية والنقدية والمعرفية والجمالية والفنية والتراثية والذاتية والاجتماعية والثقافية والوطنية والقومية والإنسانية...، ويهدف الثلث الأخير من الأهداف العامّة، المقتصر على عشرة أهداف، إلى "تعزيز كفاية المتعلم اللّغوية"، ويتوزّع على: ربط اللّغة بالحياة، مستوى اللّغة، قواعدها، نظامها، تقنيّاتها، معجمها، مهارات تعلّمها، وكيفية اكتسابها. وهكذا، يستأثر الشقّ التربوي بأبعاده المختلفة بثلثي الأهداف العامّة، ويبقى للشقّ اللّغوي ثلثًا واحدًا، وكان الأفضل تغليب الشقّ الثاني على الأوّل أو التوازن بينهما، على الأقل(5).
  • من حيث المحتوى، وتطبيقًا للمادة 6 من المرسوم 10227/1997، صدرت عن وزارة التربية الوطنية والشباب والرياضة، في حينه، ثلاثة تعاميم تحدّد تفاصيل محتوى مادّة منهج اللّغة العربية من حيث المضمون والأهداف التعلّمية والوسائل والأنشطة، ويتناول المحتوى سائر فروع المادّة، ويُراعي مقتضيات التوسّع والشمول والتنوّع، ويشتمل على تفاصيل واضحة، ما يجعل منهج اللّغة العربية منسجمًا مع معطيات علم المناهج في المرحلة التي صدر فيها(6).
  • من حيث التوجيهات في طرائق التدريس، يأخذ بعضهم عليها تقليديّتها، وعدم فتحها أفقًا واسعًا للتجدّد، وتضييق هامش الابتكار أمام المعلّمين(7). مع العلم أن هذه الرؤية تجانب الواقع، فالتوجيهات في مقدّمتها تركّز على "المبادرة الشخصية والاختيار الحر والتربية الذاتية" في اختيار طريقة التدريس، وتُقدّم في المتن مجموعة من المبادىء والمقترحات التربوية التي تُصوّب المسار، ولا تعلّب العملية التعلّمية، في الوقت نفسه(8).
  1. اللّغة العربية في الواقع المدرسي.

   كثُر في الآونة الأخيرة الكلام على تراجع تعلّمية اللّغة العربية في لبنان ولا سيّما بعد تدنّي نسبة النجاح في مسابقة اللّغة العربية في امتحانات الشهادة المتوسّطة في الدورة العادية للعام 2013، فعلى الرغم من الموقع الذي تشغله "بين الموادّ الدراسية في جميع مراحل التعليم"، والدور المتعدّد الذي تنهض به في المجتمع "كأداة للتفكير والحياة ووسيلة اتصال وتفاهم، ونقل التراث الفكري والإنساني، تجمع أبناء الوطن على وحدة من الفكر والمثل والتقاليد الخالدة والشعور بالوطنية والقومية"، "ما زالت تعاني حالة من القصور في تحقيق الكفايات والأهداف الخاصّة والعامّة، على مستوى المردود المدرسي في تطبيق المناهج، وما تحتاج إليه من وسائل تربوية، وكتب مساعدة، وتجهيزات تعلّمية، وإعداد المعلّم الذي هو حجر الزاوية في كلّ تطوّر علمي"(9).

   على أن التراجع في تعلّمية اللّغة العربية لا يقتصر على لبنان وحسب، بل يتعدّاه إلى دول أخرى في العالم العربي، وقد يكون حالة عربية عامّة؛ ففي الأردن، على سبيل المثال، "هناك ما يشير إلى وجود مشكلات لدى الكثير ممّن يشتغلون في تدريس اللّغة العربية، تتمثّل في صعوبة تعلّمها بشكل عام، وضعف مهارة التعبير بشكل خاص". وثمة من يعزو "ضعف الطلبة في اللّغة عمومًا والكلام خصوصًا إلى ضعف المنهج والمحتوى، وغياب الاستراتيجيات التعلّمية التي من شأنها إبراز الأنشطة المدرسية التي تحفّز على ممارسة هذا الفن التعبيري بأشكاله المختلفة من خطابة ودعوة وشكر واعتذار واستقبال وتوديع...". والمشكلة نفسها قائمة في مصر، "ومن مظاهر الضعف الطلابي [هناك] ما يتعلّق بمواجهة الجمهور من خوف وخجل وارتباك، وعدم الجرأة في الكلام، ومنها ما يتّصل بالأفكار، حيث يمكن وصفها بالضحالة والغموض وعدم الترابط، ما يجعل توضيحها أمرًا صعبًا"(10).

   وإذا كانت أدوات التعلّم تتكوّن من: "المنهاج المدرسي باعتباره الوسيلة التي يتمّ استخدامها من أجل خلق جيل متعلّم قادر على التعايش في ظلّ أيّ مجتمع وتحت أي ظرف، وطرائق التدريس المختلفة التي سيتمّ إيصال المنهج من خلالها إلى الطلبة، وبيئة التعلّم التي ستحتضن عملية التعلّم داخل المدرسة أو خارجها، والمعلّم الذي سيقود عملية التعليم من خلال فكره وثقافته، والمهارات التي يمتلكها، والتدريب الذي يتلقّاه، وأخيرًا الطالب الذي يُعتبَر محور العملية التعلّمية"(11)، فإن رصد تراجع تعلّمية اللّغة العربية في الواقع المدرسي يستدعي التوقّف عند كلّ من هذه الأدوات، وتلمّس دورها في عملية التراجع.

أ- في المناهج والكتاب المدرسي الوطني.

   شكّلت المناهج الصادرة عام 1997 خطوة نوعية في الاتجاه الصحيح، بعد نيّف وثلاثين عامًا من الجمود. وفي مقارنة بين هذه المناهج وتلك الصادرة في العامين 1946 و1971، يخلص الباحث التربوي الدكتور أنطوان صيّاح إلى أن الأولى "هي الأكثر تفصيلاً والأكثر وضوحًا والأكثر تطابقًا مع معطيات علم المناهج التي كانت سائدة في العقد الأخير من القرن العشرين".

   غير أنه يأخذ على مناهج اللّغة العربية: عدم توسيع الأهداف اللّغوية، غياب مفهوم الوحدة عن أنشطتها، عدم ذكر مفهوم الكفاية والاكتفاء بمكوّناته، عدم وضوح الأسس التي تعتمدها، تغييب مفهوم الثقافة اللبنانية المعاصرة، غياب مفهوم الترافد اللّغوي، غياب مفهوم العامّية، عدم التطرّق إلى مفهوم اللّغة العربية الشفهية، وتهميش المطالعة...(12). وإذا كان بعض هذه المآخذ ينعكس سلبًا على تعلّمية اللّغة العربية، فإن بعضها الآخر لن تكون له، بالضرورة، مثل هذا الانعكاس، كغياب مفهوم العامّية، وتغييب الثقافة المحلّية... مع العلم أن مفهوم الكفاية جرى ذكره في تفاصيل محتوى منهج مادّة اللّغة العربية وآدابها، الصادرة في ثلاثة تعاميم إدارية(13).

   وبالانتقال إلى الكتاب المدرسي الوطني، يقع الدكتور صيّاح في التعميم، ويذهب إلى الحد الأقصى، حين يرى أن "الكتب التعلّمية التي وضعت بين أيدي المتعلّمين منذ العام 1997، تاريخ وضع المناهج التعليمية موضع التنفيذ، لم تعد بمجملها صالحة لشعور المتعلّمين بصعوبتها، ولطول نصوصها وعدم تناسبها مع ميول المتعلّمين، ولعدم تناسب طريقة التحليل المعتمَدة فيها مع اتجاهات التحليل اللّغوية الحديثة"، من دون أن يشير إلى ما في هذه الكتب من إيجابيات(14).

   وإذا كان المقام لا يتسع لإبداء سائر الملاحظات على الكتاب المدرسي الوطني، في الصفوف المختلفة، فإننا سنكتفي بملاحظتين اثنتين؛ الأولى، تتعلّق بطول النصوص في كتب الحلقة الأولى من التعليم الأساسي مقارنةً بالحدّ الأقصى المقبول لعدد الكلمات تربويًّا. وإذا كانت القاعدة المعتمَدة في ذلك تنطلق من العمر الزمني للمتعلّم، فتحدّد الحدّ الأقصى للنص ب98 كلمة في السنة الأولى، و128 كلمة في السنة الثانية، و168 كلمة في السنة الثالثة، فإن معظم النصوص في كتب هذه الحلقة تتخطّى الحدّ الأقصى المقبول(15).

   الملاحظة الثانية، تتعلّق بكتاب القراءة في السنة التاسعة من التعليم الأساسي، ففي دراسة غير منشورة، يشير الباحث اللّغوي الدكتور جوزف الياس إلى عدم صلة بعض محاور الكتاب بالمنهج، وقصوره عن تحقيق الأهداف، وخلوّه من بعض المصطلحات والتقنيّات كالأنماط والتلخيص...(16).

   إن هذه الملاحظات وسواها، على أهمّيتها، لا ينبغي أن تحجب الإيجابيات الكثيرة في المنهج والكتاب، لكنها تستدعي إعادة النظر بكليهما، على وجه السرعة ودون تسرّع، بما يؤدي إلى تدارك السلبيات وتعزيز الإيجابيات، الأمر الذي تأخّر عن موعده ثلاثة عشر عامًا حتى الآن(17).

ب- في طرائق التدريس.

   كثيرة هي طرائق التدريس ومتنوّعة، وتختلف من مادّة تعلّمية إلى أخرى، ومن فرع إلى آخر ضمن المادّة الواحدة. ويتوقّف على اعتماد الطريقة المناسبة نجاح المعلّم في عمله وتحقيق أهداف الدرس، واستطرادًا المادّة. وهي على قدر من الخطورة إلى حدّ أن ينسب بعضهم إلى الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون قوله: "إن اختيار طريقة التعليم أهم في مصلحة الأمّة من اختيار حكومة مناسبة."

   وعلى كثرة الطرائق وتنوّعها، يمكن تصنيفها بين مجموعتين اثنتين؛ تلقينية، تقوم على محورية المعلّم، والنظرية، والسلطوية، والمحاضرة، والتعليم، والإلقاء، والجمود. وناشطة، تقوم على محورية المتعلّم، والعملية، والديمقراطية، والاستجواب، والتعلّم، والحوار، والتكيّف. وعلى تربوية هذه المجموعة الأخيرة وحداثتها، فإن تطبيقها في مدارسنا كثيرًا ما يصطدم بعوائق، منها: عدم وجود الوسائل المعينة واللوحات المساعدة والقاعات الواسعة والمعلّمين المدرّبين، ما يؤدّي إلى اعتماد التلقين مع ما يترتّب عليه من نتائج سلبية في تدريس اللّغة العربية وسواها(18).

ج- في بيئة التعلّم.

   إن افتقار بيئة التعلّم المدرسية إلى الأطر المادّية لتطبيق الطرائق الناشطة، وعدم استخدام المستوى اللّغوي المناسب من المعلّمين والمتعلّمين، وتهميش مهارتي الإصغاء والتعبير الشفهي، وتغييب، فرع المطالعة، وعدم توافر الحوافز المناسبة هي عوامل مؤثّرة في تعلّمية اللّغة العربية والتحصيل التعلّمي. وإذا ما انتقلنا إلى البيئة الاجتماعية الأوسع، نرى أن النظرة إلى اللّغة العربية تتراوح بين حدّين اثنين: الأوّل يعتبرها من الماضي، والثاني يعتبرها عاجزة عن تلبية طموحات المستقبل واستيعاب التطوّرات العلمية والتواصلية المتسارعة، والحدّان ظالمان. ناهيك بالازدواجية اللّغوية بين الفصحى والمحكية، مع العلم أن المسافة الفاصلة بين هذين المستويين هي في اللّغة العربية أطول منها في اللّغات الأخرى. وهذه العوامل تنعكس سلبًا على أداء المتعلّم وتحصيله اللّغوي.

د- في المعلّم.

   إن عدم توافر المعلّم المناسب، والنظرة السلبية المسبقة إلى عملية التدريب، وعدم استخدام المستوى اللّغوي المناسب، وقعود المعلّم دون السعي إلى تعزيز معارفه اللّغوية وتطوير قدراته التربوية، وعدم اعتماده طريقة التدريس المناسبة، وتحويل العملية التعلّمية التي يكون المتعلّم محورها إلى عملية تعليمية محورها المعلّم، هي عناصر موجودة في مدارس كثيرة، ولا بد أن تترك أثرها  في تعلّمية اللّغة العربية.

هـ- في المتعلّم.

   " من أبرز المبادىء التربوية الواجب مراعاتها في طرائق التدريس اعتبار المتعلّم محور العملية التربوية"(19). غير أن الواقع المدرسي لا يراعي هذا المبدأ بالقدر الكافي، في ضوء عدم قدرة عدد كبير من المعلّمين على التحرّر من الإطار التقليدي للمعلّم، الأمر الذي ينعكس على أداء المتعلّم في المواد المختلفة. ويرى بعضهم أن الواقع التربوي في تعليم اللّغة العربية يميل إلى التراجع في مكتسبات المتعلّمين اللّغوية، الأمر الذي يتذمّر منه المعلّمون في الأنشطة التعلّمية اللّغوية كافّة. ويعزو هذا التراجع، في جانب منه، إلى "الفقر المزمن للمخزون المعجمي للمتعلّمين الذي إذا لم نحسن علاجه نَفَرَ المتعلّمون من لغتهم واستقالوا من مهمّة تطويرها"(20). ويمكن أن نضيف إلى ذلك الفقر المزمن في القدرة على تركيب هذا المخزون.

   إن تعلّم اللّغة، أي لغة، لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بممارسة المهارات الأربع المعروفة عالميًّا، وهي القراءة والكتابة والتكلّم والإصغاء. وعدم ممارسة أيّ من هذه المهارات يترك تأثيره في عملية التعلّم، وواقع الحال في مدارسنا هو أن المهارتين الأخيرتين مهمّشتان إلى حدٍّ كبير إن لم تكونا غائبتين، ما يُخلُّ بتعلّمية اللّغة العربية.

   لعلّ إغراق المتعلّم في عدد كبير من الموادّ التعلّمية، وانصرافه عن المطالعة، وعيشه ازدواجية اللّغة الأمّ في المدرسة والمجتمع، وانشغاله بوسائل التواصل الحديثة، وسواها من العوامل، تفسّر التراجع في مكتسباته اللّغوية، سواءٌ على مستوى المفردة أو التركيب.

  1. في سبل المعالجة.

   إذا كان الشاعر العربي أبو نؤاس قال، ذات شطر: "وداوني بالتي كانت هي الداء"، فإن معالجة التراجع في تعلّمية اللّغة العربية ينبغي أن تنطلق من الثغرات التي تَعْتَوِر كلاًّ من أدوات التعلّم المذكورة أعلاه، ممّا نبيّنه فيما يلي.

أ- في المناهج والكتاب المدرسي الوطني.

   لعلّ الخطوة البديهية الأولى التي ينبغي الإقدام عليها، في هذا السياق، هي تنفيذ المادّة 3 من المرسوم 10227 تاريخ 8 أيار 1997 التي تنصّ على أن "تُعتبر المناهج التعليمية قيد الدراسة المستمرّة من قبل المركز التربوي للبحوث والإنماء، وتجري إعادة النظر فيها كلّ أربع سنوات على الأقل، تُعدّل بنتيجتها المناهج وفقًا  للأصول". ومن الطبيعي أن تقوم بذلك لجان متخصّصة من ذوي الخبرة والكفاءة، في ضوء معطيات علم المناهج الراهنة، وأن تتدارك الملاحظات المشار إليها أعلاه وسواها، وأن تُدخل التعديلات اللازمة على الكتاب المدرسي الوطني بما ينسجم مع المناهج المعدّلة، ويرفع التهميش عن فروع المادّة ذات الصلة، ويُولي مهارتي الإصغاء والتعبير الاهتمام اللازم، وأن تشمل التعديلات آليّة اختيار النصوص وطولها وطريقة تحليلها...

ب- في طرائق التدريس.

   إن اختيار طرائق التدريس الناشطة في ضوء إمكانات الموارد المادّية المتاحة في المدرسة من شأنه أن ينعكس إيجابًا على تعلّمية اللّغة العربية.  ولا شك أن الإنتاجية المترتّبة على اختيار مثل هذه الطرائق هي غير تلك الناجمة عن اختيار الطرائق التلقينية. وهذا يتطلّب انتقال المحورية في عملية التعلّم من المعلّم إلى المتعلّم. وإذا كان ثمة صعوبة في بعض المدارس في تغيير الموارد المادّية من قاعات وغرف تدريس يصعب فيها تطبيق الطرائق الناشطة، فإن تطوير الموارد البشرية أمر ممكن إذا ما توافرت الإرادة الصادقة والعمل المخلص.

ج- في بيئة التعلّم.

   إذا كان من الصعوبة بمكان تغيير بيئة التعلّم الأوسع/ المجتمع، لاعتبارات تخرج عن قدرة المعنيين بعملية التعلّم، فإن تغيير البيئة الأضيق/ المدرسة والصفّ هو أمر يمكن تحقيقه. إن البيئة المرنة، المحفّزة، الناشطة، الديمقراطية، من شأنها أن تجعل عملية التعلّم أكثر إمتاعًا في المواد المختلفة. ولعلّ الأنشطة اللاصفّية التي يُمكن ممارستها في مثل هذه البيئة تتيح للّغة العربية مجالاً أوسع للتحقّق؛ فالخطابة، والإلقاء، والإنشاد، والحوار، وإبداء الرأي، والتمثيل... مهارات لغوية يمكن تحقيقها داخل الصفّ، وخارجه، في الملعب، والمسرح، والحفلات المدرسية، والأنشطة المختلفة.

د- في المعلّم.

   إن المعلّم الذي يكتفي بمعارفه ومهاراته، ولا يسعى إلى زيادتها وتطويرها، إنّما يحكم على نفسه بالعقم والجمود، ويُخرجها من حيّز الفاعلية والتأثير. وعلى المعلّم يتوقّف إلى حدّ كبير تحقيق تعلّمية اللّغة العربية. من هنا، إن اختيار المعلّم المناسب، على مستوى الإعداد والتدريب واللّغة وطريقة التدريس والتحضير العملي والكتابي، هو شرط لازم للحدّ من تراجع اللّغة العربية، واستطرادًا، تحقيق تعلّميتها.

هـ- في المتعلّم.

   لكي يتعلّم المتعلّم اللّغة، أيّ لغة، عليه أن يستخدم مهارات القراءة والكتابة والتكلّم والإصغاء. وثمة ترافد بين هذه المهارات بحيث إن استخدام إحداها يعزّز الأخرى. وعليه، يقترح بعض الباحثين تنمية المخزون المعجمي، والالتزام بأصول الحوار، وتدريب المتعلّمين على الارتجال وتسويغ الآراء، وإدارة المعاني المضمرة، والقراءة الجهرية لإكساب المتعلّم مهارة الكلام والتحدّث أمام الجمهور والتواصل مع الآخرين. ويرى أن اكتشاف مكامن الجمال في النصوص الشعرية والنثرية ينميّ الذائقة الفنية للمتعلّم والميل إلى التعبير الفني، وأن بثّ حبّ الكتابة في نفوس المتعلّمين يُكسبهم هذه الكفاية(21). على أن تحقيق هذا كلّه يستلزم توافر سائر أدوات التعلّم، وقيام كلّ منها بدورها ولا سيّما المعلّم.

5- خاتمة.

   إن تعلّمية اللّغة العربية هو مسار تراكمي، تكاملي طويل، لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها، ويستدعي تضافر جميع الجهود وقيام كلّ من أدوات التعلّم آنفة الذكر بدورها في سياق تكاملي فيما بينها، مع العلم أن هذه الأدوات ليست على الدرجة نفسها من الأهمّية.

   لعلّ الأدوار التي تنهض بها اللّغة الأمّ، من حيث هي لغة تواصل وتفكير وتعبير وإبداع وهوية وتراث ومعرفة، تجعل النهوض بها واجبًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا ووطنيًّا وقوميًّا، وتستلزم استنفار الجهود المخلصة،  في المدرسة والمجتمع المدني، للقيام بهذا الواجب. فالشعوب التي لا تحترم لغاتها محكوم عليها بالخروج من التاريخ والحضارة.


  1. لسان العرب، المجلّد 12، مادة (لغو). والمعجم الوسيط، المجلّد 2، ص 837.
  2. هدى سالم طه، مجلة عالم الفكر، العدد 3، المجلّد 42، آذار 2014، ص 241.
  3. عبد الرحمن عبد الهاشمي وفائزة محمد العزاوي، مجلة الطفولة العربية، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية،العدد 58، ص 54.
  4. أنطون صيّاح، تعلّمية اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، دار النهضة العربية، بيروت 2014، ص 161، 162.
  5. مناهج التعليم العام وأهدافها الصادرة بالمرسوم 10227 تاريخ 8 أيار 1997، ص 41.
  6. التعاميم الثلاثة هي: 29/م/97 تاريخ 1 آب 1997، 31/م/98 تاريخ 1 تموز 1998، 15/م/99 تاريخ 30 نيسان 1999.
  7. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 21.
  8. تفاصيل محتوى منهج مادّة اللغة العربية وآدابها الصادرة بالتعميم 29/م/97 تاريخ 1 آب 1997، ص 95 وما يليها.
  9. يوسف مارون، طرائق التعليم بين النظرية والممارسة، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس 2008، ص 10.
  10. عبد الرحمن عبد الهاشمي وفائزة محمد العزاوي، مرجع سابق، ص 55.
  11. عيسى خليل أحمد الحسنات، مجلة الطفولة العربية، مرجع سابق، ص 10.
  12. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 20، 21، 22، 23، 24، 25، 26، 27.
  13. التعاميم الثلاثة، مرجع سابق.
  14. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 11.
  15. المرجع نفسه، مرجع سابق، ص 56، 57.
  16. الدكتور جوزف الياس، دراسة غير منشورة، ص 1، 3.
  17. نصّ المرسوم 10227 في مادّته الثالثة على "إعادة النظر في المناهج كلّ أربع سنوات على الأقل، تعدّل بنتيجتها وفقًا للأصول".
  18. يوسف مارون، مرجع سابق، ص 199، 200، 201، 202، 203.
  19. تفاصيل محتوى منهج مادّة اللغة العربية وآدابها، مرجع سابق، ص 95.
  20. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 10، 172.
  21. المرجع نفسه، ص 40، 49، 50، 105، 119، 133، 134، 161.

اللّغة العربية التعلُّمية بين الواقع والمرتجى

(مقاربة نظرية – ميدانية)اللّغة العربية التعلُّمية بين الواقع والمرتجى

  1. مقدمة.

   جاء في المعاجم أن اللّغة "أصوات يعبِّر بها كلّ قوم عن أغراضهم"(1). وجاء في الاستعمال أن اللّغة ظاهرة بسيكولوجية ثقافية تتألّف من رموز صوتية لغوية، مسموعة ومكتوبة، اكتسبت معانيها عن طريق الاختبار، وبها يتم التفاهم والتفاعل. وأنها "ظاهرة اجتماعية تخضع لتأثير مجتمعاتها، ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا"(2). وأنها "الأداة المعبّرة عن حركة المجتمع وتطوّره، وهي مخزون تراث الأمّة وقيمها ومفاهيمها، وأداة ربط بين حاضر الأمة ومستقبلها"(3). وحين يتعلّق الأمر باللّغة الأم تغدو اللّغة مكوّنًا من مكوّنات الهويّة الحضارية.

وعليه، تكون اللّغة وسيلة تواصل، وأداة إبداع، وناقل معرفة، ووعاء فكر، وحافظ تراث، ومكوّنًا من مكوّنات الهوية. وانطلاقًا من أهمّيّة هذه الوظائف وخطورتها، لا يعود إتقان اللّغة مجرّد ترف معرفي بل يغدو واجبًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا ومعرفيًّا ووطنيًّا. من هنا، من الطبيعي أن يقترن، أيّ إخلال بهذا الواجب المتعدّد، بالقلق، وأن يثير تراجع التحصيل التعلّمي اللّغوي اهتمام المراجع المسؤولة، ويستدعي دراسة الأسباب واقتراح سبل المعالجة.

  1. اللّغة العربية في المناهج.

   يتناول حضور اللّغة العربية في مناهج التعليم العام الصادرة بالمرسوم 10227 تاريخ 8 أيار 1997 عدد حصص التدريس الأسبوعية، الأهداف العامّة، المحتوى، وتوجيهات في طرائق التدريس.

  • من حيث عدد حصص التدريس، تساوي المناهج بين اللّغة العربية، اللغة الأمّ للمتعلّم، واللّغة الأجنبية الأولى في جميع صفوف التعليم العام ما قبل الجامعي، وإذا ما أضفنا الحصص المخصّصة للّغة الأجنبية الثانية، بدءًا من السنة السابعة من مرحلة التعليم الأساسي حتى السنة الثالثة الثانوية، يكون الميزان قد مال لمصلحة اللّغة الأجنبية، الأولى والثانية. وكان الأحرى به أن يميل لمصلحة اللّغة الأم في المرحلة الابتدائية من التعليم الأساسي على الأقل، لأنها المرحلة المعنية بتكوين المعجم الخطّي للطفل، ولأنها "أكثر المراحل حساسية لتكوين المتعلّم لمخزونه المعجمي، ذلك أن المتعلّم يكون في هذه المرحلة من عمره الأكثر تقبّلاً للمفردات، والأكثر قدرة على استيعابها والتدرّب على استثمارها في السياقات المختلفة..."(4).
  • من حيث الأهداف العامّة، تحدّد المناهج ثلاثين هدفًا عامًّا يُسهم تعليم اللّغة العربية في تحقيقها. يهدف ثلثاها إلى "بناء شخصية المتعلّم الفرد والمواطن" بأبعادها الفكرية والوجدانية والسلوكية والروحية والأخلاقية والعلمية والنقدية والمعرفية والجمالية والفنية والتراثية والذاتية والاجتماعية والثقافية والوطنية والقومية والإنسانية...، ويهدف الثلث الأخير من الأهداف العامّة، المقتصر على عشرة أهداف، إلى "تعزيز كفاية المتعلم اللّغوية"، ويتوزّع على: ربط اللّغة بالحياة، مستوى اللّغة، قواعدها، نظامها، تقنيّاتها، معجمها، مهارات تعلّمها، وكيفية اكتسابها. وهكذا، يستأثر الشقّ التربوي بأبعاده المختلفة بثلثي الأهداف العامّة، ويبقى للشقّ اللّغوي ثلثًا واحدًا، وكان الأفضل تغليب الشقّ الثاني على الأوّل أو التوازن بينهما، على الأقل(5).
  • من حيث المحتوى، وتطبيقًا للمادة 6 من المرسوم 10227/1997، صدرت عن وزارة التربية الوطنية والشباب والرياضة، في حينه، ثلاثة تعاميم تحدّد تفاصيل محتوى مادّة منهج اللّغة العربية من حيث المضمون والأهداف التعلّمية والوسائل والأنشطة، ويتناول المحتوى سائر فروع المادّة، ويُراعي مقتضيات التوسّع والشمول والتنوّع، ويشتمل على تفاصيل واضحة، ما يجعل منهج اللّغة العربية منسجمًا مع معطيات علم المناهج في المرحلة التي صدر فيها(6).
  • من حيث التوجيهات في طرائق التدريس، يأخذ بعضهم عليها تقليديّتها، وعدم فتحها أفقًا واسعًا للتجدّد، وتضييق هامش الابتكار أمام المعلّمين(7). مع العلم أن هذه الرؤية تجانب الواقع، فالتوجيهات في مقدّمتها تركّز على "المبادرة الشخصية والاختيار الحر والتربية الذاتية" في اختيار طريقة التدريس، وتُقدّم في المتن مجموعة من المبادىء والمقترحات التربوية التي تُصوّب المسار، ولا تعلّب العملية التعلّمية، في الوقت نفسه(8).
  1. اللّغة العربية في الواقع المدرسي.

   كثُر في الآونة الأخيرة الكلام على تراجع تعلّمية اللّغة العربية في لبنان ولا سيّما بعد تدنّي نسبة النجاح في مسابقة اللّغة العربية في امتحانات الشهادة المتوسّطة في الدورة العادية للعام 2013، فعلى الرغم من الموقع الذي تشغله "بين الموادّ الدراسية في جميع مراحل التعليم"، والدور المتعدّد الذي تنهض به في المجتمع "كأداة للتفكير والحياة ووسيلة اتصال وتفاهم، ونقل التراث الفكري والإنساني، تجمع أبناء الوطن على وحدة من الفكر والمثل والتقاليد الخالدة والشعور بالوطنية والقومية"، "ما زالت تعاني حالة من القصور في تحقيق الكفايات والأهداف الخاصّة والعامّة، على مستوى المردود المدرسي في تطبيق المناهج، وما تحتاج إليه من وسائل تربوية، وكتب مساعدة، وتجهيزات تعلّمية، وإعداد المعلّم الذي هو حجر الزاوية في كلّ تطوّر علمي"(9).

   على أن التراجع في تعلّمية اللّغة العربية لا يقتصر على لبنان وحسب، بل يتعدّاه إلى دول أخرى في العالم العربي، وقد يكون حالة عربية عامّة؛ ففي الأردن، على سبيل المثال، "هناك ما يشير إلى وجود مشكلات لدى الكثير ممّن يشتغلون في تدريس اللّغة العربية، تتمثّل في صعوبة تعلّمها بشكل عام، وضعف مهارة التعبير بشكل خاص". وثمة من يعزو "ضعف الطلبة في اللّغة عمومًا والكلام خصوصًا إلى ضعف المنهج والمحتوى، وغياب الاستراتيجيات التعلّمية التي من شأنها إبراز الأنشطة المدرسية التي تحفّز على ممارسة هذا الفن التعبيري بأشكاله المختلفة من خطابة ودعوة وشكر واعتذار واستقبال وتوديع...". والمشكلة نفسها قائمة في مصر، "ومن مظاهر الضعف الطلابي [هناك] ما يتعلّق بمواجهة الجمهور من خوف وخجل وارتباك، وعدم الجرأة في الكلام، ومنها ما يتّصل بالأفكار، حيث يمكن وصفها بالضحالة والغموض وعدم الترابط، ما يجعل توضيحها أمرًا صعبًا"(10).

   وإذا كانت أدوات التعلّم تتكوّن من: "المنهاج المدرسي باعتباره الوسيلة التي يتمّ استخدامها من أجل خلق جيل متعلّم قادر على التعايش في ظلّ أيّ مجتمع وتحت أي ظرف، وطرائق التدريس المختلفة التي سيتمّ إيصال المنهج من خلالها إلى الطلبة، وبيئة التعلّم التي ستحتضن عملية التعلّم داخل المدرسة أو خارجها، والمعلّم الذي سيقود عملية التعليم من خلال فكره وثقافته، والمهارات التي يمتلكها، والتدريب الذي يتلقّاه، وأخيرًا الطالب الذي يُعتبَر محور العملية التعلّمية"(11)، فإن رصد تراجع تعلّمية اللّغة العربية في الواقع المدرسي يستدعي التوقّف عند كلّ من هذه الأدوات، وتلمّس دورها في عملية التراجع.

أ- في المناهج والكتاب المدرسي الوطني.

   شكّلت المناهج الصادرة عام 1997 خطوة نوعية في الاتجاه الصحيح، بعد نيّف وثلاثين عامًا من الجمود. وفي مقارنة بين هذه المناهج وتلك الصادرة في العامين 1946 و1971، يخلص الباحث التربوي الدكتور أنطوان صيّاح إلى أن الأولى "هي الأكثر تفصيلاً والأكثر وضوحًا والأكثر تطابقًا مع معطيات علم المناهج التي كانت سائدة في العقد الأخير من القرن العشرين".

   غير أنه يأخذ على مناهج اللّغة العربية: عدم توسيع الأهداف اللّغوية، غياب مفهوم الوحدة عن أنشطتها، عدم ذكر مفهوم الكفاية والاكتفاء بمكوّناته، عدم وضوح الأسس التي تعتمدها، تغييب مفهوم الثقافة اللبنانية المعاصرة، غياب مفهوم الترافد اللّغوي، غياب مفهوم العامّية، عدم التطرّق إلى مفهوم اللّغة العربية الشفهية، وتهميش المطالعة...(12). وإذا كان بعض هذه المآخذ ينعكس سلبًا على تعلّمية اللّغة العربية، فإن بعضها الآخر لن تكون له، بالضرورة، مثل هذا الانعكاس، كغياب مفهوم العامّية، وتغييب الثقافة المحلّية... مع العلم أن مفهوم الكفاية جرى ذكره في تفاصيل محتوى منهج مادّة اللّغة العربية وآدابها، الصادرة في ثلاثة تعاميم إدارية(13).

   وبالانتقال إلى الكتاب المدرسي الوطني، يقع الدكتور صيّاح في التعميم، ويذهب إلى الحد الأقصى، حين يرى أن "الكتب التعلّمية التي وضعت بين أيدي المتعلّمين منذ العام 1997، تاريخ وضع المناهج التعليمية موضع التنفيذ، لم تعد بمجملها صالحة لشعور المتعلّمين بصعوبتها، ولطول نصوصها وعدم تناسبها مع ميول المتعلّمين، ولعدم تناسب طريقة التحليل المعتمَدة فيها مع اتجاهات التحليل اللّغوية الحديثة"، من دون أن يشير إلى ما في هذه الكتب من إيجابيات(14).

   وإذا كان المقام لا يتسع لإبداء سائر الملاحظات على الكتاب المدرسي الوطني، في الصفوف المختلفة، فإننا سنكتفي بملاحظتين اثنتين؛ الأولى، تتعلّق بطول النصوص في كتب الحلقة الأولى من التعليم الأساسي مقارنةً بالحدّ الأقصى المقبول لعدد الكلمات تربويًّا. وإذا كانت القاعدة المعتمَدة في ذلك تنطلق من العمر الزمني للمتعلّم، فتحدّد الحدّ الأقصى للنص ب98 كلمة في السنة الأولى، و128 كلمة في السنة الثانية، و168 كلمة في السنة الثالثة، فإن معظم النصوص في كتب هذه الحلقة تتخطّى الحدّ الأقصى المقبول(15).

   الملاحظة الثانية، تتعلّق بكتاب القراءة في السنة التاسعة من التعليم الأساسي، ففي دراسة غير منشورة، يشير الباحث اللّغوي الدكتور جوزف الياس إلى عدم صلة بعض محاور الكتاب بالمنهج، وقصوره عن تحقيق الأهداف، وخلوّه من بعض المصطلحات والتقنيّات كالأنماط والتلخيص...(16).

   إن هذه الملاحظات وسواها، على أهمّيتها، لا ينبغي أن تحجب الإيجابيات الكثيرة في المنهج والكتاب، لكنها تستدعي إعادة النظر بكليهما، على وجه السرعة ودون تسرّع، بما يؤدي إلى تدارك السلبيات وتعزيز الإيجابيات، الأمر الذي تأخّر عن موعده ثلاثة عشر عامًا حتى الآن(17).

ب- في طرائق التدريس.

   كثيرة هي طرائق التدريس ومتنوّعة، وتختلف من مادّة تعلّمية إلى أخرى، ومن فرع إلى آخر ضمن المادّة الواحدة. ويتوقّف على اعتماد الطريقة المناسبة نجاح المعلّم في عمله وتحقيق أهداف الدرس، واستطرادًا المادّة. وهي على قدر من الخطورة إلى حدّ أن ينسب بعضهم إلى الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون قوله: "إن اختيار طريقة التعليم أهم في مصلحة الأمّة من اختيار حكومة مناسبة."

   وعلى كثرة الطرائق وتنوّعها، يمكن تصنيفها بين مجموعتين اثنتين؛ تلقينية، تقوم على محورية المعلّم، والنظرية، والسلطوية، والمحاضرة، والتعليم، والإلقاء، والجمود. وناشطة، تقوم على محورية المتعلّم، والعملية، والديمقراطية، والاستجواب، والتعلّم، والحوار، والتكيّف. وعلى تربوية هذه المجموعة الأخيرة وحداثتها، فإن تطبيقها في مدارسنا كثيرًا ما يصطدم بعوائق، منها: عدم وجود الوسائل المعينة واللوحات المساعدة والقاعات الواسعة والمعلّمين المدرّبين، ما يؤدّي إلى اعتماد التلقين مع ما يترتّب عليه من نتائج سلبية في تدريس اللّغة العربية وسواها(18).

ج- في بيئة التعلّم.

   إن افتقار بيئة التعلّم المدرسية إلى الأطر المادّية لتطبيق الطرائق الناشطة، وعدم استخدام المستوى اللّغوي المناسب من المعلّمين والمتعلّمين، وتهميش مهارتي الإصغاء والتعبير الشفهي، وتغييب، فرع المطالعة، وعدم توافر الحوافز المناسبة هي عوامل مؤثّرة في تعلّمية اللّغة العربية والتحصيل التعلّمي. وإذا ما انتقلنا إلى البيئة الاجتماعية الأوسع، نرى أن النظرة إلى اللّغة العربية تتراوح بين حدّين اثنين: الأوّل يعتبرها من الماضي، والثاني يعتبرها عاجزة عن تلبية طموحات المستقبل واستيعاب التطوّرات العلمية والتواصلية المتسارعة، والحدّان ظالمان. ناهيك بالازدواجية اللّغوية بين الفصحى والمحكية، مع العلم أن المسافة الفاصلة بين هذين المستويين هي في اللّغة العربية أطول منها في اللّغات الأخرى. وهذه العوامل تنعكس سلبًا على أداء المتعلّم وتحصيله اللّغوي.

د- في المعلّم.

   إن عدم توافر المعلّم المناسب، والنظرة السلبية المسبقة إلى عملية التدريب، وعدم استخدام المستوى اللّغوي المناسب، وقعود المعلّم دون السعي إلى تعزيز معارفه اللّغوية وتطوير قدراته التربوية، وعدم اعتماده طريقة التدريس المناسبة، وتحويل العملية التعلّمية التي يكون المتعلّم محورها إلى عملية تعليمية محورها المعلّم، هي عناصر موجودة في مدارس كثيرة، ولا بد أن تترك أثرها  في تعلّمية اللّغة العربية.

هـ- في المتعلّم.

   " من أبرز المبادىء التربوية الواجب مراعاتها في طرائق التدريس اعتبار المتعلّم محور العملية التربوية"(19). غير أن الواقع المدرسي لا يراعي هذا المبدأ بالقدر الكافي، في ضوء عدم قدرة عدد كبير من المعلّمين على التحرّر من الإطار التقليدي للمعلّم، الأمر الذي ينعكس على أداء المتعلّم في المواد المختلفة. ويرى بعضهم أن الواقع التربوي في تعليم اللّغة العربية يميل إلى التراجع في مكتسبات المتعلّمين اللّغوية، الأمر الذي يتذمّر منه المعلّمون في الأنشطة التعلّمية اللّغوية كافّة. ويعزو هذا التراجع، في جانب منه، إلى "الفقر المزمن للمخزون المعجمي للمتعلّمين الذي إذا لم نحسن علاجه نَفَرَ المتعلّمون من لغتهم واستقالوا من مهمّة تطويرها"(20). ويمكن أن نضيف إلى ذلك الفقر المزمن في القدرة على تركيب هذا المخزون.

   إن تعلّم اللّغة، أي لغة، لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بممارسة المهارات الأربع المعروفة عالميًّا، وهي القراءة والكتابة والتكلّم والإصغاء. وعدم ممارسة أيّ من هذه المهارات يترك تأثيره في عملية التعلّم، وواقع الحال في مدارسنا هو أن المهارتين الأخيرتين مهمّشتان إلى حدٍّ كبير إن لم تكونا غائبتين، ما يُخلُّ بتعلّمية اللّغة العربية.

   لعلّ إغراق المتعلّم في عدد كبير من الموادّ التعلّمية، وانصرافه عن المطالعة، وعيشه ازدواجية اللّغة الأمّ في المدرسة والمجتمع، وانشغاله بوسائل التواصل الحديثة، وسواها من العوامل، تفسّر التراجع في مكتسباته اللّغوية، سواءٌ على مستوى المفردة أو التركيب.

  1. في سبل المعالجة.

   إذا كان الشاعر العربي أبو نؤاس قال، ذات شطر: "وداوني بالتي كانت هي الداء"، فإن معالجة التراجع في تعلّمية اللّغة العربية ينبغي أن تنطلق من الثغرات التي تَعْتَوِر كلاًّ من أدوات التعلّم المذكورة أعلاه، ممّا نبيّنه فيما يلي.

أ- في المناهج والكتاب المدرسي الوطني.

   لعلّ الخطوة البديهية الأولى التي ينبغي الإقدام عليها، في هذا السياق، هي تنفيذ المادّة 3 من المرسوم 10227 تاريخ 8 أيار 1997 التي تنصّ على أن "تُعتبر المناهج التعليمية قيد الدراسة المستمرّة من قبل المركز التربوي للبحوث والإنماء، وتجري إعادة النظر فيها كلّ أربع سنوات على الأقل، تُعدّل بنتيجتها المناهج وفقًا  للأصول". ومن الطبيعي أن تقوم بذلك لجان متخصّصة من ذوي الخبرة والكفاءة، في ضوء معطيات علم المناهج الراهنة، وأن تتدارك الملاحظات المشار إليها أعلاه وسواها، وأن تُدخل التعديلات اللازمة على الكتاب المدرسي الوطني بما ينسجم مع المناهج المعدّلة، ويرفع التهميش عن فروع المادّة ذات الصلة، ويُولي مهارتي الإصغاء والتعبير الاهتمام اللازم، وأن تشمل التعديلات آليّة اختيار النصوص وطولها وطريقة تحليلها...

ب- في طرائق التدريس.

   إن اختيار طرائق التدريس الناشطة في ضوء إمكانات الموارد المادّية المتاحة في المدرسة من شأنه أن ينعكس إيجابًا على تعلّمية اللّغة العربية.  ولا شك أن الإنتاجية المترتّبة على اختيار مثل هذه الطرائق هي غير تلك الناجمة عن اختيار الطرائق التلقينية. وهذا يتطلّب انتقال المحورية في عملية التعلّم من المعلّم إلى المتعلّم. وإذا كان ثمة صعوبة في بعض المدارس في تغيير الموارد المادّية من قاعات وغرف تدريس يصعب فيها تطبيق الطرائق الناشطة، فإن تطوير الموارد البشرية أمر ممكن إذا ما توافرت الإرادة الصادقة والعمل المخلص.

ج- في بيئة التعلّم.

   إذا كان من الصعوبة بمكان تغيير بيئة التعلّم الأوسع/ المجتمع، لاعتبارات تخرج عن قدرة المعنيين بعملية التعلّم، فإن تغيير البيئة الأضيق/ المدرسة والصفّ هو أمر يمكن تحقيقه. إن البيئة المرنة، المحفّزة، الناشطة، الديمقراطية، من شأنها أن تجعل عملية التعلّم أكثر إمتاعًا في المواد المختلفة. ولعلّ الأنشطة اللاصفّية التي يُمكن ممارستها في مثل هذه البيئة تتيح للّغة العربية مجالاً أوسع للتحقّق؛ فالخطابة، والإلقاء، والإنشاد، والحوار، وإبداء الرأي، والتمثيل... مهارات لغوية يمكن تحقيقها داخل الصفّ، وخارجه، في الملعب، والمسرح، والحفلات المدرسية، والأنشطة المختلفة.

د- في المعلّم.

   إن المعلّم الذي يكتفي بمعارفه ومهاراته، ولا يسعى إلى زيادتها وتطويرها، إنّما يحكم على نفسه بالعقم والجمود، ويُخرجها من حيّز الفاعلية والتأثير. وعلى المعلّم يتوقّف إلى حدّ كبير تحقيق تعلّمية اللّغة العربية. من هنا، إن اختيار المعلّم المناسب، على مستوى الإعداد والتدريب واللّغة وطريقة التدريس والتحضير العملي والكتابي، هو شرط لازم للحدّ من تراجع اللّغة العربية، واستطرادًا، تحقيق تعلّميتها.

هـ- في المتعلّم.

   لكي يتعلّم المتعلّم اللّغة، أيّ لغة، عليه أن يستخدم مهارات القراءة والكتابة والتكلّم والإصغاء. وثمة ترافد بين هذه المهارات بحيث إن استخدام إحداها يعزّز الأخرى. وعليه، يقترح بعض الباحثين تنمية المخزون المعجمي، والالتزام بأصول الحوار، وتدريب المتعلّمين على الارتجال وتسويغ الآراء، وإدارة المعاني المضمرة، والقراءة الجهرية لإكساب المتعلّم مهارة الكلام والتحدّث أمام الجمهور والتواصل مع الآخرين. ويرى أن اكتشاف مكامن الجمال في النصوص الشعرية والنثرية ينميّ الذائقة الفنية للمتعلّم والميل إلى التعبير الفني، وأن بثّ حبّ الكتابة في نفوس المتعلّمين يُكسبهم هذه الكفاية(21). على أن تحقيق هذا كلّه يستلزم توافر سائر أدوات التعلّم، وقيام كلّ منها بدورها ولا سيّما المعلّم.

5- خاتمة.

   إن تعلّمية اللّغة العربية هو مسار تراكمي، تكاملي طويل، لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها، ويستدعي تضافر جميع الجهود وقيام كلّ من أدوات التعلّم آنفة الذكر بدورها في سياق تكاملي فيما بينها، مع العلم أن هذه الأدوات ليست على الدرجة نفسها من الأهمّية.

   لعلّ الأدوار التي تنهض بها اللّغة الأمّ، من حيث هي لغة تواصل وتفكير وتعبير وإبداع وهوية وتراث ومعرفة، تجعل النهوض بها واجبًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا ووطنيًّا وقوميًّا، وتستلزم استنفار الجهود المخلصة،  في المدرسة والمجتمع المدني، للقيام بهذا الواجب. فالشعوب التي لا تحترم لغاتها محكوم عليها بالخروج من التاريخ والحضارة.


  1. لسان العرب، المجلّد 12، مادة (لغو). والمعجم الوسيط، المجلّد 2، ص 837.
  2. هدى سالم طه، مجلة عالم الفكر، العدد 3، المجلّد 42، آذار 2014، ص 241.
  3. عبد الرحمن عبد الهاشمي وفائزة محمد العزاوي، مجلة الطفولة العربية، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية،العدد 58، ص 54.
  4. أنطون صيّاح، تعلّمية اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، دار النهضة العربية، بيروت 2014، ص 161، 162.
  5. مناهج التعليم العام وأهدافها الصادرة بالمرسوم 10227 تاريخ 8 أيار 1997، ص 41.
  6. التعاميم الثلاثة هي: 29/م/97 تاريخ 1 آب 1997، 31/م/98 تاريخ 1 تموز 1998، 15/م/99 تاريخ 30 نيسان 1999.
  7. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 21.
  8. تفاصيل محتوى منهج مادّة اللغة العربية وآدابها الصادرة بالتعميم 29/م/97 تاريخ 1 آب 1997، ص 95 وما يليها.
  9. يوسف مارون، طرائق التعليم بين النظرية والممارسة، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس 2008، ص 10.
  10. عبد الرحمن عبد الهاشمي وفائزة محمد العزاوي، مرجع سابق، ص 55.
  11. عيسى خليل أحمد الحسنات، مجلة الطفولة العربية، مرجع سابق، ص 10.
  12. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 20، 21، 22، 23، 24، 25، 26، 27.
  13. التعاميم الثلاثة، مرجع سابق.
  14. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 11.
  15. المرجع نفسه، مرجع سابق، ص 56، 57.
  16. الدكتور جوزف الياس، دراسة غير منشورة، ص 1، 3.
  17. نصّ المرسوم 10227 في مادّته الثالثة على "إعادة النظر في المناهج كلّ أربع سنوات على الأقل، تعدّل بنتيجتها وفقًا للأصول".
  18. يوسف مارون، مرجع سابق، ص 199، 200، 201، 202، 203.
  19. تفاصيل محتوى منهج مادّة اللغة العربية وآدابها، مرجع سابق، ص 95.
  20. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 10، 172.
  21. المرجع نفسه، ص 40، 49، 50، 105، 119، 133، 134، 161.

اللّغة العربية التعلُّمية بين الواقع والمرتجى

(مقاربة نظرية – ميدانية)اللّغة العربية التعلُّمية بين الواقع والمرتجى

  1. مقدمة.

   جاء في المعاجم أن اللّغة "أصوات يعبِّر بها كلّ قوم عن أغراضهم"(1). وجاء في الاستعمال أن اللّغة ظاهرة بسيكولوجية ثقافية تتألّف من رموز صوتية لغوية، مسموعة ومكتوبة، اكتسبت معانيها عن طريق الاختبار، وبها يتم التفاهم والتفاعل. وأنها "ظاهرة اجتماعية تخضع لتأثير مجتمعاتها، ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا"(2). وأنها "الأداة المعبّرة عن حركة المجتمع وتطوّره، وهي مخزون تراث الأمّة وقيمها ومفاهيمها، وأداة ربط بين حاضر الأمة ومستقبلها"(3). وحين يتعلّق الأمر باللّغة الأم تغدو اللّغة مكوّنًا من مكوّنات الهويّة الحضارية.

وعليه، تكون اللّغة وسيلة تواصل، وأداة إبداع، وناقل معرفة، ووعاء فكر، وحافظ تراث، ومكوّنًا من مكوّنات الهوية. وانطلاقًا من أهمّيّة هذه الوظائف وخطورتها، لا يعود إتقان اللّغة مجرّد ترف معرفي بل يغدو واجبًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا ومعرفيًّا ووطنيًّا. من هنا، من الطبيعي أن يقترن، أيّ إخلال بهذا الواجب المتعدّد، بالقلق، وأن يثير تراجع التحصيل التعلّمي اللّغوي اهتمام المراجع المسؤولة، ويستدعي دراسة الأسباب واقتراح سبل المعالجة.

  1. اللّغة العربية في المناهج.

   يتناول حضور اللّغة العربية في مناهج التعليم العام الصادرة بالمرسوم 10227 تاريخ 8 أيار 1997 عدد حصص التدريس الأسبوعية، الأهداف العامّة، المحتوى، وتوجيهات في طرائق التدريس.

  • من حيث عدد حصص التدريس، تساوي المناهج بين اللّغة العربية، اللغة الأمّ للمتعلّم، واللّغة الأجنبية الأولى في جميع صفوف التعليم العام ما قبل الجامعي، وإذا ما أضفنا الحصص المخصّصة للّغة الأجنبية الثانية، بدءًا من السنة السابعة من مرحلة التعليم الأساسي حتى السنة الثالثة الثانوية، يكون الميزان قد مال لمصلحة اللّغة الأجنبية، الأولى والثانية. وكان الأحرى به أن يميل لمصلحة اللّغة الأم في المرحلة الابتدائية من التعليم الأساسي على الأقل، لأنها المرحلة المعنية بتكوين المعجم الخطّي للطفل، ولأنها "أكثر المراحل حساسية لتكوين المتعلّم لمخزونه المعجمي، ذلك أن المتعلّم يكون في هذه المرحلة من عمره الأكثر تقبّلاً للمفردات، والأكثر قدرة على استيعابها والتدرّب على استثمارها في السياقات المختلفة..."(4).
  • من حيث الأهداف العامّة، تحدّد المناهج ثلاثين هدفًا عامًّا يُسهم تعليم اللّغة العربية في تحقيقها. يهدف ثلثاها إلى "بناء شخصية المتعلّم الفرد والمواطن" بأبعادها الفكرية والوجدانية والسلوكية والروحية والأخلاقية والعلمية والنقدية والمعرفية والجمالية والفنية والتراثية والذاتية والاجتماعية والثقافية والوطنية والقومية والإنسانية...، ويهدف الثلث الأخير من الأهداف العامّة، المقتصر على عشرة أهداف، إلى "تعزيز كفاية المتعلم اللّغوية"، ويتوزّع على: ربط اللّغة بالحياة، مستوى اللّغة، قواعدها، نظامها، تقنيّاتها، معجمها، مهارات تعلّمها، وكيفية اكتسابها. وهكذا، يستأثر الشقّ التربوي بأبعاده المختلفة بثلثي الأهداف العامّة، ويبقى للشقّ اللّغوي ثلثًا واحدًا، وكان الأفضل تغليب الشقّ الثاني على الأوّل أو التوازن بينهما، على الأقل(5).
  • من حيث المحتوى، وتطبيقًا للمادة 6 من المرسوم 10227/1997، صدرت عن وزارة التربية الوطنية والشباب والرياضة، في حينه، ثلاثة تعاميم تحدّد تفاصيل محتوى مادّة منهج اللّغة العربية من حيث المضمون والأهداف التعلّمية والوسائل والأنشطة، ويتناول المحتوى سائر فروع المادّة، ويُراعي مقتضيات التوسّع والشمول والتنوّع، ويشتمل على تفاصيل واضحة، ما يجعل منهج اللّغة العربية منسجمًا مع معطيات علم المناهج في المرحلة التي صدر فيها(6).
  • من حيث التوجيهات في طرائق التدريس، يأخذ بعضهم عليها تقليديّتها، وعدم فتحها أفقًا واسعًا للتجدّد، وتضييق هامش الابتكار أمام المعلّمين(7). مع العلم أن هذه الرؤية تجانب الواقع، فالتوجيهات في مقدّمتها تركّز على "المبادرة الشخصية والاختيار الحر والتربية الذاتية" في اختيار طريقة التدريس، وتُقدّم في المتن مجموعة من المبادىء والمقترحات التربوية التي تُصوّب المسار، ولا تعلّب العملية التعلّمية، في الوقت نفسه(8).
  1. اللّغة العربية في الواقع المدرسي.

   كثُر في الآونة الأخيرة الكلام على تراجع تعلّمية اللّغة العربية في لبنان ولا سيّما بعد تدنّي نسبة النجاح في مسابقة اللّغة العربية في امتحانات الشهادة المتوسّطة في الدورة العادية للعام 2013، فعلى الرغم من الموقع الذي تشغله "بين الموادّ الدراسية في جميع مراحل التعليم"، والدور المتعدّد الذي تنهض به في المجتمع "كأداة للتفكير والحياة ووسيلة اتصال وتفاهم، ونقل التراث الفكري والإنساني، تجمع أبناء الوطن على وحدة من الفكر والمثل والتقاليد الخالدة والشعور بالوطنية والقومية"، "ما زالت تعاني حالة من القصور في تحقيق الكفايات والأهداف الخاصّة والعامّة، على مستوى المردود المدرسي في تطبيق المناهج، وما تحتاج إليه من وسائل تربوية، وكتب مساعدة، وتجهيزات تعلّمية، وإعداد المعلّم الذي هو حجر الزاوية في كلّ تطوّر علمي"(9).

   على أن التراجع في تعلّمية اللّغة العربية لا يقتصر على لبنان وحسب، بل يتعدّاه إلى دول أخرى في العالم العربي، وقد يكون حالة عربية عامّة؛ ففي الأردن، على سبيل المثال، "هناك ما يشير إلى وجود مشكلات لدى الكثير ممّن يشتغلون في تدريس اللّغة العربية، تتمثّل في صعوبة تعلّمها بشكل عام، وضعف مهارة التعبير بشكل خاص". وثمة من يعزو "ضعف الطلبة في اللّغة عمومًا والكلام خصوصًا إلى ضعف المنهج والمحتوى، وغياب الاستراتيجيات التعلّمية التي من شأنها إبراز الأنشطة المدرسية التي تحفّز على ممارسة هذا الفن التعبيري بأشكاله المختلفة من خطابة ودعوة وشكر واعتذار واستقبال وتوديع...". والمشكلة نفسها قائمة في مصر، "ومن مظاهر الضعف الطلابي [هناك] ما يتعلّق بمواجهة الجمهور من خوف وخجل وارتباك، وعدم الجرأة في الكلام، ومنها ما يتّصل بالأفكار، حيث يمكن وصفها بالضحالة والغموض وعدم الترابط، ما يجعل توضيحها أمرًا صعبًا"(10).

   وإذا كانت أدوات التعلّم تتكوّن من: "المنهاج المدرسي باعتباره الوسيلة التي يتمّ استخدامها من أجل خلق جيل متعلّم قادر على التعايش في ظلّ أيّ مجتمع وتحت أي ظرف، وطرائق التدريس المختلفة التي سيتمّ إيصال المنهج من خلالها إلى الطلبة، وبيئة التعلّم التي ستحتضن عملية التعلّم داخل المدرسة أو خارجها، والمعلّم الذي سيقود عملية التعليم من خلال فكره وثقافته، والمهارات التي يمتلكها، والتدريب الذي يتلقّاه، وأخيرًا الطالب الذي يُعتبَر محور العملية التعلّمية"(11)، فإن رصد تراجع تعلّمية اللّغة العربية في الواقع المدرسي يستدعي التوقّف عند كلّ من هذه الأدوات، وتلمّس دورها في عملية التراجع.

أ- في المناهج والكتاب المدرسي الوطني.

   شكّلت المناهج الصادرة عام 1997 خطوة نوعية في الاتجاه الصحيح، بعد نيّف وثلاثين عامًا من الجمود. وفي مقارنة بين هذه المناهج وتلك الصادرة في العامين 1946 و1971، يخلص الباحث التربوي الدكتور أنطوان صيّاح إلى أن الأولى "هي الأكثر تفصيلاً والأكثر وضوحًا والأكثر تطابقًا مع معطيات علم المناهج التي كانت سائدة في العقد الأخير من القرن العشرين".

   غير أنه يأخذ على مناهج اللّغة العربية: عدم توسيع الأهداف اللّغوية، غياب مفهوم الوحدة عن أنشطتها، عدم ذكر مفهوم الكفاية والاكتفاء بمكوّناته، عدم وضوح الأسس التي تعتمدها، تغييب مفهوم الثقافة اللبنانية المعاصرة، غياب مفهوم الترافد اللّغوي، غياب مفهوم العامّية، عدم التطرّق إلى مفهوم اللّغة العربية الشفهية، وتهميش المطالعة...(12). وإذا كان بعض هذه المآخذ ينعكس سلبًا على تعلّمية اللّغة العربية، فإن بعضها الآخر لن تكون له، بالضرورة، مثل هذا الانعكاس، كغياب مفهوم العامّية، وتغييب الثقافة المحلّية... مع العلم أن مفهوم الكفاية جرى ذكره في تفاصيل محتوى منهج مادّة اللّغة العربية وآدابها، الصادرة في ثلاثة تعاميم إدارية(13).

   وبالانتقال إلى الكتاب المدرسي الوطني، يقع الدكتور صيّاح في التعميم، ويذهب إلى الحد الأقصى، حين يرى أن "الكتب التعلّمية التي وضعت بين أيدي المتعلّمين منذ العام 1997، تاريخ وضع المناهج التعليمية موضع التنفيذ، لم تعد بمجملها صالحة لشعور المتعلّمين بصعوبتها، ولطول نصوصها وعدم تناسبها مع ميول المتعلّمين، ولعدم تناسب طريقة التحليل المعتمَدة فيها مع اتجاهات التحليل اللّغوية الحديثة"، من دون أن يشير إلى ما في هذه الكتب من إيجابيات(14).

   وإذا كان المقام لا يتسع لإبداء سائر الملاحظات على الكتاب المدرسي الوطني، في الصفوف المختلفة، فإننا سنكتفي بملاحظتين اثنتين؛ الأولى، تتعلّق بطول النصوص في كتب الحلقة الأولى من التعليم الأساسي مقارنةً بالحدّ الأقصى المقبول لعدد الكلمات تربويًّا. وإذا كانت القاعدة المعتمَدة في ذلك تنطلق من العمر الزمني للمتعلّم، فتحدّد الحدّ الأقصى للنص ب98 كلمة في السنة الأولى، و128 كلمة في السنة الثانية، و168 كلمة في السنة الثالثة، فإن معظم النصوص في كتب هذه الحلقة تتخطّى الحدّ الأقصى المقبول(15).

   الملاحظة الثانية، تتعلّق بكتاب القراءة في السنة التاسعة من التعليم الأساسي، ففي دراسة غير منشورة، يشير الباحث اللّغوي الدكتور جوزف الياس إلى عدم صلة بعض محاور الكتاب بالمنهج، وقصوره عن تحقيق الأهداف، وخلوّه من بعض المصطلحات والتقنيّات كالأنماط والتلخيص...(16).

   إن هذه الملاحظات وسواها، على أهمّيتها، لا ينبغي أن تحجب الإيجابيات الكثيرة في المنهج والكتاب، لكنها تستدعي إعادة النظر بكليهما، على وجه السرعة ودون تسرّع، بما يؤدي إلى تدارك السلبيات وتعزيز الإيجابيات، الأمر الذي تأخّر عن موعده ثلاثة عشر عامًا حتى الآن(17).

ب- في طرائق التدريس.

   كثيرة هي طرائق التدريس ومتنوّعة، وتختلف من مادّة تعلّمية إلى أخرى، ومن فرع إلى آخر ضمن المادّة الواحدة. ويتوقّف على اعتماد الطريقة المناسبة نجاح المعلّم في عمله وتحقيق أهداف الدرس، واستطرادًا المادّة. وهي على قدر من الخطورة إلى حدّ أن ينسب بعضهم إلى الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون قوله: "إن اختيار طريقة التعليم أهم في مصلحة الأمّة من اختيار حكومة مناسبة."

   وعلى كثرة الطرائق وتنوّعها، يمكن تصنيفها بين مجموعتين اثنتين؛ تلقينية، تقوم على محورية المعلّم، والنظرية، والسلطوية، والمحاضرة، والتعليم، والإلقاء، والجمود. وناشطة، تقوم على محورية المتعلّم، والعملية، والديمقراطية، والاستجواب، والتعلّم، والحوار، والتكيّف. وعلى تربوية هذه المجموعة الأخيرة وحداثتها، فإن تطبيقها في مدارسنا كثيرًا ما يصطدم بعوائق، منها: عدم وجود الوسائل المعينة واللوحات المساعدة والقاعات الواسعة والمعلّمين المدرّبين، ما يؤدّي إلى اعتماد التلقين مع ما يترتّب عليه من نتائج سلبية في تدريس اللّغة العربية وسواها(18).

ج- في بيئة التعلّم.

   إن افتقار بيئة التعلّم المدرسية إلى الأطر المادّية لتطبيق الطرائق الناشطة، وعدم استخدام المستوى اللّغوي المناسب من المعلّمين والمتعلّمين، وتهميش مهارتي الإصغاء والتعبير الشفهي، وتغييب، فرع المطالعة، وعدم توافر الحوافز المناسبة هي عوامل مؤثّرة في تعلّمية اللّغة العربية والتحصيل التعلّمي. وإذا ما انتقلنا إلى البيئة الاجتماعية الأوسع، نرى أن النظرة إلى اللّغة العربية تتراوح بين حدّين اثنين: الأوّل يعتبرها من الماضي، والثاني يعتبرها عاجزة عن تلبية طموحات المستقبل واستيعاب التطوّرات العلمية والتواصلية المتسارعة، والحدّان ظالمان. ناهيك بالازدواجية اللّغوية بين الفصحى والمحكية، مع العلم أن المسافة الفاصلة بين هذين المستويين هي في اللّغة العربية أطول منها في اللّغات الأخرى. وهذه العوامل تنعكس سلبًا على أداء المتعلّم وتحصيله اللّغوي.

د- في المعلّم.

   إن عدم توافر المعلّم المناسب، والنظرة السلبية المسبقة إلى عملية التدريب، وعدم استخدام المستوى اللّغوي المناسب، وقعود المعلّم دون السعي إلى تعزيز معارفه اللّغوية وتطوير قدراته التربوية، وعدم اعتماده طريقة التدريس المناسبة، وتحويل العملية التعلّمية التي يكون المتعلّم محورها إلى عملية تعليمية محورها المعلّم، هي عناصر موجودة في مدارس كثيرة، ولا بد أن تترك أثرها  في تعلّمية اللّغة العربية.

هـ- في المتعلّم.

   " من أبرز المبادىء التربوية الواجب مراعاتها في طرائق التدريس اعتبار المتعلّم محور العملية التربوية"(19). غير أن الواقع المدرسي لا يراعي هذا المبدأ بالقدر الكافي، في ضوء عدم قدرة عدد كبير من المعلّمين على التحرّر من الإطار التقليدي للمعلّم، الأمر الذي ينعكس على أداء المتعلّم في المواد المختلفة. ويرى بعضهم أن الواقع التربوي في تعليم اللّغة العربية يميل إلى التراجع في مكتسبات المتعلّمين اللّغوية، الأمر الذي يتذمّر منه المعلّمون في الأنشطة التعلّمية اللّغوية كافّة. ويعزو هذا التراجع، في جانب منه، إلى "الفقر المزمن للمخزون المعجمي للمتعلّمين الذي إذا لم نحسن علاجه نَفَرَ المتعلّمون من لغتهم واستقالوا من مهمّة تطويرها"(20). ويمكن أن نضيف إلى ذلك الفقر المزمن في القدرة على تركيب هذا المخزون.

   إن تعلّم اللّغة، أي لغة، لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بممارسة المهارات الأربع المعروفة عالميًّا، وهي القراءة والكتابة والتكلّم والإصغاء. وعدم ممارسة أيّ من هذه المهارات يترك تأثيره في عملية التعلّم، وواقع الحال في مدارسنا هو أن المهارتين الأخيرتين مهمّشتان إلى حدٍّ كبير إن لم تكونا غائبتين، ما يُخلُّ بتعلّمية اللّغة العربية.

   لعلّ إغراق المتعلّم في عدد كبير من الموادّ التعلّمية، وانصرافه عن المطالعة، وعيشه ازدواجية اللّغة الأمّ في المدرسة والمجتمع، وانشغاله بوسائل التواصل الحديثة، وسواها من العوامل، تفسّر التراجع في مكتسباته اللّغوية، سواءٌ على مستوى المفردة أو التركيب.

  1. في سبل المعالجة.

   إذا كان الشاعر العربي أبو نؤاس قال، ذات شطر: "وداوني بالتي كانت هي الداء"، فإن معالجة التراجع في تعلّمية اللّغة العربية ينبغي أن تنطلق من الثغرات التي تَعْتَوِر كلاًّ من أدوات التعلّم المذكورة أعلاه، ممّا نبيّنه فيما يلي.

أ- في المناهج والكتاب المدرسي الوطني.

   لعلّ الخطوة البديهية الأولى التي ينبغي الإقدام عليها، في هذا السياق، هي تنفيذ المادّة 3 من المرسوم 10227 تاريخ 8 أيار 1997 التي تنصّ على أن "تُعتبر المناهج التعليمية قيد الدراسة المستمرّة من قبل المركز التربوي للبحوث والإنماء، وتجري إعادة النظر فيها كلّ أربع سنوات على الأقل، تُعدّل بنتيجتها المناهج وفقًا  للأصول". ومن الطبيعي أن تقوم بذلك لجان متخصّصة من ذوي الخبرة والكفاءة، في ضوء معطيات علم المناهج الراهنة، وأن تتدارك الملاحظات المشار إليها أعلاه وسواها، وأن تُدخل التعديلات اللازمة على الكتاب المدرسي الوطني بما ينسجم مع المناهج المعدّلة، ويرفع التهميش عن فروع المادّة ذات الصلة، ويُولي مهارتي الإصغاء والتعبير الاهتمام اللازم، وأن تشمل التعديلات آليّة اختيار النصوص وطولها وطريقة تحليلها...

ب- في طرائق التدريس.

   إن اختيار طرائق التدريس الناشطة في ضوء إمكانات الموارد المادّية المتاحة في المدرسة من شأنه أن ينعكس إيجابًا على تعلّمية اللّغة العربية.  ولا شك أن الإنتاجية المترتّبة على اختيار مثل هذه الطرائق هي غير تلك الناجمة عن اختيار الطرائق التلقينية. وهذا يتطلّب انتقال المحورية في عملية التعلّم من المعلّم إلى المتعلّم. وإذا كان ثمة صعوبة في بعض المدارس في تغيير الموارد المادّية من قاعات وغرف تدريس يصعب فيها تطبيق الطرائق الناشطة، فإن تطوير الموارد البشرية أمر ممكن إذا ما توافرت الإرادة الصادقة والعمل المخلص.

ج- في بيئة التعلّم.

   إذا كان من الصعوبة بمكان تغيير بيئة التعلّم الأوسع/ المجتمع، لاعتبارات تخرج عن قدرة المعنيين بعملية التعلّم، فإن تغيير البيئة الأضيق/ المدرسة والصفّ هو أمر يمكن تحقيقه. إن البيئة المرنة، المحفّزة، الناشطة، الديمقراطية، من شأنها أن تجعل عملية التعلّم أكثر إمتاعًا في المواد المختلفة. ولعلّ الأنشطة اللاصفّية التي يُمكن ممارستها في مثل هذه البيئة تتيح للّغة العربية مجالاً أوسع للتحقّق؛ فالخطابة، والإلقاء، والإنشاد، والحوار، وإبداء الرأي، والتمثيل... مهارات لغوية يمكن تحقيقها داخل الصفّ، وخارجه، في الملعب، والمسرح، والحفلات المدرسية، والأنشطة المختلفة.

د- في المعلّم.

   إن المعلّم الذي يكتفي بمعارفه ومهاراته، ولا يسعى إلى زيادتها وتطويرها، إنّما يحكم على نفسه بالعقم والجمود، ويُخرجها من حيّز الفاعلية والتأثير. وعلى المعلّم يتوقّف إلى حدّ كبير تحقيق تعلّمية اللّغة العربية. من هنا، إن اختيار المعلّم المناسب، على مستوى الإعداد والتدريب واللّغة وطريقة التدريس والتحضير العملي والكتابي، هو شرط لازم للحدّ من تراجع اللّغة العربية، واستطرادًا، تحقيق تعلّميتها.

هـ- في المتعلّم.

   لكي يتعلّم المتعلّم اللّغة، أيّ لغة، عليه أن يستخدم مهارات القراءة والكتابة والتكلّم والإصغاء. وثمة ترافد بين هذه المهارات بحيث إن استخدام إحداها يعزّز الأخرى. وعليه، يقترح بعض الباحثين تنمية المخزون المعجمي، والالتزام بأصول الحوار، وتدريب المتعلّمين على الارتجال وتسويغ الآراء، وإدارة المعاني المضمرة، والقراءة الجهرية لإكساب المتعلّم مهارة الكلام والتحدّث أمام الجمهور والتواصل مع الآخرين. ويرى أن اكتشاف مكامن الجمال في النصوص الشعرية والنثرية ينميّ الذائقة الفنية للمتعلّم والميل إلى التعبير الفني، وأن بثّ حبّ الكتابة في نفوس المتعلّمين يُكسبهم هذه الكفاية(21). على أن تحقيق هذا كلّه يستلزم توافر سائر أدوات التعلّم، وقيام كلّ منها بدورها ولا سيّما المعلّم.

5- خاتمة.

   إن تعلّمية اللّغة العربية هو مسار تراكمي، تكاملي طويل، لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها، ويستدعي تضافر جميع الجهود وقيام كلّ من أدوات التعلّم آنفة الذكر بدورها في سياق تكاملي فيما بينها، مع العلم أن هذه الأدوات ليست على الدرجة نفسها من الأهمّية.

   لعلّ الأدوار التي تنهض بها اللّغة الأمّ، من حيث هي لغة تواصل وتفكير وتعبير وإبداع وهوية وتراث ومعرفة، تجعل النهوض بها واجبًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا ووطنيًّا وقوميًّا، وتستلزم استنفار الجهود المخلصة،  في المدرسة والمجتمع المدني، للقيام بهذا الواجب. فالشعوب التي لا تحترم لغاتها محكوم عليها بالخروج من التاريخ والحضارة.


  1. لسان العرب، المجلّد 12، مادة (لغو). والمعجم الوسيط، المجلّد 2، ص 837.
  2. هدى سالم طه، مجلة عالم الفكر، العدد 3، المجلّد 42، آذار 2014، ص 241.
  3. عبد الرحمن عبد الهاشمي وفائزة محمد العزاوي، مجلة الطفولة العربية، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية،العدد 58، ص 54.
  4. أنطون صيّاح، تعلّمية اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، دار النهضة العربية، بيروت 2014، ص 161، 162.
  5. مناهج التعليم العام وأهدافها الصادرة بالمرسوم 10227 تاريخ 8 أيار 1997، ص 41.
  6. التعاميم الثلاثة هي: 29/م/97 تاريخ 1 آب 1997، 31/م/98 تاريخ 1 تموز 1998، 15/م/99 تاريخ 30 نيسان 1999.
  7. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 21.
  8. تفاصيل محتوى منهج مادّة اللغة العربية وآدابها الصادرة بالتعميم 29/م/97 تاريخ 1 آب 1997، ص 95 وما يليها.
  9. يوسف مارون، طرائق التعليم بين النظرية والممارسة، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس 2008، ص 10.
  10. عبد الرحمن عبد الهاشمي وفائزة محمد العزاوي، مرجع سابق، ص 55.
  11. عيسى خليل أحمد الحسنات، مجلة الطفولة العربية، مرجع سابق، ص 10.
  12. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 20، 21، 22، 23، 24، 25، 26، 27.
  13. التعاميم الثلاثة، مرجع سابق.
  14. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 11.
  15. المرجع نفسه، مرجع سابق، ص 56، 57.
  16. الدكتور جوزف الياس، دراسة غير منشورة، ص 1، 3.
  17. نصّ المرسوم 10227 في مادّته الثالثة على "إعادة النظر في المناهج كلّ أربع سنوات على الأقل، تعدّل بنتيجتها وفقًا للأصول".
  18. يوسف مارون، مرجع سابق، ص 199، 200، 201، 202، 203.
  19. تفاصيل محتوى منهج مادّة اللغة العربية وآدابها، مرجع سابق، ص 95.
  20. أنطون صيّاح، مرجع سابق، ص 10، 172.
  21. المرجع نفسه، ص 40، 49، 50، 105، 119، 133، 134، 161.