ميخائيل نعيمة كما عرفته

    ​الناسُ على سَفَرٍ.

والمُسافرُ الحكيمُ مَن أحْسنَ اختيارَ رفاقِ الطريقِ.       (ميخائيل نعيمة)

 

قُمْ، أيّهَا الماضي البعيد، فقد آنَ أوانُ الحكايةِ الحلوة.

 إستيقِظْ من نومِكَ الطويل، فالنومُ وجهٌ من وجوهِ الموت.

قُمْ نذكرُ حكايةَ المَحبّةِ والصِدْقِ والعَطاءِ...

ونكونُ أوفياءَ لرفيقِ الطريقِ.                          (ميخائيل مسعود)

 

حكايتي مع ميخائيل نُعيمة

في كلامي على ميخائيل نُعيمة متعة، وراحة نفسيّة، واستعادة الكثير من ذكريات الماضي؛ وما يتعلّق بالماضي من طفولة أدبيّة؛ بدأت تحبو، وتدرج، وتمشي... برعاية راعيها، والمُمسك بيدها، بكلّ محبّةٍ وصدقٍ وأمانةٍ وإخلاص.

إنّها حكاية تلميذٍ صغيرٍ يسألُ، ومعلّمٍ كبير يجيب.

ذلك المعلّم قد أمسك بيدي، وعلّمني المثابرة والمحبّة والتواضع والثبات، وهداني سواء السبيل.

وتلك حكاية بدأت أحداثها، منذ نصف قرنٍ من الزمن، ثمّ نَمَتْ ، وتتابَعَتْ، وترسَّخَتْ... في ذاكرةٍ رهيفةِ الحسّ،ِ " سَلِمَتْ فيها الذِكْرَياتُ والأَسْبَاب ".

وإنّني، إلى الآن، لا أعرفُ الأسبابَ الحقيقيّةَ التي جعلتِ الأقدارَ تختارني، لأن أكون ذلك الإنسان الذي يستجلي الذكريات، "كما يستجلي النائمُ، في أحلام طيرانِه، زمانًا كان فيه طائرًا، قبل أن يصير إنسانًا (1) ".

كلّ ما علمته وعرفته، أنّ الأقدار العجيبة، والمصادفات الغريبة، وقراءة أوّل كتاب لميخائيل نعيمة، والاطّلاع على بعض مؤلّفاته، ومحاولة فهم أفكاره، والإعجاب الشديد بأسلوبه، والبحث عنه... أمور قد غيّرت أهدافي، وحياتي، وقادتني إلى طريق الأدب، من بابه الواسع.

لكن، كيف عرفت ميخائيل نعيمة، وكيف جرت الأحداث، وما هو دور المصادفات ... فحكاية طويلة، سأحاول اختصارها، في ما يلي:

موجز الحكاية

بدأتِ الحكايةُ، كما كانت جدّتي تبدأ حكاياتها، ب " كان ما كان، كان في قديم الزمان "... تلميذ فقير، أو شبه فقير، انتقل من عالم السنابل والمناجل والبيادر... إلى مدرسةٍ نصف داخليّة؛(2) طلبًا للعلم، والوظيفة، والغنى المادّيّ المفقود.

وكان ذلك التلميذ، إذا أنهى دروسه المُمِلّة، وكتب فروضه المزعجة، انصرف انصرافًا كاملاً إلى مطالعة كتاب حصل عليه، من مكتبة المدرسة، بالأجرة، لمدّة أسبوع أو أسبوعين.

وابتسم له الحظّ، مرّة، عندما وصل إليه كتاب أصيل، غير مترجم، ومن عالمه الخصوصيّ المحبوب، وكان اسم الكتاب: " كان ما كان " (3).

قرأ الكتاب قراءة سريعة، وأعاد قراءته قراءة متأنّية... ثمّ طالعه مطالعة هادئة، هادفة، واعية.

وعند كلّ قراءة ، كان يجد نفسه في عالم غريب عجيب من المصادفات التي لم يجد لها تبريرًا، خارج إطار الإعجاب:

فالكلام على كنيستين:  شرقيّة، وغربيّة؛ وكاهنين يتقاسمان القطيع، ويحلّلان ذبح الكباش والنعاج والخراف... بحجّة رعايتها، والحفاظ عليها !..

والكلام على القرويّين في لبنان، لا سيّما في قرية صغيرة كقريته. " إذا طرقهم غريب لا يوصدون أبوابهم في وجهه ولا يطعمونه اللقمة بيمينهم، ويسارهم ممدودة إلى كيسه " (4).

وسأل نفسه عن هذا التشابه بين أشخاص القصّة والمحيطين به من أهل وأقرباء وجيران ...

وبين نظرة الكاتب إلى أهل القرى:  أهل المحبّة، والرفق، والشهامة، والصدق، والعدل، والمسالمة، واللطف، والدعة ، ونكران الذات ...

فوجد الإجابة في قول الكاتب:

"ألست ترى أنّ الناسَ يسيرونَ في الحياةِ أسرارًا ؟

فالإنسان يقترب من الإنسان بقدر ما يقترب المتشابهان في الظاهر:  هذا سرّ وذاك سرّ"

ومنذ ذلك الحين، بدأ يبحث عن مؤلّفات ميخائيل نعيمة، ويبذل جهدًا في سبيل الحصول على بعضها، ويجد راحة نفسيّة في قراءتها، ويحاول فهم أفكار صاحبها، ومعرفته بأيّ ثمن.

وسأل معلّمه(5) عن الكاتب المذكور، وأسماء بعض مؤلّفاته. فأحضر له لائحة بأسماء الكتب الموجودة في مكتبة المدرسة ،(6) وشجّعه على قراءة بعضها، ونصحه بعدم قراءة بعضها الآخر؛ لأنّها فوق مستواه.

والكتب المذكورة على اللائحة ، كانت مرتّبة بحسب تواريخ صدورها، للمرّة الأولى، هكذا:

1-  الآباء والبنون

2- الغربال         

3- المراحل                        

4- جبران خليل جبران          

5- زاد المعاد   

6- كان ما كان 

7- البيادر                                        

8- همس الجفون                          

9- الأوثان                                 

10- كرْم على درب                          

11- صوت العالم                          

12-  لقاء                                   

1917 م.

1923 م.

1932م.

1934م.

1936 م.

1937 م.

1945 م.

1945 م.

1946 م.

1946 م.

1948 م.

1948 م.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولمّا قرأ بعض هذه الكتب؛ وعلم، من تواريخ صدورها، أنّها نشرت قبل مولده بزمان طويل؛ بدأ يصلّي، في قلبه، لأن يكون كاتبها ما زال على قيد الحياة.

وكان، في لياليه الطويلة، يحلم أحلامًا مجنّحة؛ يتصوّر فيها أنّه بحضرة الكاتب الكبير؛ يطرح عليه أسئلة في المواضيع المهمّة التي تشغل رأسه الصغير.

لكن ، كيف السبيل إلى معرفته؟..

هذا هو السؤال.

 

الرسائل

وبعد قراءات دائمة، وأسئلة حائرة، وملحّة ... لاحظ ذلك القارئ المدهوش، بمواضيع وحياة الكاتب المدهش، أنّ حياته – في بلاد الجبل – تشبه إلى حدّ بعيد، حياة ذلك الكاتب:

فمجتمع أهل الريف، وحياة الفلاّحين ، وأعمال الحرث، والزرع، والحصاد... والعادات والتقاليد ... أمور متشابهة في القرى اللبنانيّة، وبخاصّة الجبليّة منها.

وهنالك قضيّة تعلّمه، في دير البلمند، وعلاقة " الروم " بروسيّا القيصريّة ، وتسمية والدته  " كتّورعلى اسم الإمبراطورة كاترينا الكبيرة...

وغيرها من الأمور التي أثارت حَيْرَته، وقوّت عزيمته. فشرع يجمع المعلومات المهمّة المتعلّقة بميخائيل نعيمة، ومكان إقامته، وعنوانه البريديّ...

واستقرّت في رأسه فكرة أن يرسل إليه رسالة، تكون بداءة تعارف ، وصحبة وصداقة...

فكانت الرسائل. (7)

بكثير من التصميم، وقليل من الأسئلة، علمتُ أنّ ميخائيل نعيمة مقيم في بلدته بسكنتا، بشكل دائم.

فكتبت إليه رسالة مهذّبة، أطلب فيها رسمه، ونصائحه ومساعدته...

وسرعان ما أرسل إليّ رسالة جوابيّة، يرحّب، بي، فيها، لأن أكون رفيقًا في الطريق.

فكانت رسالته الأولى إليّ:

" أهلاً وسهلاً بك رفيقًا في الطريق ".

كلامٌ جميلٌ صريحٌ مشجّعٌ، ودعوةٌ واضحةٌ صادقةٌ من ابن الرابعة والسبعين: الأديب العالميّ الكبير، الخبير؛ صاحب المؤلّفات الأدبيّة، القصصيّة، النقديّة، الفلسفيّة، الفكريّة ... يرحّب بتلميذ صغير فقير، لا حول له، ولا مال في جيبه، ولا يعرفه أصلاً... يرحّب به ليكون رفيقًا في الطريق!...

منذ ذلك اليوم، إلى اليوم، كلّما تذكّرت الأمر، برزت أمام عينيّ صورة ابن مريم يغسل أرجل تلاميذه. ويا له من تواضع، لا مثيل له! ..

يومها، تناولت قلمي، لأكتب إلى ابن بسكنتا، ناسك الشخروب، في جبل صنّين.

كان قلمي، يومها ، مُهْرًا صَغِيْرًا جَامِحًا:

يَطلُبُ الْجَرْيَ، يَعَضُّ لجَامَهُ..

يَجري، أَصِيْلاً، فَوْقَ دَرْبِ الْمُنحنى:

رافِعَ الرأسِ قَوِيّ الْوَثْبَةِ...

ونظرتُ إلى رسم ميخائيل نعيمة.

فإذا الرجل كما تصوّرته تمامًا.

وبعد تفكير قصير، كتبت إليه رسالة ثانية.

قد شاءها قلمي نصًّا أدبيّاً.. فكانت كما شاءها قلمي:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وبعد نحو أسبوع، وصلتني منه رسالة طويلة، يدعوني، في نهايتها، للمجيء إلى بسكنتا...

ومِمّا ورد فيها :

-1رسائل

وهكذا عرفته صاحب يد ممدودة، وقلب كبير، ودعوة صادقة.

صداقة تتكشف

بعد تبادل الرسائل، على مدى عام كامل، صدر للأديب الكبير كتاب جديد عنوانه:  اليوم الأخير (10). فقلقتُ غاية القلق، وبدأتُ أسألُ عن صحّته انطلاقًا من عنوان الكتاب.

وقد أبصرتُ، بخيالي، في لحظاتٍ، ما يستحيلُ على عيني أن تبصره في عمر كامل (11).

وبعد قراءة الكتاب، مرّات، عرفت أنّ المعرفة الحقيقيّة تنطلق من فكرٍ ينقّب عن أجوبة لتساؤلات:

" من أنا؟ من أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟ وما القصد من مجيئي وذهابي ..."

وهنا، عرفت أنّني طفل يحبو على طريق المعرفة، وأنّ الفلسفة: )فيلوصوفيا (، ما هي إلاّ محبّة الحكمة.

وتصوّرت ميخائيل نعيمة فلاّحًا زارعًا، ينثر بذوره في أذهان الناس، فيقع بعضها في رأسي الصغير .. في عمق أعماق عتمة دماغي، منتظرًا ربيعًا أخضر(12).

ومن وحي اليوم الأخير، وقلقي على صحّته، كتبت إليه رسالة تحكي اللقاء في صفحات كتبه، وأسأله عن صحّته، وأعماله الأدبيّة، وآخر نشاطاته...

فردّ عليّ بالرسالة التالية (13):

رسائل

وصداقة تستمرّ

بقينا نتبادل الرسائل على مدى سنوات.

وقلّما مضى أسبوع واحد من دون أن أكتب إليه، أو أتلقى ردّه، أو دعوته الصادقة لزيارته، في بسكنتا، أو في الزلقا.

وفي كلّ رسالة منه، كان يمتدح محبّتي له، ويقدّر استفساري عن صحّته، ويطلعني على أعماله الأدبيّة، وآخر تآليفه: بأسمائها، وتفاصيلها...

وقد استمرّت صداقتنا، وترسّخت أكثر، فأكثر، إلى يومنا هذا.

منذ خريف العام 1966 ، بدأ يفضّل لقاءنا على كتابة الرسائل، ويدعوني إلى بيته، في بيروت؛ لأنّ بيروت أقرب من بسكنتا، وطريقها أسهل. وفي هذا كتب إليّ:

رسائلرسائل

ويد ترتجف

منذ صيف العام 1967 ، بدأت ألاحظ ارتجافًا واضحًا في يده اليمنى؛ عندما يكتب، لي، إهداء على كتاب صدر، له، حديثًا، أو عندما يشعل سيجارة ...

فكنت أتجاهل الأمر، وكان يبتسم راضيًا، ويعرف أنّني أعرف، وأتضايق، وأخفي غصّتي...

وفي كلّ رسالة، كنت أسأل عن صحّته، أوّلاً بأوّل...

إلى أن أخبرني صراحة عمّا يزعجه، وأنّ يده اليمنى باتت لا تطاوعه، في الكتابة، " إلاّ بمنتهى البطء والصعوبة "...وقد دعاني إلى لقاء قريب جدّاً ، في بسكنتا. ...

فكتب:  يقول:

رسائل

في اللقاء القريب الذي شاءه لله لقاء محبّة وتفاهم، عرضت، بعد اعتذار لطيف، أن يكتب أحدنا، له، ما يمليه علينا. وكان حوله، في ذلك الحين، نخبة من الأدباء والأصدقاء، أذكر منهم، مع حفظ الألقاب:

توفيق يوسف عوّاد، المطران أبيفانيوس، عبد لله القبرصي، أنطوان جبارة، منيف موسى، فريد جحا، وليم الخازن، توما الخوري، ادفيك شيبوب، جوزيف طوبيّا، ثريّا ملحس، بولس طوق، الياس عطوي، فاضل سعيد عقل، روبير غانم، أنطوان كرم، متري بولس، رياض فاخوري، ربيعة أبي فاضل، وغيرهم .. وغيرهم.

وأبديت رأيًا بهذا الخصوص، فقلت:

... وأجد نفسي الأَولى بهذه المَهمّة، بعد ابن أخيك : " نديم " لكنّ أفضلنا ترتيبًا، وأحسننا خطّاً:  يونس الإبن لكنّ صديقي رفض الفكرة من الأساس. وبقي يسند القلم المرتجف مع ارتجاف يمناه ، بسبّابة يده اليسرى، حتى نهاية إحدى حيواته الزاخرة      بالمحبّة والكرم والعطاء. وقد عرفته صامداً صابراً، شاكراً، هادئاً...يحدثني عن الموت على انه درب من دروب الحياة، ولا نهاية للحياة. فالموت ليس نقيض الحياة، بل هو نقيض الولادة.

تصرّفات أديب

لقد زرت ميخائل نعيمة عشرات المرّات. فجالستُهُ، وحادثتُه، وحاورتُه، وآكلتُه، وشاربتُه... فعرفتُ فيه إنسانًا عظيمًا، هادئًا، ناضجًا، لطيفًا، واضحًا، متواضعًا ...

وهو، في أحاديثه، وردوده، وتصرّفاته...لا يختلف، في شيء، عمّا يكتبه، أو يقوله لمراسل صحيفة عالميّة، مثلاً. كان يستقبلني ببشاشته ولياقته، خارج المنزل، وأحيانًا، حاملاً طفلة، وهو بكاملِ الحنوّ والحنانِ والرأفة. وكان يحدّثني بمنتهى الجدّيّة والعمق والتفكير، ويختار كلماته بهدوء، وكأنّه يقرأ من كتاب مصحّح ومدقّق.

وعرفتهُ ينظر إلى الإنسان، أيّ إنسان، " على أنّه، في حقيقته، إله. ولكنّه إله في القُمْط ".

كثيرًا ما أصرّ على بقائي، لتناول الغداء، وإكمال الحديث. وهل أطيب من غداء قوامه نباتات برّيّة وبقول، جُمعت من سفح " صنّين"، وأعدّتها "ميّ" على طريقة أهل الجبال؟..  وهل أفضل من أحاديث أدبيّة، فكريّة، لا تكتمل مهما تفرّعت وتشعّبت؟..

والذي أخجلني، أنّه كلّما فرغ صحني، أو كاد، وقف ابن الثمانين، بقامته النحيلة، وأضاف إليه من بقوله، ولطفه، وتواضعه. وتدخل " ميّ "حاملة صحفة تفوح منها رائحة شواء. فيقصيها عنه، بلطف، مشيرًا إلى ناحيتي.  ولمّا تمنّعتُ، وخرجت " ميّ " تمْتَمَ، بما يشبه الهمس: " شاركتُ الحمَلَ في لبنِ أمّه، ثمّ استبحتُ لحمه، فهل أفظع مِمّن يأكل أخاه في الرضاعة "؟!.

وكنا مرّة في غرفة المكتبة، وكان يقرأ على مسامعي من "مرداد ".

"... عظيم أنت، يا ابن آدم،

لانّك تستطيعُ أن تحبّ،

ثمّ لأنّك تستطيع أن تؤمن،

ثمّ لأنّك، بمحبّتك وإيمانك،

تستطيع أن تعي من أنت"...

طرقات خفيفة على الباب.. ثمّ دخلت " ميّ "وقالت بارتباك:

 

" عمّي، لقد وصل الجماعة "

رسائل

 

فنظر إلى ساعة يده، وقال: " موعدهم بعد سبع دقائق". ثمّ أكمل القراءة بهدوء تامّ.

ولمّا تركنا المكتبة، إلى غرفة الاستقبال، تبيّن، لي، أنّ  " الجماعة " وفد رسميّ من سفارة الاتّحِاد السوڤياتيّة...

في بعض الأحيان، وبخاصّة في مطلع الربيع، كان يدعوني إلى بسكنتا؛ لبحث أمور تخصّني، وتتعلّق بمستقبلي، وبقضيّة دخولي الجامعة، أو إرسالي إلى روسيا لمتابعة تحصيلي ...

وكان شديد الحرص على تأمين مستقبلي، على الصعيد الاجتماعيّ والأدبيّ. وفي كلّ مرّة، يشكرني على أمرٍ ما، كان من واجبي أن أشكره عليه!.. ففي رسالة، يكتب إليّ:

رسائل

وفي رسالة ثانية، يكتب :

رسائل

وفي رسالة، ثالثة:

                 رسائل

وكثيرًا ما كنت أبلغ بسكنتا عند العاشرة صباحًا؛ فيستبقيني عنده حتى المساء، وأحيانًا إلى مساء اليوم التالي؛
لا ليكلّفني عملاً، أو تصحيحًا مطبعيّاً، أو شيئًا يخصّه ... بل ليسأل عن أمر يخصّني، أو ليجد حلاّ لمشكلة عرضت
لي. وبقي يصرُّ على بلوغي بسكنتا عند الصباح، وبقيتُ أبلغها كما أراد، وبقيتِ الصباحاتُ تشهدُ على المحبّةِ والوفاءِ
سنوات وسنوات.

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

وقد بكّرت ما أمكنني، فأمكنني أن أكون في بسكنتا قبل الصباح؛ إذ نمتُ ليلتي عند صديق مشترك  (هو حلاّقه الخاصّ)، ولمّا تلاقينا صباحًا، وسألني كيف وصلت، وأين كنت؟..

قلت: كنتُ أراقبُ طلوعَ الصباحِ.

وماذا وجدت؟

وجدتُ أنّ:

صباح بسكنتا غير الصباحات، غير كلّ الصباحات.

فهناك، حيث شفاه صنّين تلامسُ خدّ السماء النائمة باستسلام مطمئنّ، خَطّ فيهِ من الوهجِ شيءٌ، ثمّ توهّجٌ، ثمّ ظهرت عَظَمَةُ لله القدير:  فرسمتْ صباحَ بسكنتا بالنور الصافي الذي لا تلوّث فيه...

فيا أهالي بسكنتا:

هل رأيتم الصباحَ يتدفّقُ من وراءِ صنّين؟

وهل سمعتم أصحابَ التيجانِ تُعلنُ قدوم صباحكم، بصياحٍ تتجاوبُ أصداؤه في مزارعكم، وتهتزّ، له، فيها، الأعرافُ المورّدة؟..

 

ونظرت إلى وجههِ، فإذا به طافحٌ بالرضى والسرور.

كتبه الصادرة في الخمسينات

بعد الكتب التي قرأتها،حَدثًا، والتي ذكرتها سابقًا، قرأت له، في المرحلة الثانية:

13-  مذكّرات الأرقش صدر في طبعة أولى

14-  النور والديجور صدر في طبعة أولى

15-  مرداد صدر في طبعة أولى

16-  دروب صدر في طبعة أولى

17-  أكابر صدر في طبعة أولى

18- أبعد من موسكو ومن واشنطن صدر في طبعة أولى

19- أبو بطّة صدر في طبعة أولى

1949م

1950م   

1952م

1954م

1956م

1957م

1958م

 

 

 

 

 

 

 

 

وبعد هذه الكتب التي امتازت بالفنّ القصصيّ، وتُوّجِت بكتاب مرداد – بالعربيّة – وأُشبعت بالأفكار الهادئة الرصينة...أتحفنا ميخائيل نعيمة بكتاب سبعون، وألحقه بمجموعة كتب مهمّة.

كتبه الأخيرة

-  هي كتب أصدرها في المرحلة الأخيرة من عمره، نضيفها إلى ما قبلها:

20- سبعون (المرحلة الأولى)  صدر في طبعة أولى 1959 م

22-21- سبعون(المرحلتين:الثانية، والثالثة) صدر في طبعة أولى 1960 م

23-  اليوم الأخير صدر في طبعة أولى 1963 م

24- هوامش صدر في طبعة أولى 1965 م

25- أيّوب صدر في طبعة أولى 1967 م

26- يا ابن آدم صدر في طبعة أولى 1969 م

27- نجوى الغروب صدر في طبعة أولى 1973 م

28- أحاديث مع الصحافة صدر في طبعة أولى 1973 م

29- رسائل صدر في طبعة أولى 1973 م

30- من وحي المسيح صدر في طبعة أولى 1974 م

31- رسائل (تتمّةصدر في طبعة أولى 1975 م

32- ومضات (شذور وأمثال) صدر في طبعة أولى 1977 م

 

 

 

 

 

 

 

سيرة حياته

لعلّ كتاب" سبعون"، في مراحله:  الأولى، والثانية، والثالثة، كان أفضل كتاب يوضح التفاصيل الدقيقة عن ميخائيل نعيمة، وحياته بشكل عام.

وأقول: إنّ أفضل كتاب، وأصدق ما كُتِبَ، في فنّ السيرة، على حد علمي، كتاب  " الأيّام " للأديب طه حسين، إلى أن ظهر سبعون نعيمة، فنافس في المصداقيّة، والوضوح والتفصيل... مع أنّ الدكتور علي شلق(14) له رأي آخر(15)، لم أوافقه عليه، (تواضعًا).

مكانته

عرفت ميخائيل نعيمة صاحب مكانة عالية في عالم الأدب والفكر، وهو أقرب إلى أديب عالميّ منه إلى أديب لبنانيّ.

قال فيه أحد قارئيه وعارفيه وناقديه:

" قد أتقن العربيّة والروسيّة والإنكليزيّة .. وألمّ بالفرنسيّة. فكان له من هذه اللغات مفاتيح لخزائن أدب الغرب والشرق التي كنز من كنوزها ما جعل القلم واللسان يسلسان له قيادهما، فهو فصيح اللسان، سيّال القلم، واسع الاطّلاع، عميق الفكر، بعيد الخيال، صلب الرأي حتّى العناد "(16)...

وُضِعَتْ في مناحي أدبه دراسات جامعيّة كثيرة، منها ما بحث أصحابها في فلسفته (17) على وجه الخصوص. وحقّ لنا المفاخرة عندما نعلم أنّ كتاب مرداد الذي وضعه بالإنكليزيّة، ثمّ ترجمه إلى العربيّة، وصلت منه نسخ إلى الهند. وفي الهند، نشرته دار نشر في بومباي. ثمّ ترجم إلى الهولنديّة وصدر في هولّندا.  ثم طبعته ونشرته دار نشر في إنكلترة، ووزّعته على دول الكومنولث والولايات المتّحدة الأميركيّة...ومن الملاحظ، أنّ " الإقبال على هذا الكتاب، وتقديره خارج البلاد العربيّة، هما أكثر بكثير منهما في لبنان وغيره من البلاد العربية صدق القول " لا كرامة لنبيّ في وطنه ".

رفيق الطريق

في طريق الأدب الرصين، مشيت وئيدًا، على هدي صوت ميخائيل نعيمة، وعلى نور أفكاره النيّرة؛ مستمعًا إلى توجيهاته الحكيمة، ونصائحه التي لا تقدّر بثمن.  وقد عشت على أدبه مدّة، وعايشته مدّة، فنشأت بيننا صداقة زادتها الأيّام متانة وصدقًا؛ بعد أن رَدَمَ هوّةَ فارق السنّ بيننا، بما امتاز به من محبّة، ولطف، وتواضع، وإنسانيّة. وإنّني في هذا الكلام الصريح، وفي هذه الصفحات المختصرة، لا أدّعي أنّني عرفْتُ ميخائيل نعيمة أكثر ممّا عرفه غيري، من الدارسين؛ أو أنّه قرّبني أكثر من بقيّة المقرّبين؛ أو أنّه فضّلني على أصدقائه ومعارفه... وما أكثرهم. لكنّني، بصدقٍ تعلّمته، ومارسته، أعرض لبعض ما جرى لي، وأمامي، على طريق الأدب الراقي، بصحبة الرفيق المحبّ، النظيف القلب والقلم واللسان، والذي عرفتُهُ خير رفيق، في مسيرتي الأدبيّة.

هداياه المميّزة

في أكثر الأحيان، وقبل خروجي من مكتبته، كان يهديني كتابًا، من كتبه، وإن كان بحوزتي؛ بحجّة أنّه صدر في طبعة جديدة.أمّا الكتاب الذي صدر، له، حديثًا، فكان يهديه إليّ؛ بحجّة أنّ دار النشر تعطيه نسخًا معلومة، كهدايا...  وفي كلّ مرّة كان يقلّل من شأنِ هديّته الثمينة، قائلاً: إنّه مجرّد كتاب ...

هديّتي المتواضعة

زرت صديقي، مرّة، برفقة اثنين من أصحابي(19)، حاملاً إليه هديّة قد صنعتها، له، بيدي: وهي لوح من الخشبالمعاكس، حفرت فيه، بمنشار دقيق الشفرة، خطوطًا وفراغات واهية... فتحوّل اللوح الخشبيّ إلى قطعة فنيّة، تمثّل صبيّة حسناء، تداعب،  بأناملها، أوتار قيثار كبير، فتبرز من بين الأوتار صورة ميخائيل نعيمة. وضعنا الهديّة عند زجاج السيّارة الخلفيّ، بعهدة رفيقي(وديع) الذي أصرّ على حملها. وعندما وصلنا، ورأينا صديقي (نعيمة) ينتظر وصولنا، خارج المنزل، أسرعنا للسلام عليه، ومضى السائق واللوحة في سيّارته. ولمّا أخبرنا صديقي بما حدث، بدأ يطيّب خاطري، ويعلمنا أنّه يعرف السائق، وسيرسل في طلبه، ويستعيد الهديّة... وبعد انتهاء الزيارة، تركنا بسكنتا قلقين ..متأثّرين.

الكثارة

وبعد نحو أسبوع، وصلتني منه الرسالة التالية:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وهكذا أفاض صديقي بوصف هديّتي المتواضعة، وعظّم شأنها.. في الوقت الذي كان يقلّل فيه من شأن هداياه الكثيرة.

المعلّمِ والمتعلّم

عندما شعرتُ بميلٍ شديد للكتابة والنشر، وعرضتُ الأمرَ عليه، ابتسم ابتسامة عريضة، وقال، ما معناه: الأمر أشبه باجتماع المطر في الغمامة الماطرة: فالماء يتبخّر من سواقٍ، وجداول، وأنهار، وبحار، مختلفة... ويبقى، في الغمامة، إلى أن يجد الجوّ  الملائم، فينهمر مطرًا على الأرض. والماء لا يبقى حبيس الطبقات الجوفيّة، بل يجد لنفسه سبلاً ومنافذ؛ ليتدفّق عيونًا وينابيع... فيحيي الأرض، وينفع المخلوقات ... فهل سأل الينبوع أحدًا: كيف أتدفّق؟ وإلى أين أسير؟.. قلت:  لا أريد أن تعلّمني، بل أريد أن تُعلمني.قال: " لا تستعجل الشهرة إليك، لئلاّ تستعجلها عنك".

وكان كلام على الأدب، والكتابة، والأسلوب، والانطلاقة الأولى. وما زال كلامه في أذنيّ: " لي مقالة في كتاب " في مهبّ الريح " وخلاصتها: " من كان معدّاً للأدب، لا يحتاج إلى من يدلّه على الطريق.. فأنت لا تحتاجني. وعدّة الأديب:  لغة وفكر وخيال وذوق ووجدان وإرادة. وخير الوسائل لتنميتها:  المطالعة.. المطالعة.  وأهمّ ما يتّصف به الكاتب: الصدق، والإيجاز، وتحاشي اللفّ والدوران"...  أمّا المطالعة، فيبدو أنّك أدمنتها إدمانًا لم أرَ مثيلاً له  ". (فقاطعته، قائلاً):  وأمّا الصدق، فيبدو أنّي تعلّمته من صديقي الصدوق الذي لا مثيل له.

كتابي الأوّل

قبل أن أجرؤ على طباعة ما أكتبه، كنت أُسمعه بعض ما كتبت، لكن بشكل موجز. وكان يبتسم راضيًا، وناصحًا، ومؤجّلاً... ويقول لي:  قد اقتربت من الهدف، خطوات قليلة وتصل إليه، إن شاء لله... إلى أن سألني مرّة:  هل أحضرتَ معك نصًّا؟ فأخرجتُ النصّ من جيب سترتي، وقرأتُ على مسمعه:

"أيّام الحصاد

في الحقول استأسَدَ القمحُ،

وانحنتِ السَنابِلُ السَمراءُ متماوجةً بالحبوبِ الذهبيّة.

وصَلُبَتِ الأحساكُ:  نضجًا، واصفرارًا، ويباسًا..

وفَغَرَ المنجلُ فاه"...

فابتسم قائلاً:  لا بأس .. لا بأس. قد صَلُبَت أحساكُ سنابلك...

قلت:  والمقدّمة؟

قال:  أعتذر، لكثرة أشغالي.

وكلمة على الغلاف؟

من عينيّ.

وعندما كان الكتاب في المطبعة، وراجعته في الأمر، اعتذر، بلطف، لانشغاله بقضيّة جائزة نوبل، وكان في طليعة المرشّحين لها، كما علمت.

وصدرَ الكتابُ(21)، وأرسلتُ إليه النسخة الأولى.  وبعد وقتٍ، أتتني رسالته النقديّة الصادقة... التالية:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأدب النظيف

سبق لي، في وقت من الأوقات، أن كتبت بعض الخواطر والأوصاف والمواضيع.. على دفتر صغير، أيام دراستي في المرحلة المتوسّطة.

وفي ذات يوم، حملت دفتري وطموحي إلى محجّة الأدباء، في بسكنتا.

-  ما هذا الذي في يمينك، يا سميّي؟

-  هذا دفترٌ من بلاد الجبل، يا سمويّ.

-  هات أسمعنا.

فبدأت أقرأ بهدوء، منتقلاً من نصّ إلى نصّ، ومن مقطع إلى مقطع، على حركة يده:

الإهداء

إلى التي يفوحُ عَبَقُ الأرضِ

من فسطانها العتيق.

إلى أمّي في بلاد الجبل،

أهدي " دفتري" هذا.

 

فابتسم راضيًا، ومشيرًا أن أكمل. فأكملت:

والكلام على الجبل، كلام على العرش والعلاء، وشموخ القمم، وصلابة الصخور، وانحدار السفوح، والأحراج العذراء، والأبواب المشرّعة للريح، والضيوف، وعابري السبيل...

وبعد هذا، أفلا تعجب من قولهم:  أهلاً .. وسهلاً؛ والأحرى بهم القول:  أهلاً .. وجبلاً؟!.

فسمعتُ صوتَ ضحكتهِ، ورأيتُه منشرحًا، كما لم أره من قبل.

وبقيت أقرأ، وأقرأ.. وهو يبتسم ويستزيد، إلى أن قرأت:

وتميس حاملة القرطل بقرطلها الجالس على كتفٍ مليس، لم يَرَ من دهره سوى عتمة الجدائل السوداء... وتحت إبطها (...)

قاوقفني، بإشارة من يده، طالبًا إليّ حذف آخر المقطع، والابتعاد عن الأدب الإباحيّ، وإبقاء النصوص نظيفة كثلج صنّين...

 

 

 

 

 

 

 

إيّاك والأدب الإباحيّ

يومها، تنبّأ الأديب الكبير، لدفتري الصغير، بمستقبل زاهر. فصدقت نبوءته (21).

بعد مّدة شعرتُ أنّ رفيق طريقي يهتمّ بأصدقائه، ويردّ على الرسائل، على حساب راحته. فما عدتُ أسأل إلاّ عن صحّته، وما عدتُ أخبره إلاّ ما يريح باله، ويطمئنه، ويبعده عن كلّ ما يعكّر صفو هدوئه.

وقد نشرتُ رواية أصابع القَدَر من دون أن أعرضها عليه، أو أحدّثه في أمرها.وعندما حملتها إليه، وكان في " الزلقا " نظر إلى الغلاف مبتسمًا، ثمّ وضعها قربه، وهو يقول: مبروك، يا سميّي. وبعد نحو أسبوعين – ثلاثة – وصلتني رسالته :

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

معارك النقد الأدبيّ

المعارك الأدبيّة قديمة في تاريخ الأدب العربيّ.

وما يهمّنا، منها، هنا، الحرب النقديّة الشعواء التي شنّها ميخائيل نعيمة على الأدب القديم، مع بعض رفاقه من أعضاء الرابطة القلميّة؛ وعلى بعض رفاقه من أعضاء تلك الرابطة وغيرهم.. وغيرهم. ومن المعروف أن ميخائل نعيمة قد بدأ حياته الأدبية ناقدًا. وأوّل ما انتشر صيته، من خلال كتابه النقديّ الشهير: الغربال.

ومع أنّه يعرف " أنّ الكثيرين من كتّاب العربيّة وقرّائها لا يزالون يرون في النقد ضربًا من الحرب بين الناقد والمنقود "( الغربال ) ؛  فقد عاد وكتب " جبران خليل جبران " ثم " في الغربال الجديد "...لأنّ نعيمة أراد التجديد في الأدب، وبيّن أنّ " مهنة الناقد هي غربلة الآثار الأدبيّة، لا غربلة أصحابها ".

المهمّ أنّ نعيمة قد غربل، في غرباله، نخبة من الأدباء والشعراء القدامى من المدّاحين، والباكين على الأطلال؛ وميّز بين الشعر والنظم؛ وتحدّث عن " نقيق الضفادع  "، ودافع عن قول جبران؛ وتكلّم على الزحّافات والعلل؛ وأثار بنقده ردود فعل، وهجومات، وعداوات...

وعلى الجملة، كان ميخائيل نعيمة ناقدًا محقّاً حينًا، وصائبًا حينًا، وقاسيًا أحيانًا... في زمن مبكر، وفي مجتمع يهوى المدائح الكاذبة، والتكاذب المتبادل، والمهادنة.

في الغربال، غربل نعيمةُ أميرَ الشعراء )أحمد شوقي(، في القصيدة التي أسمتها الصحافة المصريّة:  الدرّة الشوقيّة؛ فإذا " بالدرّة  " صَدَفة لمّاعة، وإذا" بالمعجزات "الشعريّة خزعبلات عروضيّة.

وبعد شوقي، مباشرة، انتقل نعيمة إلى ديوان القَرَويّات، لصاحبه الشاعر القرويّ ( رشيد سليم الخوري).

والشاعر القرويّ، رئيس العصبة الأندلسيّة: الرابطة الشبيهة بالرابطة القلميّة، والتي تخالفها في الآراء، والمواقف، والنظرة إلى التراث العربيّ... ومن المعلوم أنّ أوجه الخلاف كانت أكثر بروزًا بين القرويّ ونعيمة؛ وأنّ مواقفهما كانت على طرفي نقيض. التقيتُ الشاعر القرويّ، أكثر من مرّة. وفي مرّات كثيرة دار الحديث عن ميخائيل نعيمة. فاكتشفتُ أنّ بعض كلام نعيمة، في الغربال، كان قاسيًا على القرويّ وبخاصّة عندما قال، في الغربال: " القرويّ ينظم للنظم، يلتقط موضوعات من هنا    هناك تغيب فيها شاعريّته خلف ستار من الوعظ المملّ والتفلسف السطحيّ والفخر الفارغ ". وهذا الكلام ترك في قلب القرويّ جرحًا بليغًا لا يندمل. بعد زمن طويل، كان ميخائيل نعيمة مرشّحًا لجائزة نوبل العالميّة. وأرادت الدولة اللبنانيّة،  مشكورة، إقامة مهرجان لتكريمه. وكنّا في هدنة قصيرة، في الحرب القذرة، عام 1978.

وبعد ان حُدّدِ مهرجان التكريم، وأُعلن برنامج الاحتفال... فوجئت الأوساط الأدبيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، باعتراض الشاعر القرويّ، على تكريم ميخائيل نعيمة، وشنّه هجومًا كاسحًا على عصر الردّة، والوثنيّة الدينيّة.. والجاهليّة الأدبيّة، وعبادة الأوثان في لبنان... واصفًا مكرّمي نعيمة بأبي جهل، وحمّالة الحطب، والذود عن اللاّت، والعزّى، ومناة... وواصفًا مؤلّفات نعيمة بالهراء...وطالبًا، من الحكومة، عدم تكريم صاحب مرداد، بل تكريم ناقده صاحب كتاب: "نعيمة بين قارئيه وعارفيه": (كعدي كعدي) (22).

تهافت الناس على جريدة النهار، وبهت أصحاب الأقلام... واتّصلتُ بأكثر أصدقاء وأصحاب نعيمة، فوجدتهم: إمّا محايدين، وإمّا خائفين، وإمّا شامتين!.. حاولتُ، جاهدًا، مقابلة القرويّ فلم أفلح. ولا أدري لماذا وجدتُ نفسي صاحب الحقّ، في الردّ على  صديق، دفاعًا عن صديق.  وقد حذّرني بعض المخلصين من الردّ على القرويّ، وإثارة غضبه... فقلت، راكبًا رأسي: أنتم تعرفون لسانه، وأنا أعرف قلبه. ولمّا اتّصلت بنعيمة، وجدته هادئًا، غير مكترث، أو هكذا بدا لي. وأخبرني أنّه لن يردّ، وقد أرسل إليّ رسالة، بدأها هكذا: سميّي العزيز ميخائيل  لا يضطربنّ قلبك لما قد تسمعه أو تقرأه عنّي من أمور تحسبها غير لائقة بي. فأنا بحكم ظروفي، معرّض أبدًا للاحتكاك بكل أصناف البشر. والبشر كما تعلم، ليسوا ملائكة... لكننّني انفردتُ،   من بين المهتمّين، فكتبت ردّاً على الشاعر القرويّ. القائل: من أحقّ بالتكريم؟.. فقلت:  هو أحقّ بالتكريم (23).

وقد ذكّرت القرويّ بجلسة من جلساتنا، تكلّمنا فيها على تقصير الدولة. وقلت له:  يا صديقي القرويّ.  إنّ تكريم أديب، لا يعني احتقار الأدباء الآخرين، ولا يعني أنّ الدولة أخطأت في هذا التكريم...وألفت نظرك، يا أخي، إلى أن يهوذا عُرِفَ بين الناس عن طريق خيانته معلّمه، لا أكثر ولا أقلّ، فهل نطالب بتكريم يهوذا؟..

وهذا الأمر قد أثار حفيظة الأستاذ كعدي كعدي الذي ردّ عليّ في مقال طويل(24)، عنوانه:  الحقيقة أكبر من أفلاطون. فكان أن أجبته بمقال، عنوانه:  تناقضات نعيمة لا تنقص من روعته، لنحضر تكريمه (25). ثمّ صدر مقال  للدكتور محمّد شيّا، أوضح فيه أمورًا كثيرة تتعلق بأدب نعيمة، وما دار حول متناقضاته (26)... في لقاء التكريم، سألتُ عن الأستاذ كعدي كعدي، لأسلّم عليه، وأعتذر عن الإزعاج... فلم أجده. وفي المهرجان الكبير، كان شقيق نعيمة ( نجيب) يسأل عنّي. ثمّ حضرنا معًا إلى ظلّ السنديانة، في الشخروب، فاستقبلني ميخائيل نعيمة بابتسامة عريضة. وأسرّ في أذني كلامًا ، فيه شكر، وفيه كلام على الوفاء، وفيه احترام كامل لآراء الآخرين ... وبخاصّة القرويّ.

وقبيل تركنا الشخروب، أجلسني قربه، لأخذ آخر صورة لنا، معًا:

إبتسامة في الشخروب               آخر صورة لنا معاَ

آخر صورة لنا، معًا...

انتقل سميّي، من حياة إلى حياة، ولا أدري إن كان سيعود إلى حياة جديدة... لكنّني أؤكّد أنّ المكان الذي ذهب إليه، أفضل من المكان الذي نحن فيه؛ لأنّنا في زمن قلّت فيه " الآداب " وخرجت ،  فيه الحيوانات الضارية من مغاورها، وكهوفها، وأقفاصها... فأباحت واستباحت دماء القطعان الآمنة.

مصادر الأدب النعيميّ

إنّ المصدر الأساس الذي اعتمده نعيمة في أدبه، هو الأدب الواقعيّ الذي يهتمّ بواقع الحياة، ويعمل على إصلاحه وتحسينه... والمعروف أنّ الأدب الواقعيّ قد بلغ ذروته على أيدي الكتّاب الروس، أمثال: " غوغول " و"تورغينيف "   " دوستويفسكي " و " تشيخوف " و " غوركي " و " تولستوي" . قال نعيمة: " إنّ الأدباء الروس فتحوا لي الباب إلى الأدب الإنسانيّ الرحب، فنهجت نهجهم في ما صنّفت من قصص... أمّا في النقد فقد وجدت في "     بيلينسكي– " إمام النقّاد الروس – مثلاً رائعًا للنقد الرفيع. وأمّا في الشعر فقد أعجبت كثيرًا ب " بوشكين " و " لرمونتو " و " نكراسوف ". (27) ومثل هذا الكلام، وهذه الأسماء نفسها، عاد وذكرها في مقابلة ثانية فقال:

" أنا مدين، في تفتّحي الأدبيّ، للكتّاب الروس، بالدرجة الأولى ". (28) ومن الغريب أنّنا كنّا نتحدّث عن يسوع، والفرّيسيّين... ونستهجن لوم المتزمّتين من اليهود، السيّد المسيح، لأنّه شفى الأعمى، في يوم سبت!... وقادنا الكلام إلى ذكر تولستوي، كأشهر موسرٍ بين الأغنياء، تنازل عن ثروته، بملء إرادته، لأقنانه العاملين عنده في أراضيه الموروثة ... ثمّ أعتق أقنانه، وفتح مدرسة على نفقته، وكان يقول: " القصد من التعليم تربية الشخصيّة الإنسانيّة والخلق الكريم، لا حشو الدماغ بمعلومات لا تنفع الطالب في شيء "...(29)

مصدر معلوماتي

في لقاءات متعدّدة، ومتباعدة، أخبرني صديقي تفاصيل عن الأدب الروسيّ، وأفاض في كلامه على تولستوي: عملاق الروح والقلم (30). وصحّح لي أكثر المعلومات التي عرفتها عن " ليون تولستوي "، والأدب الروسيّ...

وعندما تغيّرت المناهج التربويّة في لبنان، وأُدخلت مادّة الآداب العالميّة في مناهج المرحلة الثانويّة، وطلبت الوزارة إلى التلامذة دراسة آنّا كارينينا ل تولستوي... صدرت ترجمات كثيرة ، منقولة عن مترجمين عرب يعرفون اللغة الروسيّة.

فطلبت منّي إحدى دور النشر، دراسة آنّا كارينينا، وتقديمها بحلّة جديدة وجيّدة. وكان أن عدت إلى المعلومات القيّمة، والدقيقة، والشاملة ... كما سمعتها من ميخائيل نعيمة. فإذا ليون تولستوي:  ليڤ تولستوي:  الأسد الضخم. وإذا آنّا كارنينا: آنّا كارينينا... وبعد أن درست هذا الأثر العالميّ المهمّ، متحدّثًا عن: الأدب العالميّ - روسيا والأدب الروسيّ – المجتمع الروسيّ - نظام القَنانة - أشهر الكتب الروسيّة؛ ليڤ تولستوي(: سيرة حياته بدقّة متناهية.... الحرم    الكنسيّ –تركه المنزل-  وفاته مشرّدًا... ثمّ قمت باقتباس الرواية من تولستوي، وصياغتها، بالعربيّة الفصحى، وتحليل شخصيّاتها... كان أنّ استندت، بثقة، إلى المعلومات القيّمة التي أفادني بها ميخائيل نعيمة.

خلاصة الكلام

في الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة جامعة البلمند، بالاشتراك مع البيت اللبنانيّ الروسيّ، أقميت ندوة بين 4 – 8 آذار/1999، شارك فيها:  اميل بو حبيب - جورج حدّاد - المطران خضر - يوريس يراسوف - سهيل فرح - ماريّا نيكولاييڤا، وغيرهم. في المحور الأول:  روح الحضارتين:  الروسيّة ، والمشرقيّة. تكلّمت د. ماريّا نيكولاييفا، على ميخائيل نعيمة:  الفيلسوف، الشاعر والإنسان. وقد فوجئت بقولها: ... " ومن تعمّق نعيمة بالأدب الروسيّ، فهم قوانين  الحياة، وفصل " القشور عن اللباب ". وأكملت:  أشير هنا، إلى تأثّر الأديب ميخائيل مسعود، بأدب ميخائيل نُعَيمة، والدليل على هذا، كتابه الأخير: لباب وقشور. (31) في ذلك الوقت، كانت رواية آنّا كارينينا في آخر مرحلة من الطباعة والتطوية... وقد قرأتها د. ماريّا، وأعجبت بها إعجابًا شديدًا، وكتبت على غلافها الأخير:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

صديقتي ماريّا...

ما كنت عرفت الأدب الروسيّ، ولا تولستوي، ولا أعماله العظيمة... وما كنت كتبت نثرًا فنّيّاً، ولا أدبًا عربيّاً ... لولا معرفتي بصديقي الذي أنار طريقي:  ميخائيل نعيمة.

مع تحيّات ميخائيل مسعود

حقل العزيمة 21/12/2013

الحواشي

1-  من كلام قاله ميخائيل نعيمة، منذ زمن بعيد، لرفيقه جبران خليل جبران.

2- هي مدرسة الأب نادر، في بلدة دِدّه - الكورة، قبل أن تتحوّل إلى مدرسة مهنيّة، ثمّ إلى معهد فنّيّ.

3- كان ما كان، كتاب معروف للأديب ميخائيل نعيمة، صدر للمرّة الأولى عام 1927.

4- من كتاب كان ما كان قصّة " ساعة الكوكو ".

5- هو الأستاذ كامل درويش (1927-1993): درّس الأدب العربيّ والفلسفة، في حماه وطرابلس، والكورة. عمل مديرًا للدروس في دار التربية والتعليم الاسلامّية. له ديوان شعر ، ومسرحيّة.

6- كانت المكتبة تضمّ كتبًا لكبار أدباء لبنان ومصر... وكانت أكثر الكتب فيها للأديب ميخائيل نعيمة. وقد علمت، بعد سنوات، أنّ الذي قدّم كتب نعيمة للمكتبة هو المطران أبيفانيوس زايد.

7- الرسائل: بدأت الرسائل بين ميخائيل نعيمة وبيني، منذ أوائل العام 1963 ، واستمرّت حتى العام 1975 ، حيث استعضنا عنها باللقاءات. وفي مكتبتي أكثر من 67 رسالة بخّط يده. وما ينشر منها فللمرّة الأولى.

8- بعد مدّة طويلة، تحوّل هذا المقطع إلى نصّ أدبي كامل، عنوانه الفلاّح - دفتر من بلاد الجبل، طبعة 11 ، عام 2008 ، الصفحات:(49-50-51-52).

9- نشر الكلام في نصّ كامل عنوانه:  قناعة الفقراء. (ميخائيل مسعود:  حياتي-  طفولتي في بلاد الريف-  المرحلة الأولى، طبعة 25 ص 32).

10- كتاب للأديب ميخائيل نعيمة، صدر في العام 1963 ، وكأنّه تكملة لكتاب مرداد.

11- من كلام له، في اليوم الأخير.

12- بعد سنين، ظهرت بذور فلسفة نعيمة في كتابي: أدباء فلاسفة:) بحث في الأدب والفلسفة، دار العلم للملايين . (دراسة جامعيّة)..

13- نُشِرت هذه الرسالة ناقصة، في المجموعة الكاملة؛ لأن الذي أشرف على اختيار وترتيب ونشر الرسائل ... لم يكن ميخائيل نعمية شخصيّاً. (قارن نصّ الرسالة الأصليّ الوارد هنا، بخطّ يده، مع نصّ الرسالة المنشور في: المجموعة الكاملة، دار العلم للملايين، المجلّد الثامن، ص 335-336).

14- د.علي شلق(1915-2009) تتلمذ في الأزهر بمصر، حصل على دكتوراه في الآداب 1950 ، درّس في بغداد وعمل في مجلّة " الأقلام . "

15- أنظر:  مقدمّة كتاب حياتي- طفولتي في بلاد الريف، بقلم د.علي شلق، ص 11

16- كعدي كعدي:  ميخائيل نعيمة بين قارئيه وعارفيه، 1971 ، لا. ن، ص 22

17- د. محمّد شفيق شيّا:  فلسفة ميخائيل نعيمة) تحليل ونقد(، منشورات بحسون الثقافية- بيروت، توزيع مؤسسة نوفل.

18- ورد مثل هذا الكلام، في مقابلة أجرتها معه جريدة النهار، بيروت ، 28 تموز 1962

19- هما:  وديع أمين سعادة، وأنطوان يوسف سعادة، من بلدة شبطين – البترون.

20-  هو كتاب:  أيام ريفيّة، صدر عن دار الكتاب اللبناني – بيروت، الطبعة الأولى 1972

21- حقّق الكتاب نجاحًا باهرًا، فقد طبع 12 مرّة ؛ وأعطي نصّ منه في امتحانات الشهادة، دورة 2001 التجريبيّة؛ واعتبر أنموذجًا في النثر الفنّيّ، في أطروحة دكتوراه دولة، في اللغة العربيّة وآدابها، الجامعة اللبنانية-  المعهد العالي للدكتوراه (بالاشتراك)، إعداد الطالب:  كابي الفغالي، إشراف أ.د.منيف موسى.

22- جريدة النهار، العدد الصادر في 18-1-1978، ص7.

23- انظر:  جريدة النهار العدد الصادر يوم السبت 28-2-1978، ص7.

24- ردّ كعدي كعدي على ميخائيل مسعود ، النهار، 8-2-1978، ص7.

25- ردّ ميخائيل مسعود على كعدي كعدي، النهار، 18-2-1978، ص7.

26- النهار ، 23-3-1978.

27- من مقابلة، جريدة العمل، العدد الصادر في بيروت 30- تشرين الثاني- 1961.

28- جريدة الكفاح، بيروت، العدد الصادر في 1-1-1962.

29- وهذا المبدأ اعتمده نعيمة في حديثه عن التربية والتعليم.

30- ميخائيل نعيمة: " عملاق الروح والقلم "، في ذكرى مرور نصف قرن على وفاة تولستوي (في الغربال الجديد، المجموعة الكاملة، المجلّدَ السابع).

31- أنظر كتاب: روسيا والمشرق العربيّ: لقاء الثقافتين. (أعمال الندوة العلميّة التي عقدت في رحاب الأكاديميّة اللبنانية للفنون الجميلة بين 4-8-آذار 1999)، جروس برس، طرابلس-  لبنان ، ص 54.

ميخائيل نعيمة كما عرفته

    ​الناسُ على سَفَرٍ.

والمُسافرُ الحكيمُ مَن أحْسنَ اختيارَ رفاقِ الطريقِ.       (ميخائيل نعيمة)

 

قُمْ، أيّهَا الماضي البعيد، فقد آنَ أوانُ الحكايةِ الحلوة.

 إستيقِظْ من نومِكَ الطويل، فالنومُ وجهٌ من وجوهِ الموت.

قُمْ نذكرُ حكايةَ المَحبّةِ والصِدْقِ والعَطاءِ...

ونكونُ أوفياءَ لرفيقِ الطريقِ.                          (ميخائيل مسعود)

 

حكايتي مع ميخائيل نُعيمة

في كلامي على ميخائيل نُعيمة متعة، وراحة نفسيّة، واستعادة الكثير من ذكريات الماضي؛ وما يتعلّق بالماضي من طفولة أدبيّة؛ بدأت تحبو، وتدرج، وتمشي... برعاية راعيها، والمُمسك بيدها، بكلّ محبّةٍ وصدقٍ وأمانةٍ وإخلاص.

إنّها حكاية تلميذٍ صغيرٍ يسألُ، ومعلّمٍ كبير يجيب.

ذلك المعلّم قد أمسك بيدي، وعلّمني المثابرة والمحبّة والتواضع والثبات، وهداني سواء السبيل.

وتلك حكاية بدأت أحداثها، منذ نصف قرنٍ من الزمن، ثمّ نَمَتْ ، وتتابَعَتْ، وترسَّخَتْ... في ذاكرةٍ رهيفةِ الحسّ،ِ " سَلِمَتْ فيها الذِكْرَياتُ والأَسْبَاب ".

وإنّني، إلى الآن، لا أعرفُ الأسبابَ الحقيقيّةَ التي جعلتِ الأقدارَ تختارني، لأن أكون ذلك الإنسان الذي يستجلي الذكريات، "كما يستجلي النائمُ، في أحلام طيرانِه، زمانًا كان فيه طائرًا، قبل أن يصير إنسانًا (1) ".

كلّ ما علمته وعرفته، أنّ الأقدار العجيبة، والمصادفات الغريبة، وقراءة أوّل كتاب لميخائيل نعيمة، والاطّلاع على بعض مؤلّفاته، ومحاولة فهم أفكاره، والإعجاب الشديد بأسلوبه، والبحث عنه... أمور قد غيّرت أهدافي، وحياتي، وقادتني إلى طريق الأدب، من بابه الواسع.

لكن، كيف عرفت ميخائيل نعيمة، وكيف جرت الأحداث، وما هو دور المصادفات ... فحكاية طويلة، سأحاول اختصارها، في ما يلي:

موجز الحكاية

بدأتِ الحكايةُ، كما كانت جدّتي تبدأ حكاياتها، ب " كان ما كان، كان في قديم الزمان "... تلميذ فقير، أو شبه فقير، انتقل من عالم السنابل والمناجل والبيادر... إلى مدرسةٍ نصف داخليّة؛(2) طلبًا للعلم، والوظيفة، والغنى المادّيّ المفقود.

وكان ذلك التلميذ، إذا أنهى دروسه المُمِلّة، وكتب فروضه المزعجة، انصرف انصرافًا كاملاً إلى مطالعة كتاب حصل عليه، من مكتبة المدرسة، بالأجرة، لمدّة أسبوع أو أسبوعين.

وابتسم له الحظّ، مرّة، عندما وصل إليه كتاب أصيل، غير مترجم، ومن عالمه الخصوصيّ المحبوب، وكان اسم الكتاب: " كان ما كان " (3).

قرأ الكتاب قراءة سريعة، وأعاد قراءته قراءة متأنّية... ثمّ طالعه مطالعة هادئة، هادفة، واعية.

وعند كلّ قراءة ، كان يجد نفسه في عالم غريب عجيب من المصادفات التي لم يجد لها تبريرًا، خارج إطار الإعجاب:

فالكلام على كنيستين:  شرقيّة، وغربيّة؛ وكاهنين يتقاسمان القطيع، ويحلّلان ذبح الكباش والنعاج والخراف... بحجّة رعايتها، والحفاظ عليها !..

والكلام على القرويّين في لبنان، لا سيّما في قرية صغيرة كقريته. " إذا طرقهم غريب لا يوصدون أبوابهم في وجهه ولا يطعمونه اللقمة بيمينهم، ويسارهم ممدودة إلى كيسه " (4).

وسأل نفسه عن هذا التشابه بين أشخاص القصّة والمحيطين به من أهل وأقرباء وجيران ...

وبين نظرة الكاتب إلى أهل القرى:  أهل المحبّة، والرفق، والشهامة، والصدق، والعدل، والمسالمة، واللطف، والدعة ، ونكران الذات ...

فوجد الإجابة في قول الكاتب:

"ألست ترى أنّ الناسَ يسيرونَ في الحياةِ أسرارًا ؟

فالإنسان يقترب من الإنسان بقدر ما يقترب المتشابهان في الظاهر:  هذا سرّ وذاك سرّ"

ومنذ ذلك الحين، بدأ يبحث عن مؤلّفات ميخائيل نعيمة، ويبذل جهدًا في سبيل الحصول على بعضها، ويجد راحة نفسيّة في قراءتها، ويحاول فهم أفكار صاحبها، ومعرفته بأيّ ثمن.

وسأل معلّمه(5) عن الكاتب المذكور، وأسماء بعض مؤلّفاته. فأحضر له لائحة بأسماء الكتب الموجودة في مكتبة المدرسة ،(6) وشجّعه على قراءة بعضها، ونصحه بعدم قراءة بعضها الآخر؛ لأنّها فوق مستواه.

والكتب المذكورة على اللائحة ، كانت مرتّبة بحسب تواريخ صدورها، للمرّة الأولى، هكذا:

1-  الآباء والبنون

2- الغربال         

3- المراحل                        

4- جبران خليل جبران          

5- زاد المعاد   

6- كان ما كان 

7- البيادر                                        

8- همس الجفون                          

9- الأوثان                                 

10- كرْم على درب                          

11- صوت العالم                          

12-  لقاء                                   

1917 م.

1923 م.

1932م.

1934م.

1936 م.

1937 م.

1945 م.

1945 م.

1946 م.

1946 م.

1948 م.

1948 م.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولمّا قرأ بعض هذه الكتب؛ وعلم، من تواريخ صدورها، أنّها نشرت قبل مولده بزمان طويل؛ بدأ يصلّي، في قلبه، لأن يكون كاتبها ما زال على قيد الحياة.

وكان، في لياليه الطويلة، يحلم أحلامًا مجنّحة؛ يتصوّر فيها أنّه بحضرة الكاتب الكبير؛ يطرح عليه أسئلة في المواضيع المهمّة التي تشغل رأسه الصغير.

لكن ، كيف السبيل إلى معرفته؟..

هذا هو السؤال.

 

الرسائل

وبعد قراءات دائمة، وأسئلة حائرة، وملحّة ... لاحظ ذلك القارئ المدهوش، بمواضيع وحياة الكاتب المدهش، أنّ حياته – في بلاد الجبل – تشبه إلى حدّ بعيد، حياة ذلك الكاتب:

فمجتمع أهل الريف، وحياة الفلاّحين ، وأعمال الحرث، والزرع، والحصاد... والعادات والتقاليد ... أمور متشابهة في القرى اللبنانيّة، وبخاصّة الجبليّة منها.

وهنالك قضيّة تعلّمه، في دير البلمند، وعلاقة " الروم " بروسيّا القيصريّة ، وتسمية والدته  " كتّورعلى اسم الإمبراطورة كاترينا الكبيرة...

وغيرها من الأمور التي أثارت حَيْرَته، وقوّت عزيمته. فشرع يجمع المعلومات المهمّة المتعلّقة بميخائيل نعيمة، ومكان إقامته، وعنوانه البريديّ...

واستقرّت في رأسه فكرة أن يرسل إليه رسالة، تكون بداءة تعارف ، وصحبة وصداقة...

فكانت الرسائل. (7)

بكثير من التصميم، وقليل من الأسئلة، علمتُ أنّ ميخائيل نعيمة مقيم في بلدته بسكنتا، بشكل دائم.

فكتبت إليه رسالة مهذّبة، أطلب فيها رسمه، ونصائحه ومساعدته...

وسرعان ما أرسل إليّ رسالة جوابيّة، يرحّب، بي، فيها، لأن أكون رفيقًا في الطريق.

فكانت رسالته الأولى إليّ:

" أهلاً وسهلاً بك رفيقًا في الطريق ".

كلامٌ جميلٌ صريحٌ مشجّعٌ، ودعوةٌ واضحةٌ صادقةٌ من ابن الرابعة والسبعين: الأديب العالميّ الكبير، الخبير؛ صاحب المؤلّفات الأدبيّة، القصصيّة، النقديّة، الفلسفيّة، الفكريّة ... يرحّب بتلميذ صغير فقير، لا حول له، ولا مال في جيبه، ولا يعرفه أصلاً... يرحّب به ليكون رفيقًا في الطريق!...

منذ ذلك اليوم، إلى اليوم، كلّما تذكّرت الأمر، برزت أمام عينيّ صورة ابن مريم يغسل أرجل تلاميذه. ويا له من تواضع، لا مثيل له! ..

يومها، تناولت قلمي، لأكتب إلى ابن بسكنتا، ناسك الشخروب، في جبل صنّين.

كان قلمي، يومها ، مُهْرًا صَغِيْرًا جَامِحًا:

يَطلُبُ الْجَرْيَ، يَعَضُّ لجَامَهُ..

يَجري، أَصِيْلاً، فَوْقَ دَرْبِ الْمُنحنى:

رافِعَ الرأسِ قَوِيّ الْوَثْبَةِ...

ونظرتُ إلى رسم ميخائيل نعيمة.

فإذا الرجل كما تصوّرته تمامًا.

وبعد تفكير قصير، كتبت إليه رسالة ثانية.

قد شاءها قلمي نصًّا أدبيّاً.. فكانت كما شاءها قلمي:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وبعد نحو أسبوع، وصلتني منه رسالة طويلة، يدعوني، في نهايتها، للمجيء إلى بسكنتا...

ومِمّا ورد فيها :

-1رسائل

وهكذا عرفته صاحب يد ممدودة، وقلب كبير، ودعوة صادقة.

صداقة تتكشف

بعد تبادل الرسائل، على مدى عام كامل، صدر للأديب الكبير كتاب جديد عنوانه:  اليوم الأخير (10). فقلقتُ غاية القلق، وبدأتُ أسألُ عن صحّته انطلاقًا من عنوان الكتاب.

وقد أبصرتُ، بخيالي، في لحظاتٍ، ما يستحيلُ على عيني أن تبصره في عمر كامل (11).

وبعد قراءة الكتاب، مرّات، عرفت أنّ المعرفة الحقيقيّة تنطلق من فكرٍ ينقّب عن أجوبة لتساؤلات:

" من أنا؟ من أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟ وما القصد من مجيئي وذهابي ..."

وهنا، عرفت أنّني طفل يحبو على طريق المعرفة، وأنّ الفلسفة: )فيلوصوفيا (، ما هي إلاّ محبّة الحكمة.

وتصوّرت ميخائيل نعيمة فلاّحًا زارعًا، ينثر بذوره في أذهان الناس، فيقع بعضها في رأسي الصغير .. في عمق أعماق عتمة دماغي، منتظرًا ربيعًا أخضر(12).

ومن وحي اليوم الأخير، وقلقي على صحّته، كتبت إليه رسالة تحكي اللقاء في صفحات كتبه، وأسأله عن صحّته، وأعماله الأدبيّة، وآخر نشاطاته...

فردّ عليّ بالرسالة التالية (13):

رسائل

وصداقة تستمرّ

بقينا نتبادل الرسائل على مدى سنوات.

وقلّما مضى أسبوع واحد من دون أن أكتب إليه، أو أتلقى ردّه، أو دعوته الصادقة لزيارته، في بسكنتا، أو في الزلقا.

وفي كلّ رسالة منه، كان يمتدح محبّتي له، ويقدّر استفساري عن صحّته، ويطلعني على أعماله الأدبيّة، وآخر تآليفه: بأسمائها، وتفاصيلها...

وقد استمرّت صداقتنا، وترسّخت أكثر، فأكثر، إلى يومنا هذا.

منذ خريف العام 1966 ، بدأ يفضّل لقاءنا على كتابة الرسائل، ويدعوني إلى بيته، في بيروت؛ لأنّ بيروت أقرب من بسكنتا، وطريقها أسهل. وفي هذا كتب إليّ:

رسائلرسائل

ويد ترتجف

منذ صيف العام 1967 ، بدأت ألاحظ ارتجافًا واضحًا في يده اليمنى؛ عندما يكتب، لي، إهداء على كتاب صدر، له، حديثًا، أو عندما يشعل سيجارة ...

فكنت أتجاهل الأمر، وكان يبتسم راضيًا، ويعرف أنّني أعرف، وأتضايق، وأخفي غصّتي...

وفي كلّ رسالة، كنت أسأل عن صحّته، أوّلاً بأوّل...

إلى أن أخبرني صراحة عمّا يزعجه، وأنّ يده اليمنى باتت لا تطاوعه، في الكتابة، " إلاّ بمنتهى البطء والصعوبة "...وقد دعاني إلى لقاء قريب جدّاً ، في بسكنتا. ...

فكتب:  يقول:

رسائل

في اللقاء القريب الذي شاءه لله لقاء محبّة وتفاهم، عرضت، بعد اعتذار لطيف، أن يكتب أحدنا، له، ما يمليه علينا. وكان حوله، في ذلك الحين، نخبة من الأدباء والأصدقاء، أذكر منهم، مع حفظ الألقاب:

توفيق يوسف عوّاد، المطران أبيفانيوس، عبد لله القبرصي، أنطوان جبارة، منيف موسى، فريد جحا، وليم الخازن، توما الخوري، ادفيك شيبوب، جوزيف طوبيّا، ثريّا ملحس، بولس طوق، الياس عطوي، فاضل سعيد عقل، روبير غانم، أنطوان كرم، متري بولس، رياض فاخوري، ربيعة أبي فاضل، وغيرهم .. وغيرهم.

وأبديت رأيًا بهذا الخصوص، فقلت:

... وأجد نفسي الأَولى بهذه المَهمّة، بعد ابن أخيك : " نديم " لكنّ أفضلنا ترتيبًا، وأحسننا خطّاً:  يونس الإبن لكنّ صديقي رفض الفكرة من الأساس. وبقي يسند القلم المرتجف مع ارتجاف يمناه ، بسبّابة يده اليسرى، حتى نهاية إحدى حيواته الزاخرة      بالمحبّة والكرم والعطاء. وقد عرفته صامداً صابراً، شاكراً، هادئاً...يحدثني عن الموت على انه درب من دروب الحياة، ولا نهاية للحياة. فالموت ليس نقيض الحياة، بل هو نقيض الولادة.

تصرّفات أديب

لقد زرت ميخائل نعيمة عشرات المرّات. فجالستُهُ، وحادثتُه، وحاورتُه، وآكلتُه، وشاربتُه... فعرفتُ فيه إنسانًا عظيمًا، هادئًا، ناضجًا، لطيفًا، واضحًا، متواضعًا ...

وهو، في أحاديثه، وردوده، وتصرّفاته...لا يختلف، في شيء، عمّا يكتبه، أو يقوله لمراسل صحيفة عالميّة، مثلاً. كان يستقبلني ببشاشته ولياقته، خارج المنزل، وأحيانًا، حاملاً طفلة، وهو بكاملِ الحنوّ والحنانِ والرأفة. وكان يحدّثني بمنتهى الجدّيّة والعمق والتفكير، ويختار كلماته بهدوء، وكأنّه يقرأ من كتاب مصحّح ومدقّق.

وعرفتهُ ينظر إلى الإنسان، أيّ إنسان، " على أنّه، في حقيقته، إله. ولكنّه إله في القُمْط ".

كثيرًا ما أصرّ على بقائي، لتناول الغداء، وإكمال الحديث. وهل أطيب من غداء قوامه نباتات برّيّة وبقول، جُمعت من سفح " صنّين"، وأعدّتها "ميّ" على طريقة أهل الجبال؟..  وهل أفضل من أحاديث أدبيّة، فكريّة، لا تكتمل مهما تفرّعت وتشعّبت؟..

والذي أخجلني، أنّه كلّما فرغ صحني، أو كاد، وقف ابن الثمانين، بقامته النحيلة، وأضاف إليه من بقوله، ولطفه، وتواضعه. وتدخل " ميّ "حاملة صحفة تفوح منها رائحة شواء. فيقصيها عنه، بلطف، مشيرًا إلى ناحيتي.  ولمّا تمنّعتُ، وخرجت " ميّ " تمْتَمَ، بما يشبه الهمس: " شاركتُ الحمَلَ في لبنِ أمّه، ثمّ استبحتُ لحمه، فهل أفظع مِمّن يأكل أخاه في الرضاعة "؟!.

وكنا مرّة في غرفة المكتبة، وكان يقرأ على مسامعي من "مرداد ".

"... عظيم أنت، يا ابن آدم،

لانّك تستطيعُ أن تحبّ،

ثمّ لأنّك تستطيع أن تؤمن،

ثمّ لأنّك، بمحبّتك وإيمانك،

تستطيع أن تعي من أنت"...

طرقات خفيفة على الباب.. ثمّ دخلت " ميّ "وقالت بارتباك:

 

" عمّي، لقد وصل الجماعة "

رسائل

 

فنظر إلى ساعة يده، وقال: " موعدهم بعد سبع دقائق". ثمّ أكمل القراءة بهدوء تامّ.

ولمّا تركنا المكتبة، إلى غرفة الاستقبال، تبيّن، لي، أنّ  " الجماعة " وفد رسميّ من سفارة الاتّحِاد السوڤياتيّة...

في بعض الأحيان، وبخاصّة في مطلع الربيع، كان يدعوني إلى بسكنتا؛ لبحث أمور تخصّني، وتتعلّق بمستقبلي، وبقضيّة دخولي الجامعة، أو إرسالي إلى روسيا لمتابعة تحصيلي ...

وكان شديد الحرص على تأمين مستقبلي، على الصعيد الاجتماعيّ والأدبيّ. وفي كلّ مرّة، يشكرني على أمرٍ ما، كان من واجبي أن أشكره عليه!.. ففي رسالة، يكتب إليّ:

رسائل

وفي رسالة ثانية، يكتب :

رسائل

وفي رسالة، ثالثة:

                 رسائل

وكثيرًا ما كنت أبلغ بسكنتا عند العاشرة صباحًا؛ فيستبقيني عنده حتى المساء، وأحيانًا إلى مساء اليوم التالي؛
لا ليكلّفني عملاً، أو تصحيحًا مطبعيّاً، أو شيئًا يخصّه ... بل ليسأل عن أمر يخصّني، أو ليجد حلاّ لمشكلة عرضت
لي. وبقي يصرُّ على بلوغي بسكنتا عند الصباح، وبقيتُ أبلغها كما أراد، وبقيتِ الصباحاتُ تشهدُ على المحبّةِ والوفاءِ
سنوات وسنوات.

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

وقد بكّرت ما أمكنني، فأمكنني أن أكون في بسكنتا قبل الصباح؛ إذ نمتُ ليلتي عند صديق مشترك  (هو حلاّقه الخاصّ)، ولمّا تلاقينا صباحًا، وسألني كيف وصلت، وأين كنت؟..

قلت: كنتُ أراقبُ طلوعَ الصباحِ.

وماذا وجدت؟

وجدتُ أنّ:

صباح بسكنتا غير الصباحات، غير كلّ الصباحات.

فهناك، حيث شفاه صنّين تلامسُ خدّ السماء النائمة باستسلام مطمئنّ، خَطّ فيهِ من الوهجِ شيءٌ، ثمّ توهّجٌ، ثمّ ظهرت عَظَمَةُ لله القدير:  فرسمتْ صباحَ بسكنتا بالنور الصافي الذي لا تلوّث فيه...

فيا أهالي بسكنتا:

هل رأيتم الصباحَ يتدفّقُ من وراءِ صنّين؟

وهل سمعتم أصحابَ التيجانِ تُعلنُ قدوم صباحكم، بصياحٍ تتجاوبُ أصداؤه في مزارعكم، وتهتزّ، له، فيها، الأعرافُ المورّدة؟..

 

ونظرت إلى وجههِ، فإذا به طافحٌ بالرضى والسرور.

كتبه الصادرة في الخمسينات

بعد الكتب التي قرأتها،حَدثًا، والتي ذكرتها سابقًا، قرأت له، في المرحلة الثانية:

13-  مذكّرات الأرقش صدر في طبعة أولى

14-  النور والديجور صدر في طبعة أولى

15-  مرداد صدر في طبعة أولى

16-  دروب صدر في طبعة أولى

17-  أكابر صدر في طبعة أولى

18- أبعد من موسكو ومن واشنطن صدر في طبعة أولى

19- أبو بطّة صدر في طبعة أولى

1949م

1950م   

1952م

1954م

1956م

1957م

1958م

 

 

 

 

 

 

 

 

وبعد هذه الكتب التي امتازت بالفنّ القصصيّ، وتُوّجِت بكتاب مرداد – بالعربيّة – وأُشبعت بالأفكار الهادئة الرصينة...أتحفنا ميخائيل نعيمة بكتاب سبعون، وألحقه بمجموعة كتب مهمّة.

كتبه الأخيرة

-  هي كتب أصدرها في المرحلة الأخيرة من عمره، نضيفها إلى ما قبلها:

20- سبعون (المرحلة الأولى)  صدر في طبعة أولى 1959 م

22-21- سبعون(المرحلتين:الثانية، والثالثة) صدر في طبعة أولى 1960 م

23-  اليوم الأخير صدر في طبعة أولى 1963 م

24- هوامش صدر في طبعة أولى 1965 م

25- أيّوب صدر في طبعة أولى 1967 م

26- يا ابن آدم صدر في طبعة أولى 1969 م

27- نجوى الغروب صدر في طبعة أولى 1973 م

28- أحاديث مع الصحافة صدر في طبعة أولى 1973 م

29- رسائل صدر في طبعة أولى 1973 م

30- من وحي المسيح صدر في طبعة أولى 1974 م

31- رسائل (تتمّةصدر في طبعة أولى 1975 م

32- ومضات (شذور وأمثال) صدر في طبعة أولى 1977 م

 

 

 

 

 

 

 

سيرة حياته

لعلّ كتاب" سبعون"، في مراحله:  الأولى، والثانية، والثالثة، كان أفضل كتاب يوضح التفاصيل الدقيقة عن ميخائيل نعيمة، وحياته بشكل عام.

وأقول: إنّ أفضل كتاب، وأصدق ما كُتِبَ، في فنّ السيرة، على حد علمي، كتاب  " الأيّام " للأديب طه حسين، إلى أن ظهر سبعون نعيمة، فنافس في المصداقيّة، والوضوح والتفصيل... مع أنّ الدكتور علي شلق(14) له رأي آخر(15)، لم أوافقه عليه، (تواضعًا).

مكانته

عرفت ميخائيل نعيمة صاحب مكانة عالية في عالم الأدب والفكر، وهو أقرب إلى أديب عالميّ منه إلى أديب لبنانيّ.

قال فيه أحد قارئيه وعارفيه وناقديه:

" قد أتقن العربيّة والروسيّة والإنكليزيّة .. وألمّ بالفرنسيّة. فكان له من هذه اللغات مفاتيح لخزائن أدب الغرب والشرق التي كنز من كنوزها ما جعل القلم واللسان يسلسان له قيادهما، فهو فصيح اللسان، سيّال القلم، واسع الاطّلاع، عميق الفكر، بعيد الخيال، صلب الرأي حتّى العناد "(16)...

وُضِعَتْ في مناحي أدبه دراسات جامعيّة كثيرة، منها ما بحث أصحابها في فلسفته (17) على وجه الخصوص. وحقّ لنا المفاخرة عندما نعلم أنّ كتاب مرداد الذي وضعه بالإنكليزيّة، ثمّ ترجمه إلى العربيّة، وصلت منه نسخ إلى الهند. وفي الهند، نشرته دار نشر في بومباي. ثمّ ترجم إلى الهولنديّة وصدر في هولّندا.  ثم طبعته ونشرته دار نشر في إنكلترة، ووزّعته على دول الكومنولث والولايات المتّحدة الأميركيّة...ومن الملاحظ، أنّ " الإقبال على هذا الكتاب، وتقديره خارج البلاد العربيّة، هما أكثر بكثير منهما في لبنان وغيره من البلاد العربية صدق القول " لا كرامة لنبيّ في وطنه ".

رفيق الطريق

في طريق الأدب الرصين، مشيت وئيدًا، على هدي صوت ميخائيل نعيمة، وعلى نور أفكاره النيّرة؛ مستمعًا إلى توجيهاته الحكيمة، ونصائحه التي لا تقدّر بثمن.  وقد عشت على أدبه مدّة، وعايشته مدّة، فنشأت بيننا صداقة زادتها الأيّام متانة وصدقًا؛ بعد أن رَدَمَ هوّةَ فارق السنّ بيننا، بما امتاز به من محبّة، ولطف، وتواضع، وإنسانيّة. وإنّني في هذا الكلام الصريح، وفي هذه الصفحات المختصرة، لا أدّعي أنّني عرفْتُ ميخائيل نعيمة أكثر ممّا عرفه غيري، من الدارسين؛ أو أنّه قرّبني أكثر من بقيّة المقرّبين؛ أو أنّه فضّلني على أصدقائه ومعارفه... وما أكثرهم. لكنّني، بصدقٍ تعلّمته، ومارسته، أعرض لبعض ما جرى لي، وأمامي، على طريق الأدب الراقي، بصحبة الرفيق المحبّ، النظيف القلب والقلم واللسان، والذي عرفتُهُ خير رفيق، في مسيرتي الأدبيّة.

هداياه المميّزة

في أكثر الأحيان، وقبل خروجي من مكتبته، كان يهديني كتابًا، من كتبه، وإن كان بحوزتي؛ بحجّة أنّه صدر في طبعة جديدة.أمّا الكتاب الذي صدر، له، حديثًا، فكان يهديه إليّ؛ بحجّة أنّ دار النشر تعطيه نسخًا معلومة، كهدايا...  وفي كلّ مرّة كان يقلّل من شأنِ هديّته الثمينة، قائلاً: إنّه مجرّد كتاب ...

هديّتي المتواضعة

زرت صديقي، مرّة، برفقة اثنين من أصحابي(19)، حاملاً إليه هديّة قد صنعتها، له، بيدي: وهي لوح من الخشبالمعاكس، حفرت فيه، بمنشار دقيق الشفرة، خطوطًا وفراغات واهية... فتحوّل اللوح الخشبيّ إلى قطعة فنيّة، تمثّل صبيّة حسناء، تداعب،  بأناملها، أوتار قيثار كبير، فتبرز من بين الأوتار صورة ميخائيل نعيمة. وضعنا الهديّة عند زجاج السيّارة الخلفيّ، بعهدة رفيقي(وديع) الذي أصرّ على حملها. وعندما وصلنا، ورأينا صديقي (نعيمة) ينتظر وصولنا، خارج المنزل، أسرعنا للسلام عليه، ومضى السائق واللوحة في سيّارته. ولمّا أخبرنا صديقي بما حدث، بدأ يطيّب خاطري، ويعلمنا أنّه يعرف السائق، وسيرسل في طلبه، ويستعيد الهديّة... وبعد انتهاء الزيارة، تركنا بسكنتا قلقين ..متأثّرين.

الكثارة

وبعد نحو أسبوع، وصلتني منه الرسالة التالية:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وهكذا أفاض صديقي بوصف هديّتي المتواضعة، وعظّم شأنها.. في الوقت الذي كان يقلّل فيه من شأن هداياه الكثيرة.

المعلّمِ والمتعلّم

عندما شعرتُ بميلٍ شديد للكتابة والنشر، وعرضتُ الأمرَ عليه، ابتسم ابتسامة عريضة، وقال، ما معناه: الأمر أشبه باجتماع المطر في الغمامة الماطرة: فالماء يتبخّر من سواقٍ، وجداول، وأنهار، وبحار، مختلفة... ويبقى، في الغمامة، إلى أن يجد الجوّ  الملائم، فينهمر مطرًا على الأرض. والماء لا يبقى حبيس الطبقات الجوفيّة، بل يجد لنفسه سبلاً ومنافذ؛ ليتدفّق عيونًا وينابيع... فيحيي الأرض، وينفع المخلوقات ... فهل سأل الينبوع أحدًا: كيف أتدفّق؟ وإلى أين أسير؟.. قلت:  لا أريد أن تعلّمني، بل أريد أن تُعلمني.قال: " لا تستعجل الشهرة إليك، لئلاّ تستعجلها عنك".

وكان كلام على الأدب، والكتابة، والأسلوب، والانطلاقة الأولى. وما زال كلامه في أذنيّ: " لي مقالة في كتاب " في مهبّ الريح " وخلاصتها: " من كان معدّاً للأدب، لا يحتاج إلى من يدلّه على الطريق.. فأنت لا تحتاجني. وعدّة الأديب:  لغة وفكر وخيال وذوق ووجدان وإرادة. وخير الوسائل لتنميتها:  المطالعة.. المطالعة.  وأهمّ ما يتّصف به الكاتب: الصدق، والإيجاز، وتحاشي اللفّ والدوران"...  أمّا المطالعة، فيبدو أنّك أدمنتها إدمانًا لم أرَ مثيلاً له  ". (فقاطعته، قائلاً):  وأمّا الصدق، فيبدو أنّي تعلّمته من صديقي الصدوق الذي لا مثيل له.

كتابي الأوّل

قبل أن أجرؤ على طباعة ما أكتبه، كنت أُسمعه بعض ما كتبت، لكن بشكل موجز. وكان يبتسم راضيًا، وناصحًا، ومؤجّلاً... ويقول لي:  قد اقتربت من الهدف، خطوات قليلة وتصل إليه، إن شاء لله... إلى أن سألني مرّة:  هل أحضرتَ معك نصًّا؟ فأخرجتُ النصّ من جيب سترتي، وقرأتُ على مسمعه:

"أيّام الحصاد

في الحقول استأسَدَ القمحُ،

وانحنتِ السَنابِلُ السَمراءُ متماوجةً بالحبوبِ الذهبيّة.

وصَلُبَتِ الأحساكُ:  نضجًا، واصفرارًا، ويباسًا..

وفَغَرَ المنجلُ فاه"...

فابتسم قائلاً:  لا بأس .. لا بأس. قد صَلُبَت أحساكُ سنابلك...

قلت:  والمقدّمة؟

قال:  أعتذر، لكثرة أشغالي.

وكلمة على الغلاف؟

من عينيّ.

وعندما كان الكتاب في المطبعة، وراجعته في الأمر، اعتذر، بلطف، لانشغاله بقضيّة جائزة نوبل، وكان في طليعة المرشّحين لها، كما علمت.

وصدرَ الكتابُ(21)، وأرسلتُ إليه النسخة الأولى.  وبعد وقتٍ، أتتني رسالته النقديّة الصادقة... التالية:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأدب النظيف

سبق لي، في وقت من الأوقات، أن كتبت بعض الخواطر والأوصاف والمواضيع.. على دفتر صغير، أيام دراستي في المرحلة المتوسّطة.

وفي ذات يوم، حملت دفتري وطموحي إلى محجّة الأدباء، في بسكنتا.

-  ما هذا الذي في يمينك، يا سميّي؟

-  هذا دفترٌ من بلاد الجبل، يا سمويّ.

-  هات أسمعنا.

فبدأت أقرأ بهدوء، منتقلاً من نصّ إلى نصّ، ومن مقطع إلى مقطع، على حركة يده:

الإهداء

إلى التي يفوحُ عَبَقُ الأرضِ

من فسطانها العتيق.

إلى أمّي في بلاد الجبل،

أهدي " دفتري" هذا.

 

فابتسم راضيًا، ومشيرًا أن أكمل. فأكملت:

والكلام على الجبل، كلام على العرش والعلاء، وشموخ القمم، وصلابة الصخور، وانحدار السفوح، والأحراج العذراء، والأبواب المشرّعة للريح، والضيوف، وعابري السبيل...

وبعد هذا، أفلا تعجب من قولهم:  أهلاً .. وسهلاً؛ والأحرى بهم القول:  أهلاً .. وجبلاً؟!.

فسمعتُ صوتَ ضحكتهِ، ورأيتُه منشرحًا، كما لم أره من قبل.

وبقيت أقرأ، وأقرأ.. وهو يبتسم ويستزيد، إلى أن قرأت:

وتميس حاملة القرطل بقرطلها الجالس على كتفٍ مليس، لم يَرَ من دهره سوى عتمة الجدائل السوداء... وتحت إبطها (...)

قاوقفني، بإشارة من يده، طالبًا إليّ حذف آخر المقطع، والابتعاد عن الأدب الإباحيّ، وإبقاء النصوص نظيفة كثلج صنّين...

 

 

 

 

 

 

 

إيّاك والأدب الإباحيّ

يومها، تنبّأ الأديب الكبير، لدفتري الصغير، بمستقبل زاهر. فصدقت نبوءته (21).

بعد مّدة شعرتُ أنّ رفيق طريقي يهتمّ بأصدقائه، ويردّ على الرسائل، على حساب راحته. فما عدتُ أسأل إلاّ عن صحّته، وما عدتُ أخبره إلاّ ما يريح باله، ويطمئنه، ويبعده عن كلّ ما يعكّر صفو هدوئه.

وقد نشرتُ رواية أصابع القَدَر من دون أن أعرضها عليه، أو أحدّثه في أمرها.وعندما حملتها إليه، وكان في " الزلقا " نظر إلى الغلاف مبتسمًا، ثمّ وضعها قربه، وهو يقول: مبروك، يا سميّي. وبعد نحو أسبوعين – ثلاثة – وصلتني رسالته :

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

معارك النقد الأدبيّ

المعارك الأدبيّة قديمة في تاريخ الأدب العربيّ.

وما يهمّنا، منها، هنا، الحرب النقديّة الشعواء التي شنّها ميخائيل نعيمة على الأدب القديم، مع بعض رفاقه من أعضاء الرابطة القلميّة؛ وعلى بعض رفاقه من أعضاء تلك الرابطة وغيرهم.. وغيرهم. ومن المعروف أن ميخائل نعيمة قد بدأ حياته الأدبية ناقدًا. وأوّل ما انتشر صيته، من خلال كتابه النقديّ الشهير: الغربال.

ومع أنّه يعرف " أنّ الكثيرين من كتّاب العربيّة وقرّائها لا يزالون يرون في النقد ضربًا من الحرب بين الناقد والمنقود "( الغربال ) ؛  فقد عاد وكتب " جبران خليل جبران " ثم " في الغربال الجديد "...لأنّ نعيمة أراد التجديد في الأدب، وبيّن أنّ " مهنة الناقد هي غربلة الآثار الأدبيّة، لا غربلة أصحابها ".

المهمّ أنّ نعيمة قد غربل، في غرباله، نخبة من الأدباء والشعراء القدامى من المدّاحين، والباكين على الأطلال؛ وميّز بين الشعر والنظم؛ وتحدّث عن " نقيق الضفادع  "، ودافع عن قول جبران؛ وتكلّم على الزحّافات والعلل؛ وأثار بنقده ردود فعل، وهجومات، وعداوات...

وعلى الجملة، كان ميخائيل نعيمة ناقدًا محقّاً حينًا، وصائبًا حينًا، وقاسيًا أحيانًا... في زمن مبكر، وفي مجتمع يهوى المدائح الكاذبة، والتكاذب المتبادل، والمهادنة.

في الغربال، غربل نعيمةُ أميرَ الشعراء )أحمد شوقي(، في القصيدة التي أسمتها الصحافة المصريّة:  الدرّة الشوقيّة؛ فإذا " بالدرّة  " صَدَفة لمّاعة، وإذا" بالمعجزات "الشعريّة خزعبلات عروضيّة.

وبعد شوقي، مباشرة، انتقل نعيمة إلى ديوان القَرَويّات، لصاحبه الشاعر القرويّ ( رشيد سليم الخوري).

والشاعر القرويّ، رئيس العصبة الأندلسيّة: الرابطة الشبيهة بالرابطة القلميّة، والتي تخالفها في الآراء، والمواقف، والنظرة إلى التراث العربيّ... ومن المعلوم أنّ أوجه الخلاف كانت أكثر بروزًا بين القرويّ ونعيمة؛ وأنّ مواقفهما كانت على طرفي نقيض. التقيتُ الشاعر القرويّ، أكثر من مرّة. وفي مرّات كثيرة دار الحديث عن ميخائيل نعيمة. فاكتشفتُ أنّ بعض كلام نعيمة، في الغربال، كان قاسيًا على القرويّ وبخاصّة عندما قال، في الغربال: " القرويّ ينظم للنظم، يلتقط موضوعات من هنا    هناك تغيب فيها شاعريّته خلف ستار من الوعظ المملّ والتفلسف السطحيّ والفخر الفارغ ". وهذا الكلام ترك في قلب القرويّ جرحًا بليغًا لا يندمل. بعد زمن طويل، كان ميخائيل نعيمة مرشّحًا لجائزة نوبل العالميّة. وأرادت الدولة اللبنانيّة،  مشكورة، إقامة مهرجان لتكريمه. وكنّا في هدنة قصيرة، في الحرب القذرة، عام 1978.

وبعد ان حُدّدِ مهرجان التكريم، وأُعلن برنامج الاحتفال... فوجئت الأوساط الأدبيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، باعتراض الشاعر القرويّ، على تكريم ميخائيل نعيمة، وشنّه هجومًا كاسحًا على عصر الردّة، والوثنيّة الدينيّة.. والجاهليّة الأدبيّة، وعبادة الأوثان في لبنان... واصفًا مكرّمي نعيمة بأبي جهل، وحمّالة الحطب، والذود عن اللاّت، والعزّى، ومناة... وواصفًا مؤلّفات نعيمة بالهراء...وطالبًا، من الحكومة، عدم تكريم صاحب مرداد، بل تكريم ناقده صاحب كتاب: "نعيمة بين قارئيه وعارفيه": (كعدي كعدي) (22).

تهافت الناس على جريدة النهار، وبهت أصحاب الأقلام... واتّصلتُ بأكثر أصدقاء وأصحاب نعيمة، فوجدتهم: إمّا محايدين، وإمّا خائفين، وإمّا شامتين!.. حاولتُ، جاهدًا، مقابلة القرويّ فلم أفلح. ولا أدري لماذا وجدتُ نفسي صاحب الحقّ، في الردّ على  صديق، دفاعًا عن صديق.  وقد حذّرني بعض المخلصين من الردّ على القرويّ، وإثارة غضبه... فقلت، راكبًا رأسي: أنتم تعرفون لسانه، وأنا أعرف قلبه. ولمّا اتّصلت بنعيمة، وجدته هادئًا، غير مكترث، أو هكذا بدا لي. وأخبرني أنّه لن يردّ، وقد أرسل إليّ رسالة، بدأها هكذا: سميّي العزيز ميخائيل  لا يضطربنّ قلبك لما قد تسمعه أو تقرأه عنّي من أمور تحسبها غير لائقة بي. فأنا بحكم ظروفي، معرّض أبدًا للاحتكاك بكل أصناف البشر. والبشر كما تعلم، ليسوا ملائكة... لكننّني انفردتُ،   من بين المهتمّين، فكتبت ردّاً على الشاعر القرويّ. القائل: من أحقّ بالتكريم؟.. فقلت:  هو أحقّ بالتكريم (23).

وقد ذكّرت القرويّ بجلسة من جلساتنا، تكلّمنا فيها على تقصير الدولة. وقلت له:  يا صديقي القرويّ.  إنّ تكريم أديب، لا يعني احتقار الأدباء الآخرين، ولا يعني أنّ الدولة أخطأت في هذا التكريم...وألفت نظرك، يا أخي، إلى أن يهوذا عُرِفَ بين الناس عن طريق خيانته معلّمه، لا أكثر ولا أقلّ، فهل نطالب بتكريم يهوذا؟..

وهذا الأمر قد أثار حفيظة الأستاذ كعدي كعدي الذي ردّ عليّ في مقال طويل(24)، عنوانه:  الحقيقة أكبر من أفلاطون. فكان أن أجبته بمقال، عنوانه:  تناقضات نعيمة لا تنقص من روعته، لنحضر تكريمه (25). ثمّ صدر مقال  للدكتور محمّد شيّا، أوضح فيه أمورًا كثيرة تتعلق بأدب نعيمة، وما دار حول متناقضاته (26)... في لقاء التكريم، سألتُ عن الأستاذ كعدي كعدي، لأسلّم عليه، وأعتذر عن الإزعاج... فلم أجده. وفي المهرجان الكبير، كان شقيق نعيمة ( نجيب) يسأل عنّي. ثمّ حضرنا معًا إلى ظلّ السنديانة، في الشخروب، فاستقبلني ميخائيل نعيمة بابتسامة عريضة. وأسرّ في أذني كلامًا ، فيه شكر، وفيه كلام على الوفاء، وفيه احترام كامل لآراء الآخرين ... وبخاصّة القرويّ.

وقبيل تركنا الشخروب، أجلسني قربه، لأخذ آخر صورة لنا، معًا:

إبتسامة في الشخروب               آخر صورة لنا معاَ

آخر صورة لنا، معًا...

انتقل سميّي، من حياة إلى حياة، ولا أدري إن كان سيعود إلى حياة جديدة... لكنّني أؤكّد أنّ المكان الذي ذهب إليه، أفضل من المكان الذي نحن فيه؛ لأنّنا في زمن قلّت فيه " الآداب " وخرجت ،  فيه الحيوانات الضارية من مغاورها، وكهوفها، وأقفاصها... فأباحت واستباحت دماء القطعان الآمنة.

مصادر الأدب النعيميّ

إنّ المصدر الأساس الذي اعتمده نعيمة في أدبه، هو الأدب الواقعيّ الذي يهتمّ بواقع الحياة، ويعمل على إصلاحه وتحسينه... والمعروف أنّ الأدب الواقعيّ قد بلغ ذروته على أيدي الكتّاب الروس، أمثال: " غوغول " و"تورغينيف "   " دوستويفسكي " و " تشيخوف " و " غوركي " و " تولستوي" . قال نعيمة: " إنّ الأدباء الروس فتحوا لي الباب إلى الأدب الإنسانيّ الرحب، فنهجت نهجهم في ما صنّفت من قصص... أمّا في النقد فقد وجدت في "     بيلينسكي– " إمام النقّاد الروس – مثلاً رائعًا للنقد الرفيع. وأمّا في الشعر فقد أعجبت كثيرًا ب " بوشكين " و " لرمونتو " و " نكراسوف ". (27) ومثل هذا الكلام، وهذه الأسماء نفسها، عاد وذكرها في مقابلة ثانية فقال:

" أنا مدين، في تفتّحي الأدبيّ، للكتّاب الروس، بالدرجة الأولى ". (28) ومن الغريب أنّنا كنّا نتحدّث عن يسوع، والفرّيسيّين... ونستهجن لوم المتزمّتين من اليهود، السيّد المسيح، لأنّه شفى الأعمى، في يوم سبت!... وقادنا الكلام إلى ذكر تولستوي، كأشهر موسرٍ بين الأغنياء، تنازل عن ثروته، بملء إرادته، لأقنانه العاملين عنده في أراضيه الموروثة ... ثمّ أعتق أقنانه، وفتح مدرسة على نفقته، وكان يقول: " القصد من التعليم تربية الشخصيّة الإنسانيّة والخلق الكريم، لا حشو الدماغ بمعلومات لا تنفع الطالب في شيء "...(29)

مصدر معلوماتي

في لقاءات متعدّدة، ومتباعدة، أخبرني صديقي تفاصيل عن الأدب الروسيّ، وأفاض في كلامه على تولستوي: عملاق الروح والقلم (30). وصحّح لي أكثر المعلومات التي عرفتها عن " ليون تولستوي "، والأدب الروسيّ...

وعندما تغيّرت المناهج التربويّة في لبنان، وأُدخلت مادّة الآداب العالميّة في مناهج المرحلة الثانويّة، وطلبت الوزارة إلى التلامذة دراسة آنّا كارينينا ل تولستوي... صدرت ترجمات كثيرة ، منقولة عن مترجمين عرب يعرفون اللغة الروسيّة.

فطلبت منّي إحدى دور النشر، دراسة آنّا كارينينا، وتقديمها بحلّة جديدة وجيّدة. وكان أن عدت إلى المعلومات القيّمة، والدقيقة، والشاملة ... كما سمعتها من ميخائيل نعيمة. فإذا ليون تولستوي:  ليڤ تولستوي:  الأسد الضخم. وإذا آنّا كارنينا: آنّا كارينينا... وبعد أن درست هذا الأثر العالميّ المهمّ، متحدّثًا عن: الأدب العالميّ - روسيا والأدب الروسيّ – المجتمع الروسيّ - نظام القَنانة - أشهر الكتب الروسيّة؛ ليڤ تولستوي(: سيرة حياته بدقّة متناهية.... الحرم    الكنسيّ –تركه المنزل-  وفاته مشرّدًا... ثمّ قمت باقتباس الرواية من تولستوي، وصياغتها، بالعربيّة الفصحى، وتحليل شخصيّاتها... كان أنّ استندت، بثقة، إلى المعلومات القيّمة التي أفادني بها ميخائيل نعيمة.

خلاصة الكلام

في الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة جامعة البلمند، بالاشتراك مع البيت اللبنانيّ الروسيّ، أقميت ندوة بين 4 – 8 آذار/1999، شارك فيها:  اميل بو حبيب - جورج حدّاد - المطران خضر - يوريس يراسوف - سهيل فرح - ماريّا نيكولاييڤا، وغيرهم. في المحور الأول:  روح الحضارتين:  الروسيّة ، والمشرقيّة. تكلّمت د. ماريّا نيكولاييفا، على ميخائيل نعيمة:  الفيلسوف، الشاعر والإنسان. وقد فوجئت بقولها: ... " ومن تعمّق نعيمة بالأدب الروسيّ، فهم قوانين  الحياة، وفصل " القشور عن اللباب ". وأكملت:  أشير هنا، إلى تأثّر الأديب ميخائيل مسعود، بأدب ميخائيل نُعَيمة، والدليل على هذا، كتابه الأخير: لباب وقشور. (31) في ذلك الوقت، كانت رواية آنّا كارينينا في آخر مرحلة من الطباعة والتطوية... وقد قرأتها د. ماريّا، وأعجبت بها إعجابًا شديدًا، وكتبت على غلافها الأخير:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

صديقتي ماريّا...

ما كنت عرفت الأدب الروسيّ، ولا تولستوي، ولا أعماله العظيمة... وما كنت كتبت نثرًا فنّيّاً، ولا أدبًا عربيّاً ... لولا معرفتي بصديقي الذي أنار طريقي:  ميخائيل نعيمة.

مع تحيّات ميخائيل مسعود

حقل العزيمة 21/12/2013

الحواشي

1-  من كلام قاله ميخائيل نعيمة، منذ زمن بعيد، لرفيقه جبران خليل جبران.

2- هي مدرسة الأب نادر، في بلدة دِدّه - الكورة، قبل أن تتحوّل إلى مدرسة مهنيّة، ثمّ إلى معهد فنّيّ.

3- كان ما كان، كتاب معروف للأديب ميخائيل نعيمة، صدر للمرّة الأولى عام 1927.

4- من كتاب كان ما كان قصّة " ساعة الكوكو ".

5- هو الأستاذ كامل درويش (1927-1993): درّس الأدب العربيّ والفلسفة، في حماه وطرابلس، والكورة. عمل مديرًا للدروس في دار التربية والتعليم الاسلامّية. له ديوان شعر ، ومسرحيّة.

6- كانت المكتبة تضمّ كتبًا لكبار أدباء لبنان ومصر... وكانت أكثر الكتب فيها للأديب ميخائيل نعيمة. وقد علمت، بعد سنوات، أنّ الذي قدّم كتب نعيمة للمكتبة هو المطران أبيفانيوس زايد.

7- الرسائل: بدأت الرسائل بين ميخائيل نعيمة وبيني، منذ أوائل العام 1963 ، واستمرّت حتى العام 1975 ، حيث استعضنا عنها باللقاءات. وفي مكتبتي أكثر من 67 رسالة بخّط يده. وما ينشر منها فللمرّة الأولى.

8- بعد مدّة طويلة، تحوّل هذا المقطع إلى نصّ أدبي كامل، عنوانه الفلاّح - دفتر من بلاد الجبل، طبعة 11 ، عام 2008 ، الصفحات:(49-50-51-52).

9- نشر الكلام في نصّ كامل عنوانه:  قناعة الفقراء. (ميخائيل مسعود:  حياتي-  طفولتي في بلاد الريف-  المرحلة الأولى، طبعة 25 ص 32).

10- كتاب للأديب ميخائيل نعيمة، صدر في العام 1963 ، وكأنّه تكملة لكتاب مرداد.

11- من كلام له، في اليوم الأخير.

12- بعد سنين، ظهرت بذور فلسفة نعيمة في كتابي: أدباء فلاسفة:) بحث في الأدب والفلسفة، دار العلم للملايين . (دراسة جامعيّة)..

13- نُشِرت هذه الرسالة ناقصة، في المجموعة الكاملة؛ لأن الذي أشرف على اختيار وترتيب ونشر الرسائل ... لم يكن ميخائيل نعمية شخصيّاً. (قارن نصّ الرسالة الأصليّ الوارد هنا، بخطّ يده، مع نصّ الرسالة المنشور في: المجموعة الكاملة، دار العلم للملايين، المجلّد الثامن، ص 335-336).

14- د.علي شلق(1915-2009) تتلمذ في الأزهر بمصر، حصل على دكتوراه في الآداب 1950 ، درّس في بغداد وعمل في مجلّة " الأقلام . "

15- أنظر:  مقدمّة كتاب حياتي- طفولتي في بلاد الريف، بقلم د.علي شلق، ص 11

16- كعدي كعدي:  ميخائيل نعيمة بين قارئيه وعارفيه، 1971 ، لا. ن، ص 22

17- د. محمّد شفيق شيّا:  فلسفة ميخائيل نعيمة) تحليل ونقد(، منشورات بحسون الثقافية- بيروت، توزيع مؤسسة نوفل.

18- ورد مثل هذا الكلام، في مقابلة أجرتها معه جريدة النهار، بيروت ، 28 تموز 1962

19- هما:  وديع أمين سعادة، وأنطوان يوسف سعادة، من بلدة شبطين – البترون.

20-  هو كتاب:  أيام ريفيّة، صدر عن دار الكتاب اللبناني – بيروت، الطبعة الأولى 1972

21- حقّق الكتاب نجاحًا باهرًا، فقد طبع 12 مرّة ؛ وأعطي نصّ منه في امتحانات الشهادة، دورة 2001 التجريبيّة؛ واعتبر أنموذجًا في النثر الفنّيّ، في أطروحة دكتوراه دولة، في اللغة العربيّة وآدابها، الجامعة اللبنانية-  المعهد العالي للدكتوراه (بالاشتراك)، إعداد الطالب:  كابي الفغالي، إشراف أ.د.منيف موسى.

22- جريدة النهار، العدد الصادر في 18-1-1978، ص7.

23- انظر:  جريدة النهار العدد الصادر يوم السبت 28-2-1978، ص7.

24- ردّ كعدي كعدي على ميخائيل مسعود ، النهار، 8-2-1978، ص7.

25- ردّ ميخائيل مسعود على كعدي كعدي، النهار، 18-2-1978، ص7.

26- النهار ، 23-3-1978.

27- من مقابلة، جريدة العمل، العدد الصادر في بيروت 30- تشرين الثاني- 1961.

28- جريدة الكفاح، بيروت، العدد الصادر في 1-1-1962.

29- وهذا المبدأ اعتمده نعيمة في حديثه عن التربية والتعليم.

30- ميخائيل نعيمة: " عملاق الروح والقلم "، في ذكرى مرور نصف قرن على وفاة تولستوي (في الغربال الجديد، المجموعة الكاملة، المجلّدَ السابع).

31- أنظر كتاب: روسيا والمشرق العربيّ: لقاء الثقافتين. (أعمال الندوة العلميّة التي عقدت في رحاب الأكاديميّة اللبنانية للفنون الجميلة بين 4-8-آذار 1999)، جروس برس، طرابلس-  لبنان ، ص 54.

ميخائيل نعيمة كما عرفته

    ​الناسُ على سَفَرٍ.

والمُسافرُ الحكيمُ مَن أحْسنَ اختيارَ رفاقِ الطريقِ.       (ميخائيل نعيمة)

 

قُمْ، أيّهَا الماضي البعيد، فقد آنَ أوانُ الحكايةِ الحلوة.

 إستيقِظْ من نومِكَ الطويل، فالنومُ وجهٌ من وجوهِ الموت.

قُمْ نذكرُ حكايةَ المَحبّةِ والصِدْقِ والعَطاءِ...

ونكونُ أوفياءَ لرفيقِ الطريقِ.                          (ميخائيل مسعود)

 

حكايتي مع ميخائيل نُعيمة

في كلامي على ميخائيل نُعيمة متعة، وراحة نفسيّة، واستعادة الكثير من ذكريات الماضي؛ وما يتعلّق بالماضي من طفولة أدبيّة؛ بدأت تحبو، وتدرج، وتمشي... برعاية راعيها، والمُمسك بيدها، بكلّ محبّةٍ وصدقٍ وأمانةٍ وإخلاص.

إنّها حكاية تلميذٍ صغيرٍ يسألُ، ومعلّمٍ كبير يجيب.

ذلك المعلّم قد أمسك بيدي، وعلّمني المثابرة والمحبّة والتواضع والثبات، وهداني سواء السبيل.

وتلك حكاية بدأت أحداثها، منذ نصف قرنٍ من الزمن، ثمّ نَمَتْ ، وتتابَعَتْ، وترسَّخَتْ... في ذاكرةٍ رهيفةِ الحسّ،ِ " سَلِمَتْ فيها الذِكْرَياتُ والأَسْبَاب ".

وإنّني، إلى الآن، لا أعرفُ الأسبابَ الحقيقيّةَ التي جعلتِ الأقدارَ تختارني، لأن أكون ذلك الإنسان الذي يستجلي الذكريات، "كما يستجلي النائمُ، في أحلام طيرانِه، زمانًا كان فيه طائرًا، قبل أن يصير إنسانًا (1) ".

كلّ ما علمته وعرفته، أنّ الأقدار العجيبة، والمصادفات الغريبة، وقراءة أوّل كتاب لميخائيل نعيمة، والاطّلاع على بعض مؤلّفاته، ومحاولة فهم أفكاره، والإعجاب الشديد بأسلوبه، والبحث عنه... أمور قد غيّرت أهدافي، وحياتي، وقادتني إلى طريق الأدب، من بابه الواسع.

لكن، كيف عرفت ميخائيل نعيمة، وكيف جرت الأحداث، وما هو دور المصادفات ... فحكاية طويلة، سأحاول اختصارها، في ما يلي:

موجز الحكاية

بدأتِ الحكايةُ، كما كانت جدّتي تبدأ حكاياتها، ب " كان ما كان، كان في قديم الزمان "... تلميذ فقير، أو شبه فقير، انتقل من عالم السنابل والمناجل والبيادر... إلى مدرسةٍ نصف داخليّة؛(2) طلبًا للعلم، والوظيفة، والغنى المادّيّ المفقود.

وكان ذلك التلميذ، إذا أنهى دروسه المُمِلّة، وكتب فروضه المزعجة، انصرف انصرافًا كاملاً إلى مطالعة كتاب حصل عليه، من مكتبة المدرسة، بالأجرة، لمدّة أسبوع أو أسبوعين.

وابتسم له الحظّ، مرّة، عندما وصل إليه كتاب أصيل، غير مترجم، ومن عالمه الخصوصيّ المحبوب، وكان اسم الكتاب: " كان ما كان " (3).

قرأ الكتاب قراءة سريعة، وأعاد قراءته قراءة متأنّية... ثمّ طالعه مطالعة هادئة، هادفة، واعية.

وعند كلّ قراءة ، كان يجد نفسه في عالم غريب عجيب من المصادفات التي لم يجد لها تبريرًا، خارج إطار الإعجاب:

فالكلام على كنيستين:  شرقيّة، وغربيّة؛ وكاهنين يتقاسمان القطيع، ويحلّلان ذبح الكباش والنعاج والخراف... بحجّة رعايتها، والحفاظ عليها !..

والكلام على القرويّين في لبنان، لا سيّما في قرية صغيرة كقريته. " إذا طرقهم غريب لا يوصدون أبوابهم في وجهه ولا يطعمونه اللقمة بيمينهم، ويسارهم ممدودة إلى كيسه " (4).

وسأل نفسه عن هذا التشابه بين أشخاص القصّة والمحيطين به من أهل وأقرباء وجيران ...

وبين نظرة الكاتب إلى أهل القرى:  أهل المحبّة، والرفق، والشهامة، والصدق، والعدل، والمسالمة، واللطف، والدعة ، ونكران الذات ...

فوجد الإجابة في قول الكاتب:

"ألست ترى أنّ الناسَ يسيرونَ في الحياةِ أسرارًا ؟

فالإنسان يقترب من الإنسان بقدر ما يقترب المتشابهان في الظاهر:  هذا سرّ وذاك سرّ"

ومنذ ذلك الحين، بدأ يبحث عن مؤلّفات ميخائيل نعيمة، ويبذل جهدًا في سبيل الحصول على بعضها، ويجد راحة نفسيّة في قراءتها، ويحاول فهم أفكار صاحبها، ومعرفته بأيّ ثمن.

وسأل معلّمه(5) عن الكاتب المذكور، وأسماء بعض مؤلّفاته. فأحضر له لائحة بأسماء الكتب الموجودة في مكتبة المدرسة ،(6) وشجّعه على قراءة بعضها، ونصحه بعدم قراءة بعضها الآخر؛ لأنّها فوق مستواه.

والكتب المذكورة على اللائحة ، كانت مرتّبة بحسب تواريخ صدورها، للمرّة الأولى، هكذا:

1-  الآباء والبنون

2- الغربال         

3- المراحل                        

4- جبران خليل جبران          

5- زاد المعاد   

6- كان ما كان 

7- البيادر                                        

8- همس الجفون                          

9- الأوثان                                 

10- كرْم على درب                          

11- صوت العالم                          

12-  لقاء                                   

1917 م.

1923 م.

1932م.

1934م.

1936 م.

1937 م.

1945 م.

1945 م.

1946 م.

1946 م.

1948 م.

1948 م.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولمّا قرأ بعض هذه الكتب؛ وعلم، من تواريخ صدورها، أنّها نشرت قبل مولده بزمان طويل؛ بدأ يصلّي، في قلبه، لأن يكون كاتبها ما زال على قيد الحياة.

وكان، في لياليه الطويلة، يحلم أحلامًا مجنّحة؛ يتصوّر فيها أنّه بحضرة الكاتب الكبير؛ يطرح عليه أسئلة في المواضيع المهمّة التي تشغل رأسه الصغير.

لكن ، كيف السبيل إلى معرفته؟..

هذا هو السؤال.

 

الرسائل

وبعد قراءات دائمة، وأسئلة حائرة، وملحّة ... لاحظ ذلك القارئ المدهوش، بمواضيع وحياة الكاتب المدهش، أنّ حياته – في بلاد الجبل – تشبه إلى حدّ بعيد، حياة ذلك الكاتب:

فمجتمع أهل الريف، وحياة الفلاّحين ، وأعمال الحرث، والزرع، والحصاد... والعادات والتقاليد ... أمور متشابهة في القرى اللبنانيّة، وبخاصّة الجبليّة منها.

وهنالك قضيّة تعلّمه، في دير البلمند، وعلاقة " الروم " بروسيّا القيصريّة ، وتسمية والدته  " كتّورعلى اسم الإمبراطورة كاترينا الكبيرة...

وغيرها من الأمور التي أثارت حَيْرَته، وقوّت عزيمته. فشرع يجمع المعلومات المهمّة المتعلّقة بميخائيل نعيمة، ومكان إقامته، وعنوانه البريديّ...

واستقرّت في رأسه فكرة أن يرسل إليه رسالة، تكون بداءة تعارف ، وصحبة وصداقة...

فكانت الرسائل. (7)

بكثير من التصميم، وقليل من الأسئلة، علمتُ أنّ ميخائيل نعيمة مقيم في بلدته بسكنتا، بشكل دائم.

فكتبت إليه رسالة مهذّبة، أطلب فيها رسمه، ونصائحه ومساعدته...

وسرعان ما أرسل إليّ رسالة جوابيّة، يرحّب، بي، فيها، لأن أكون رفيقًا في الطريق.

فكانت رسالته الأولى إليّ:

" أهلاً وسهلاً بك رفيقًا في الطريق ".

كلامٌ جميلٌ صريحٌ مشجّعٌ، ودعوةٌ واضحةٌ صادقةٌ من ابن الرابعة والسبعين: الأديب العالميّ الكبير، الخبير؛ صاحب المؤلّفات الأدبيّة، القصصيّة، النقديّة، الفلسفيّة، الفكريّة ... يرحّب بتلميذ صغير فقير، لا حول له، ولا مال في جيبه، ولا يعرفه أصلاً... يرحّب به ليكون رفيقًا في الطريق!...

منذ ذلك اليوم، إلى اليوم، كلّما تذكّرت الأمر، برزت أمام عينيّ صورة ابن مريم يغسل أرجل تلاميذه. ويا له من تواضع، لا مثيل له! ..

يومها، تناولت قلمي، لأكتب إلى ابن بسكنتا، ناسك الشخروب، في جبل صنّين.

كان قلمي، يومها ، مُهْرًا صَغِيْرًا جَامِحًا:

يَطلُبُ الْجَرْيَ، يَعَضُّ لجَامَهُ..

يَجري، أَصِيْلاً، فَوْقَ دَرْبِ الْمُنحنى:

رافِعَ الرأسِ قَوِيّ الْوَثْبَةِ...

ونظرتُ إلى رسم ميخائيل نعيمة.

فإذا الرجل كما تصوّرته تمامًا.

وبعد تفكير قصير، كتبت إليه رسالة ثانية.

قد شاءها قلمي نصًّا أدبيّاً.. فكانت كما شاءها قلمي:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وبعد نحو أسبوع، وصلتني منه رسالة طويلة، يدعوني، في نهايتها، للمجيء إلى بسكنتا...

ومِمّا ورد فيها :

-1رسائل

وهكذا عرفته صاحب يد ممدودة، وقلب كبير، ودعوة صادقة.

صداقة تتكشف

بعد تبادل الرسائل، على مدى عام كامل، صدر للأديب الكبير كتاب جديد عنوانه:  اليوم الأخير (10). فقلقتُ غاية القلق، وبدأتُ أسألُ عن صحّته انطلاقًا من عنوان الكتاب.

وقد أبصرتُ، بخيالي، في لحظاتٍ، ما يستحيلُ على عيني أن تبصره في عمر كامل (11).

وبعد قراءة الكتاب، مرّات، عرفت أنّ المعرفة الحقيقيّة تنطلق من فكرٍ ينقّب عن أجوبة لتساؤلات:

" من أنا؟ من أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟ وما القصد من مجيئي وذهابي ..."

وهنا، عرفت أنّني طفل يحبو على طريق المعرفة، وأنّ الفلسفة: )فيلوصوفيا (، ما هي إلاّ محبّة الحكمة.

وتصوّرت ميخائيل نعيمة فلاّحًا زارعًا، ينثر بذوره في أذهان الناس، فيقع بعضها في رأسي الصغير .. في عمق أعماق عتمة دماغي، منتظرًا ربيعًا أخضر(12).

ومن وحي اليوم الأخير، وقلقي على صحّته، كتبت إليه رسالة تحكي اللقاء في صفحات كتبه، وأسأله عن صحّته، وأعماله الأدبيّة، وآخر نشاطاته...

فردّ عليّ بالرسالة التالية (13):

رسائل

وصداقة تستمرّ

بقينا نتبادل الرسائل على مدى سنوات.

وقلّما مضى أسبوع واحد من دون أن أكتب إليه، أو أتلقى ردّه، أو دعوته الصادقة لزيارته، في بسكنتا، أو في الزلقا.

وفي كلّ رسالة منه، كان يمتدح محبّتي له، ويقدّر استفساري عن صحّته، ويطلعني على أعماله الأدبيّة، وآخر تآليفه: بأسمائها، وتفاصيلها...

وقد استمرّت صداقتنا، وترسّخت أكثر، فأكثر، إلى يومنا هذا.

منذ خريف العام 1966 ، بدأ يفضّل لقاءنا على كتابة الرسائل، ويدعوني إلى بيته، في بيروت؛ لأنّ بيروت أقرب من بسكنتا، وطريقها أسهل. وفي هذا كتب إليّ:

رسائلرسائل

ويد ترتجف

منذ صيف العام 1967 ، بدأت ألاحظ ارتجافًا واضحًا في يده اليمنى؛ عندما يكتب، لي، إهداء على كتاب صدر، له، حديثًا، أو عندما يشعل سيجارة ...

فكنت أتجاهل الأمر، وكان يبتسم راضيًا، ويعرف أنّني أعرف، وأتضايق، وأخفي غصّتي...

وفي كلّ رسالة، كنت أسأل عن صحّته، أوّلاً بأوّل...

إلى أن أخبرني صراحة عمّا يزعجه، وأنّ يده اليمنى باتت لا تطاوعه، في الكتابة، " إلاّ بمنتهى البطء والصعوبة "...وقد دعاني إلى لقاء قريب جدّاً ، في بسكنتا. ...

فكتب:  يقول:

رسائل

في اللقاء القريب الذي شاءه لله لقاء محبّة وتفاهم، عرضت، بعد اعتذار لطيف، أن يكتب أحدنا، له، ما يمليه علينا. وكان حوله، في ذلك الحين، نخبة من الأدباء والأصدقاء، أذكر منهم، مع حفظ الألقاب:

توفيق يوسف عوّاد، المطران أبيفانيوس، عبد لله القبرصي، أنطوان جبارة، منيف موسى، فريد جحا، وليم الخازن، توما الخوري، ادفيك شيبوب، جوزيف طوبيّا، ثريّا ملحس، بولس طوق، الياس عطوي، فاضل سعيد عقل، روبير غانم، أنطوان كرم، متري بولس، رياض فاخوري، ربيعة أبي فاضل، وغيرهم .. وغيرهم.

وأبديت رأيًا بهذا الخصوص، فقلت:

... وأجد نفسي الأَولى بهذه المَهمّة، بعد ابن أخيك : " نديم " لكنّ أفضلنا ترتيبًا، وأحسننا خطّاً:  يونس الإبن لكنّ صديقي رفض الفكرة من الأساس. وبقي يسند القلم المرتجف مع ارتجاف يمناه ، بسبّابة يده اليسرى، حتى نهاية إحدى حيواته الزاخرة      بالمحبّة والكرم والعطاء. وقد عرفته صامداً صابراً، شاكراً، هادئاً...يحدثني عن الموت على انه درب من دروب الحياة، ولا نهاية للحياة. فالموت ليس نقيض الحياة، بل هو نقيض الولادة.

تصرّفات أديب

لقد زرت ميخائل نعيمة عشرات المرّات. فجالستُهُ، وحادثتُه، وحاورتُه، وآكلتُه، وشاربتُه... فعرفتُ فيه إنسانًا عظيمًا، هادئًا، ناضجًا، لطيفًا، واضحًا، متواضعًا ...

وهو، في أحاديثه، وردوده، وتصرّفاته...لا يختلف، في شيء، عمّا يكتبه، أو يقوله لمراسل صحيفة عالميّة، مثلاً. كان يستقبلني ببشاشته ولياقته، خارج المنزل، وأحيانًا، حاملاً طفلة، وهو بكاملِ الحنوّ والحنانِ والرأفة. وكان يحدّثني بمنتهى الجدّيّة والعمق والتفكير، ويختار كلماته بهدوء، وكأنّه يقرأ من كتاب مصحّح ومدقّق.

وعرفتهُ ينظر إلى الإنسان، أيّ إنسان، " على أنّه، في حقيقته، إله. ولكنّه إله في القُمْط ".

كثيرًا ما أصرّ على بقائي، لتناول الغداء، وإكمال الحديث. وهل أطيب من غداء قوامه نباتات برّيّة وبقول، جُمعت من سفح " صنّين"، وأعدّتها "ميّ" على طريقة أهل الجبال؟..  وهل أفضل من أحاديث أدبيّة، فكريّة، لا تكتمل مهما تفرّعت وتشعّبت؟..

والذي أخجلني، أنّه كلّما فرغ صحني، أو كاد، وقف ابن الثمانين، بقامته النحيلة، وأضاف إليه من بقوله، ولطفه، وتواضعه. وتدخل " ميّ "حاملة صحفة تفوح منها رائحة شواء. فيقصيها عنه، بلطف، مشيرًا إلى ناحيتي.  ولمّا تمنّعتُ، وخرجت " ميّ " تمْتَمَ، بما يشبه الهمس: " شاركتُ الحمَلَ في لبنِ أمّه، ثمّ استبحتُ لحمه، فهل أفظع مِمّن يأكل أخاه في الرضاعة "؟!.

وكنا مرّة في غرفة المكتبة، وكان يقرأ على مسامعي من "مرداد ".

"... عظيم أنت، يا ابن آدم،

لانّك تستطيعُ أن تحبّ،

ثمّ لأنّك تستطيع أن تؤمن،

ثمّ لأنّك، بمحبّتك وإيمانك،

تستطيع أن تعي من أنت"...

طرقات خفيفة على الباب.. ثمّ دخلت " ميّ "وقالت بارتباك:

 

" عمّي، لقد وصل الجماعة "

رسائل

 

فنظر إلى ساعة يده، وقال: " موعدهم بعد سبع دقائق". ثمّ أكمل القراءة بهدوء تامّ.

ولمّا تركنا المكتبة، إلى غرفة الاستقبال، تبيّن، لي، أنّ  " الجماعة " وفد رسميّ من سفارة الاتّحِاد السوڤياتيّة...

في بعض الأحيان، وبخاصّة في مطلع الربيع، كان يدعوني إلى بسكنتا؛ لبحث أمور تخصّني، وتتعلّق بمستقبلي، وبقضيّة دخولي الجامعة، أو إرسالي إلى روسيا لمتابعة تحصيلي ...

وكان شديد الحرص على تأمين مستقبلي، على الصعيد الاجتماعيّ والأدبيّ. وفي كلّ مرّة، يشكرني على أمرٍ ما، كان من واجبي أن أشكره عليه!.. ففي رسالة، يكتب إليّ:

رسائل

وفي رسالة ثانية، يكتب :

رسائل

وفي رسالة، ثالثة:

                 رسائل

وكثيرًا ما كنت أبلغ بسكنتا عند العاشرة صباحًا؛ فيستبقيني عنده حتى المساء، وأحيانًا إلى مساء اليوم التالي؛
لا ليكلّفني عملاً، أو تصحيحًا مطبعيّاً، أو شيئًا يخصّه ... بل ليسأل عن أمر يخصّني، أو ليجد حلاّ لمشكلة عرضت
لي. وبقي يصرُّ على بلوغي بسكنتا عند الصباح، وبقيتُ أبلغها كما أراد، وبقيتِ الصباحاتُ تشهدُ على المحبّةِ والوفاءِ
سنوات وسنوات.

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

وقد بكّرت ما أمكنني، فأمكنني أن أكون في بسكنتا قبل الصباح؛ إذ نمتُ ليلتي عند صديق مشترك  (هو حلاّقه الخاصّ)، ولمّا تلاقينا صباحًا، وسألني كيف وصلت، وأين كنت؟..

قلت: كنتُ أراقبُ طلوعَ الصباحِ.

وماذا وجدت؟

وجدتُ أنّ:

صباح بسكنتا غير الصباحات، غير كلّ الصباحات.

فهناك، حيث شفاه صنّين تلامسُ خدّ السماء النائمة باستسلام مطمئنّ، خَطّ فيهِ من الوهجِ شيءٌ، ثمّ توهّجٌ، ثمّ ظهرت عَظَمَةُ لله القدير:  فرسمتْ صباحَ بسكنتا بالنور الصافي الذي لا تلوّث فيه...

فيا أهالي بسكنتا:

هل رأيتم الصباحَ يتدفّقُ من وراءِ صنّين؟

وهل سمعتم أصحابَ التيجانِ تُعلنُ قدوم صباحكم، بصياحٍ تتجاوبُ أصداؤه في مزارعكم، وتهتزّ، له، فيها، الأعرافُ المورّدة؟..

 

ونظرت إلى وجههِ، فإذا به طافحٌ بالرضى والسرور.

كتبه الصادرة في الخمسينات

بعد الكتب التي قرأتها،حَدثًا، والتي ذكرتها سابقًا، قرأت له، في المرحلة الثانية:

13-  مذكّرات الأرقش صدر في طبعة أولى

14-  النور والديجور صدر في طبعة أولى

15-  مرداد صدر في طبعة أولى

16-  دروب صدر في طبعة أولى

17-  أكابر صدر في طبعة أولى

18- أبعد من موسكو ومن واشنطن صدر في طبعة أولى

19- أبو بطّة صدر في طبعة أولى

1949م

1950م   

1952م

1954م

1956م

1957م

1958م

 

 

 

 

 

 

 

 

وبعد هذه الكتب التي امتازت بالفنّ القصصيّ، وتُوّجِت بكتاب مرداد – بالعربيّة – وأُشبعت بالأفكار الهادئة الرصينة...أتحفنا ميخائيل نعيمة بكتاب سبعون، وألحقه بمجموعة كتب مهمّة.

كتبه الأخيرة

-  هي كتب أصدرها في المرحلة الأخيرة من عمره، نضيفها إلى ما قبلها:

20- سبعون (المرحلة الأولى)  صدر في طبعة أولى 1959 م

22-21- سبعون(المرحلتين:الثانية، والثالثة) صدر في طبعة أولى 1960 م

23-  اليوم الأخير صدر في طبعة أولى 1963 م

24- هوامش صدر في طبعة أولى 1965 م

25- أيّوب صدر في طبعة أولى 1967 م

26- يا ابن آدم صدر في طبعة أولى 1969 م

27- نجوى الغروب صدر في طبعة أولى 1973 م

28- أحاديث مع الصحافة صدر في طبعة أولى 1973 م

29- رسائل صدر في طبعة أولى 1973 م

30- من وحي المسيح صدر في طبعة أولى 1974 م

31- رسائل (تتمّةصدر في طبعة أولى 1975 م

32- ومضات (شذور وأمثال) صدر في طبعة أولى 1977 م

 

 

 

 

 

 

 

سيرة حياته

لعلّ كتاب" سبعون"، في مراحله:  الأولى، والثانية، والثالثة، كان أفضل كتاب يوضح التفاصيل الدقيقة عن ميخائيل نعيمة، وحياته بشكل عام.

وأقول: إنّ أفضل كتاب، وأصدق ما كُتِبَ، في فنّ السيرة، على حد علمي، كتاب  " الأيّام " للأديب طه حسين، إلى أن ظهر سبعون نعيمة، فنافس في المصداقيّة، والوضوح والتفصيل... مع أنّ الدكتور علي شلق(14) له رأي آخر(15)، لم أوافقه عليه، (تواضعًا).

مكانته

عرفت ميخائيل نعيمة صاحب مكانة عالية في عالم الأدب والفكر، وهو أقرب إلى أديب عالميّ منه إلى أديب لبنانيّ.

قال فيه أحد قارئيه وعارفيه وناقديه:

" قد أتقن العربيّة والروسيّة والإنكليزيّة .. وألمّ بالفرنسيّة. فكان له من هذه اللغات مفاتيح لخزائن أدب الغرب والشرق التي كنز من كنوزها ما جعل القلم واللسان يسلسان له قيادهما، فهو فصيح اللسان، سيّال القلم، واسع الاطّلاع، عميق الفكر، بعيد الخيال، صلب الرأي حتّى العناد "(16)...

وُضِعَتْ في مناحي أدبه دراسات جامعيّة كثيرة، منها ما بحث أصحابها في فلسفته (17) على وجه الخصوص. وحقّ لنا المفاخرة عندما نعلم أنّ كتاب مرداد الذي وضعه بالإنكليزيّة، ثمّ ترجمه إلى العربيّة، وصلت منه نسخ إلى الهند. وفي الهند، نشرته دار نشر في بومباي. ثمّ ترجم إلى الهولنديّة وصدر في هولّندا.  ثم طبعته ونشرته دار نشر في إنكلترة، ووزّعته على دول الكومنولث والولايات المتّحدة الأميركيّة...ومن الملاحظ، أنّ " الإقبال على هذا الكتاب، وتقديره خارج البلاد العربيّة، هما أكثر بكثير منهما في لبنان وغيره من البلاد العربية صدق القول " لا كرامة لنبيّ في وطنه ".

رفيق الطريق

في طريق الأدب الرصين، مشيت وئيدًا، على هدي صوت ميخائيل نعيمة، وعلى نور أفكاره النيّرة؛ مستمعًا إلى توجيهاته الحكيمة، ونصائحه التي لا تقدّر بثمن.  وقد عشت على أدبه مدّة، وعايشته مدّة، فنشأت بيننا صداقة زادتها الأيّام متانة وصدقًا؛ بعد أن رَدَمَ هوّةَ فارق السنّ بيننا، بما امتاز به من محبّة، ولطف، وتواضع، وإنسانيّة. وإنّني في هذا الكلام الصريح، وفي هذه الصفحات المختصرة، لا أدّعي أنّني عرفْتُ ميخائيل نعيمة أكثر ممّا عرفه غيري، من الدارسين؛ أو أنّه قرّبني أكثر من بقيّة المقرّبين؛ أو أنّه فضّلني على أصدقائه ومعارفه... وما أكثرهم. لكنّني، بصدقٍ تعلّمته، ومارسته، أعرض لبعض ما جرى لي، وأمامي، على طريق الأدب الراقي، بصحبة الرفيق المحبّ، النظيف القلب والقلم واللسان، والذي عرفتُهُ خير رفيق، في مسيرتي الأدبيّة.

هداياه المميّزة

في أكثر الأحيان، وقبل خروجي من مكتبته، كان يهديني كتابًا، من كتبه، وإن كان بحوزتي؛ بحجّة أنّه صدر في طبعة جديدة.أمّا الكتاب الذي صدر، له، حديثًا، فكان يهديه إليّ؛ بحجّة أنّ دار النشر تعطيه نسخًا معلومة، كهدايا...  وفي كلّ مرّة كان يقلّل من شأنِ هديّته الثمينة، قائلاً: إنّه مجرّد كتاب ...

هديّتي المتواضعة

زرت صديقي، مرّة، برفقة اثنين من أصحابي(19)، حاملاً إليه هديّة قد صنعتها، له، بيدي: وهي لوح من الخشبالمعاكس، حفرت فيه، بمنشار دقيق الشفرة، خطوطًا وفراغات واهية... فتحوّل اللوح الخشبيّ إلى قطعة فنيّة، تمثّل صبيّة حسناء، تداعب،  بأناملها، أوتار قيثار كبير، فتبرز من بين الأوتار صورة ميخائيل نعيمة. وضعنا الهديّة عند زجاج السيّارة الخلفيّ، بعهدة رفيقي(وديع) الذي أصرّ على حملها. وعندما وصلنا، ورأينا صديقي (نعيمة) ينتظر وصولنا، خارج المنزل، أسرعنا للسلام عليه، ومضى السائق واللوحة في سيّارته. ولمّا أخبرنا صديقي بما حدث، بدأ يطيّب خاطري، ويعلمنا أنّه يعرف السائق، وسيرسل في طلبه، ويستعيد الهديّة... وبعد انتهاء الزيارة، تركنا بسكنتا قلقين ..متأثّرين.

الكثارة

وبعد نحو أسبوع، وصلتني منه الرسالة التالية:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وهكذا أفاض صديقي بوصف هديّتي المتواضعة، وعظّم شأنها.. في الوقت الذي كان يقلّل فيه من شأن هداياه الكثيرة.

المعلّمِ والمتعلّم

عندما شعرتُ بميلٍ شديد للكتابة والنشر، وعرضتُ الأمرَ عليه، ابتسم ابتسامة عريضة، وقال، ما معناه: الأمر أشبه باجتماع المطر في الغمامة الماطرة: فالماء يتبخّر من سواقٍ، وجداول، وأنهار، وبحار، مختلفة... ويبقى، في الغمامة، إلى أن يجد الجوّ  الملائم، فينهمر مطرًا على الأرض. والماء لا يبقى حبيس الطبقات الجوفيّة، بل يجد لنفسه سبلاً ومنافذ؛ ليتدفّق عيونًا وينابيع... فيحيي الأرض، وينفع المخلوقات ... فهل سأل الينبوع أحدًا: كيف أتدفّق؟ وإلى أين أسير؟.. قلت:  لا أريد أن تعلّمني، بل أريد أن تُعلمني.قال: " لا تستعجل الشهرة إليك، لئلاّ تستعجلها عنك".

وكان كلام على الأدب، والكتابة، والأسلوب، والانطلاقة الأولى. وما زال كلامه في أذنيّ: " لي مقالة في كتاب " في مهبّ الريح " وخلاصتها: " من كان معدّاً للأدب، لا يحتاج إلى من يدلّه على الطريق.. فأنت لا تحتاجني. وعدّة الأديب:  لغة وفكر وخيال وذوق ووجدان وإرادة. وخير الوسائل لتنميتها:  المطالعة.. المطالعة.  وأهمّ ما يتّصف به الكاتب: الصدق، والإيجاز، وتحاشي اللفّ والدوران"...  أمّا المطالعة، فيبدو أنّك أدمنتها إدمانًا لم أرَ مثيلاً له  ". (فقاطعته، قائلاً):  وأمّا الصدق، فيبدو أنّي تعلّمته من صديقي الصدوق الذي لا مثيل له.

كتابي الأوّل

قبل أن أجرؤ على طباعة ما أكتبه، كنت أُسمعه بعض ما كتبت، لكن بشكل موجز. وكان يبتسم راضيًا، وناصحًا، ومؤجّلاً... ويقول لي:  قد اقتربت من الهدف، خطوات قليلة وتصل إليه، إن شاء لله... إلى أن سألني مرّة:  هل أحضرتَ معك نصًّا؟ فأخرجتُ النصّ من جيب سترتي، وقرأتُ على مسمعه:

"أيّام الحصاد

في الحقول استأسَدَ القمحُ،

وانحنتِ السَنابِلُ السَمراءُ متماوجةً بالحبوبِ الذهبيّة.

وصَلُبَتِ الأحساكُ:  نضجًا، واصفرارًا، ويباسًا..

وفَغَرَ المنجلُ فاه"...

فابتسم قائلاً:  لا بأس .. لا بأس. قد صَلُبَت أحساكُ سنابلك...

قلت:  والمقدّمة؟

قال:  أعتذر، لكثرة أشغالي.

وكلمة على الغلاف؟

من عينيّ.

وعندما كان الكتاب في المطبعة، وراجعته في الأمر، اعتذر، بلطف، لانشغاله بقضيّة جائزة نوبل، وكان في طليعة المرشّحين لها، كما علمت.

وصدرَ الكتابُ(21)، وأرسلتُ إليه النسخة الأولى.  وبعد وقتٍ، أتتني رسالته النقديّة الصادقة... التالية:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأدب النظيف

سبق لي، في وقت من الأوقات، أن كتبت بعض الخواطر والأوصاف والمواضيع.. على دفتر صغير، أيام دراستي في المرحلة المتوسّطة.

وفي ذات يوم، حملت دفتري وطموحي إلى محجّة الأدباء، في بسكنتا.

-  ما هذا الذي في يمينك، يا سميّي؟

-  هذا دفترٌ من بلاد الجبل، يا سمويّ.

-  هات أسمعنا.

فبدأت أقرأ بهدوء، منتقلاً من نصّ إلى نصّ، ومن مقطع إلى مقطع، على حركة يده:

الإهداء

إلى التي يفوحُ عَبَقُ الأرضِ

من فسطانها العتيق.

إلى أمّي في بلاد الجبل،

أهدي " دفتري" هذا.

 

فابتسم راضيًا، ومشيرًا أن أكمل. فأكملت:

والكلام على الجبل، كلام على العرش والعلاء، وشموخ القمم، وصلابة الصخور، وانحدار السفوح، والأحراج العذراء، والأبواب المشرّعة للريح، والضيوف، وعابري السبيل...

وبعد هذا، أفلا تعجب من قولهم:  أهلاً .. وسهلاً؛ والأحرى بهم القول:  أهلاً .. وجبلاً؟!.

فسمعتُ صوتَ ضحكتهِ، ورأيتُه منشرحًا، كما لم أره من قبل.

وبقيت أقرأ، وأقرأ.. وهو يبتسم ويستزيد، إلى أن قرأت:

وتميس حاملة القرطل بقرطلها الجالس على كتفٍ مليس، لم يَرَ من دهره سوى عتمة الجدائل السوداء... وتحت إبطها (...)

قاوقفني، بإشارة من يده، طالبًا إليّ حذف آخر المقطع، والابتعاد عن الأدب الإباحيّ، وإبقاء النصوص نظيفة كثلج صنّين...

 

 

 

 

 

 

 

إيّاك والأدب الإباحيّ

يومها، تنبّأ الأديب الكبير، لدفتري الصغير، بمستقبل زاهر. فصدقت نبوءته (21).

بعد مّدة شعرتُ أنّ رفيق طريقي يهتمّ بأصدقائه، ويردّ على الرسائل، على حساب راحته. فما عدتُ أسأل إلاّ عن صحّته، وما عدتُ أخبره إلاّ ما يريح باله، ويطمئنه، ويبعده عن كلّ ما يعكّر صفو هدوئه.

وقد نشرتُ رواية أصابع القَدَر من دون أن أعرضها عليه، أو أحدّثه في أمرها.وعندما حملتها إليه، وكان في " الزلقا " نظر إلى الغلاف مبتسمًا، ثمّ وضعها قربه، وهو يقول: مبروك، يا سميّي. وبعد نحو أسبوعين – ثلاثة – وصلتني رسالته :

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

معارك النقد الأدبيّ

المعارك الأدبيّة قديمة في تاريخ الأدب العربيّ.

وما يهمّنا، منها، هنا، الحرب النقديّة الشعواء التي شنّها ميخائيل نعيمة على الأدب القديم، مع بعض رفاقه من أعضاء الرابطة القلميّة؛ وعلى بعض رفاقه من أعضاء تلك الرابطة وغيرهم.. وغيرهم. ومن المعروف أن ميخائل نعيمة قد بدأ حياته الأدبية ناقدًا. وأوّل ما انتشر صيته، من خلال كتابه النقديّ الشهير: الغربال.

ومع أنّه يعرف " أنّ الكثيرين من كتّاب العربيّة وقرّائها لا يزالون يرون في النقد ضربًا من الحرب بين الناقد والمنقود "( الغربال ) ؛  فقد عاد وكتب " جبران خليل جبران " ثم " في الغربال الجديد "...لأنّ نعيمة أراد التجديد في الأدب، وبيّن أنّ " مهنة الناقد هي غربلة الآثار الأدبيّة، لا غربلة أصحابها ".

المهمّ أنّ نعيمة قد غربل، في غرباله، نخبة من الأدباء والشعراء القدامى من المدّاحين، والباكين على الأطلال؛ وميّز بين الشعر والنظم؛ وتحدّث عن " نقيق الضفادع  "، ودافع عن قول جبران؛ وتكلّم على الزحّافات والعلل؛ وأثار بنقده ردود فعل، وهجومات، وعداوات...

وعلى الجملة، كان ميخائيل نعيمة ناقدًا محقّاً حينًا، وصائبًا حينًا، وقاسيًا أحيانًا... في زمن مبكر، وفي مجتمع يهوى المدائح الكاذبة، والتكاذب المتبادل، والمهادنة.

في الغربال، غربل نعيمةُ أميرَ الشعراء )أحمد شوقي(، في القصيدة التي أسمتها الصحافة المصريّة:  الدرّة الشوقيّة؛ فإذا " بالدرّة  " صَدَفة لمّاعة، وإذا" بالمعجزات "الشعريّة خزعبلات عروضيّة.

وبعد شوقي، مباشرة، انتقل نعيمة إلى ديوان القَرَويّات، لصاحبه الشاعر القرويّ ( رشيد سليم الخوري).

والشاعر القرويّ، رئيس العصبة الأندلسيّة: الرابطة الشبيهة بالرابطة القلميّة، والتي تخالفها في الآراء، والمواقف، والنظرة إلى التراث العربيّ... ومن المعلوم أنّ أوجه الخلاف كانت أكثر بروزًا بين القرويّ ونعيمة؛ وأنّ مواقفهما كانت على طرفي نقيض. التقيتُ الشاعر القرويّ، أكثر من مرّة. وفي مرّات كثيرة دار الحديث عن ميخائيل نعيمة. فاكتشفتُ أنّ بعض كلام نعيمة، في الغربال، كان قاسيًا على القرويّ وبخاصّة عندما قال، في الغربال: " القرويّ ينظم للنظم، يلتقط موضوعات من هنا    هناك تغيب فيها شاعريّته خلف ستار من الوعظ المملّ والتفلسف السطحيّ والفخر الفارغ ". وهذا الكلام ترك في قلب القرويّ جرحًا بليغًا لا يندمل. بعد زمن طويل، كان ميخائيل نعيمة مرشّحًا لجائزة نوبل العالميّة. وأرادت الدولة اللبنانيّة،  مشكورة، إقامة مهرجان لتكريمه. وكنّا في هدنة قصيرة، في الحرب القذرة، عام 1978.

وبعد ان حُدّدِ مهرجان التكريم، وأُعلن برنامج الاحتفال... فوجئت الأوساط الأدبيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، باعتراض الشاعر القرويّ، على تكريم ميخائيل نعيمة، وشنّه هجومًا كاسحًا على عصر الردّة، والوثنيّة الدينيّة.. والجاهليّة الأدبيّة، وعبادة الأوثان في لبنان... واصفًا مكرّمي نعيمة بأبي جهل، وحمّالة الحطب، والذود عن اللاّت، والعزّى، ومناة... وواصفًا مؤلّفات نعيمة بالهراء...وطالبًا، من الحكومة، عدم تكريم صاحب مرداد، بل تكريم ناقده صاحب كتاب: "نعيمة بين قارئيه وعارفيه": (كعدي كعدي) (22).

تهافت الناس على جريدة النهار، وبهت أصحاب الأقلام... واتّصلتُ بأكثر أصدقاء وأصحاب نعيمة، فوجدتهم: إمّا محايدين، وإمّا خائفين، وإمّا شامتين!.. حاولتُ، جاهدًا، مقابلة القرويّ فلم أفلح. ولا أدري لماذا وجدتُ نفسي صاحب الحقّ، في الردّ على  صديق، دفاعًا عن صديق.  وقد حذّرني بعض المخلصين من الردّ على القرويّ، وإثارة غضبه... فقلت، راكبًا رأسي: أنتم تعرفون لسانه، وأنا أعرف قلبه. ولمّا اتّصلت بنعيمة، وجدته هادئًا، غير مكترث، أو هكذا بدا لي. وأخبرني أنّه لن يردّ، وقد أرسل إليّ رسالة، بدأها هكذا: سميّي العزيز ميخائيل  لا يضطربنّ قلبك لما قد تسمعه أو تقرأه عنّي من أمور تحسبها غير لائقة بي. فأنا بحكم ظروفي، معرّض أبدًا للاحتكاك بكل أصناف البشر. والبشر كما تعلم، ليسوا ملائكة... لكننّني انفردتُ،   من بين المهتمّين، فكتبت ردّاً على الشاعر القرويّ. القائل: من أحقّ بالتكريم؟.. فقلت:  هو أحقّ بالتكريم (23).

وقد ذكّرت القرويّ بجلسة من جلساتنا، تكلّمنا فيها على تقصير الدولة. وقلت له:  يا صديقي القرويّ.  إنّ تكريم أديب، لا يعني احتقار الأدباء الآخرين، ولا يعني أنّ الدولة أخطأت في هذا التكريم...وألفت نظرك، يا أخي، إلى أن يهوذا عُرِفَ بين الناس عن طريق خيانته معلّمه، لا أكثر ولا أقلّ، فهل نطالب بتكريم يهوذا؟..

وهذا الأمر قد أثار حفيظة الأستاذ كعدي كعدي الذي ردّ عليّ في مقال طويل(24)، عنوانه:  الحقيقة أكبر من أفلاطون. فكان أن أجبته بمقال، عنوانه:  تناقضات نعيمة لا تنقص من روعته، لنحضر تكريمه (25). ثمّ صدر مقال  للدكتور محمّد شيّا، أوضح فيه أمورًا كثيرة تتعلق بأدب نعيمة، وما دار حول متناقضاته (26)... في لقاء التكريم، سألتُ عن الأستاذ كعدي كعدي، لأسلّم عليه، وأعتذر عن الإزعاج... فلم أجده. وفي المهرجان الكبير، كان شقيق نعيمة ( نجيب) يسأل عنّي. ثمّ حضرنا معًا إلى ظلّ السنديانة، في الشخروب، فاستقبلني ميخائيل نعيمة بابتسامة عريضة. وأسرّ في أذني كلامًا ، فيه شكر، وفيه كلام على الوفاء، وفيه احترام كامل لآراء الآخرين ... وبخاصّة القرويّ.

وقبيل تركنا الشخروب، أجلسني قربه، لأخذ آخر صورة لنا، معًا:

إبتسامة في الشخروب               آخر صورة لنا معاَ

آخر صورة لنا، معًا...

انتقل سميّي، من حياة إلى حياة، ولا أدري إن كان سيعود إلى حياة جديدة... لكنّني أؤكّد أنّ المكان الذي ذهب إليه، أفضل من المكان الذي نحن فيه؛ لأنّنا في زمن قلّت فيه " الآداب " وخرجت ،  فيه الحيوانات الضارية من مغاورها، وكهوفها، وأقفاصها... فأباحت واستباحت دماء القطعان الآمنة.

مصادر الأدب النعيميّ

إنّ المصدر الأساس الذي اعتمده نعيمة في أدبه، هو الأدب الواقعيّ الذي يهتمّ بواقع الحياة، ويعمل على إصلاحه وتحسينه... والمعروف أنّ الأدب الواقعيّ قد بلغ ذروته على أيدي الكتّاب الروس، أمثال: " غوغول " و"تورغينيف "   " دوستويفسكي " و " تشيخوف " و " غوركي " و " تولستوي" . قال نعيمة: " إنّ الأدباء الروس فتحوا لي الباب إلى الأدب الإنسانيّ الرحب، فنهجت نهجهم في ما صنّفت من قصص... أمّا في النقد فقد وجدت في "     بيلينسكي– " إمام النقّاد الروس – مثلاً رائعًا للنقد الرفيع. وأمّا في الشعر فقد أعجبت كثيرًا ب " بوشكين " و " لرمونتو " و " نكراسوف ". (27) ومثل هذا الكلام، وهذه الأسماء نفسها، عاد وذكرها في مقابلة ثانية فقال:

" أنا مدين، في تفتّحي الأدبيّ، للكتّاب الروس، بالدرجة الأولى ". (28) ومن الغريب أنّنا كنّا نتحدّث عن يسوع، والفرّيسيّين... ونستهجن لوم المتزمّتين من اليهود، السيّد المسيح، لأنّه شفى الأعمى، في يوم سبت!... وقادنا الكلام إلى ذكر تولستوي، كأشهر موسرٍ بين الأغنياء، تنازل عن ثروته، بملء إرادته، لأقنانه العاملين عنده في أراضيه الموروثة ... ثمّ أعتق أقنانه، وفتح مدرسة على نفقته، وكان يقول: " القصد من التعليم تربية الشخصيّة الإنسانيّة والخلق الكريم، لا حشو الدماغ بمعلومات لا تنفع الطالب في شيء "...(29)

مصدر معلوماتي

في لقاءات متعدّدة، ومتباعدة، أخبرني صديقي تفاصيل عن الأدب الروسيّ، وأفاض في كلامه على تولستوي: عملاق الروح والقلم (30). وصحّح لي أكثر المعلومات التي عرفتها عن " ليون تولستوي "، والأدب الروسيّ...

وعندما تغيّرت المناهج التربويّة في لبنان، وأُدخلت مادّة الآداب العالميّة في مناهج المرحلة الثانويّة، وطلبت الوزارة إلى التلامذة دراسة آنّا كارينينا ل تولستوي... صدرت ترجمات كثيرة ، منقولة عن مترجمين عرب يعرفون اللغة الروسيّة.

فطلبت منّي إحدى دور النشر، دراسة آنّا كارينينا، وتقديمها بحلّة جديدة وجيّدة. وكان أن عدت إلى المعلومات القيّمة، والدقيقة، والشاملة ... كما سمعتها من ميخائيل نعيمة. فإذا ليون تولستوي:  ليڤ تولستوي:  الأسد الضخم. وإذا آنّا كارنينا: آنّا كارينينا... وبعد أن درست هذا الأثر العالميّ المهمّ، متحدّثًا عن: الأدب العالميّ - روسيا والأدب الروسيّ – المجتمع الروسيّ - نظام القَنانة - أشهر الكتب الروسيّة؛ ليڤ تولستوي(: سيرة حياته بدقّة متناهية.... الحرم    الكنسيّ –تركه المنزل-  وفاته مشرّدًا... ثمّ قمت باقتباس الرواية من تولستوي، وصياغتها، بالعربيّة الفصحى، وتحليل شخصيّاتها... كان أنّ استندت، بثقة، إلى المعلومات القيّمة التي أفادني بها ميخائيل نعيمة.

خلاصة الكلام

في الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة جامعة البلمند، بالاشتراك مع البيت اللبنانيّ الروسيّ، أقميت ندوة بين 4 – 8 آذار/1999، شارك فيها:  اميل بو حبيب - جورج حدّاد - المطران خضر - يوريس يراسوف - سهيل فرح - ماريّا نيكولاييڤا، وغيرهم. في المحور الأول:  روح الحضارتين:  الروسيّة ، والمشرقيّة. تكلّمت د. ماريّا نيكولاييفا، على ميخائيل نعيمة:  الفيلسوف، الشاعر والإنسان. وقد فوجئت بقولها: ... " ومن تعمّق نعيمة بالأدب الروسيّ، فهم قوانين  الحياة، وفصل " القشور عن اللباب ". وأكملت:  أشير هنا، إلى تأثّر الأديب ميخائيل مسعود، بأدب ميخائيل نُعَيمة، والدليل على هذا، كتابه الأخير: لباب وقشور. (31) في ذلك الوقت، كانت رواية آنّا كارينينا في آخر مرحلة من الطباعة والتطوية... وقد قرأتها د. ماريّا، وأعجبت بها إعجابًا شديدًا، وكتبت على غلافها الأخير:

رسائل

 

 

 

 

 

 

 

 

صديقتي ماريّا...

ما كنت عرفت الأدب الروسيّ، ولا تولستوي، ولا أعماله العظيمة... وما كنت كتبت نثرًا فنّيّاً، ولا أدبًا عربيّاً ... لولا معرفتي بصديقي الذي أنار طريقي:  ميخائيل نعيمة.

مع تحيّات ميخائيل مسعود

حقل العزيمة 21/12/2013

الحواشي

1-  من كلام قاله ميخائيل نعيمة، منذ زمن بعيد، لرفيقه جبران خليل جبران.

2- هي مدرسة الأب نادر، في بلدة دِدّه - الكورة، قبل أن تتحوّل إلى مدرسة مهنيّة، ثمّ إلى معهد فنّيّ.

3- كان ما كان، كتاب معروف للأديب ميخائيل نعيمة، صدر للمرّة الأولى عام 1927.

4- من كتاب كان ما كان قصّة " ساعة الكوكو ".

5- هو الأستاذ كامل درويش (1927-1993): درّس الأدب العربيّ والفلسفة، في حماه وطرابلس، والكورة. عمل مديرًا للدروس في دار التربية والتعليم الاسلامّية. له ديوان شعر ، ومسرحيّة.

6- كانت المكتبة تضمّ كتبًا لكبار أدباء لبنان ومصر... وكانت أكثر الكتب فيها للأديب ميخائيل نعيمة. وقد علمت، بعد سنوات، أنّ الذي قدّم كتب نعيمة للمكتبة هو المطران أبيفانيوس زايد.

7- الرسائل: بدأت الرسائل بين ميخائيل نعيمة وبيني، منذ أوائل العام 1963 ، واستمرّت حتى العام 1975 ، حيث استعضنا عنها باللقاءات. وفي مكتبتي أكثر من 67 رسالة بخّط يده. وما ينشر منها فللمرّة الأولى.

8- بعد مدّة طويلة، تحوّل هذا المقطع إلى نصّ أدبي كامل، عنوانه الفلاّح - دفتر من بلاد الجبل، طبعة 11 ، عام 2008 ، الصفحات:(49-50-51-52).

9- نشر الكلام في نصّ كامل عنوانه:  قناعة الفقراء. (ميخائيل مسعود:  حياتي-  طفولتي في بلاد الريف-  المرحلة الأولى، طبعة 25 ص 32).

10- كتاب للأديب ميخائيل نعيمة، صدر في العام 1963 ، وكأنّه تكملة لكتاب مرداد.

11- من كلام له، في اليوم الأخير.

12- بعد سنين، ظهرت بذور فلسفة نعيمة في كتابي: أدباء فلاسفة:) بحث في الأدب والفلسفة، دار العلم للملايين . (دراسة جامعيّة)..

13- نُشِرت هذه الرسالة ناقصة، في المجموعة الكاملة؛ لأن الذي أشرف على اختيار وترتيب ونشر الرسائل ... لم يكن ميخائيل نعمية شخصيّاً. (قارن نصّ الرسالة الأصليّ الوارد هنا، بخطّ يده، مع نصّ الرسالة المنشور في: المجموعة الكاملة، دار العلم للملايين، المجلّد الثامن، ص 335-336).

14- د.علي شلق(1915-2009) تتلمذ في الأزهر بمصر، حصل على دكتوراه في الآداب 1950 ، درّس في بغداد وعمل في مجلّة " الأقلام . "

15- أنظر:  مقدمّة كتاب حياتي- طفولتي في بلاد الريف، بقلم د.علي شلق، ص 11

16- كعدي كعدي:  ميخائيل نعيمة بين قارئيه وعارفيه، 1971 ، لا. ن، ص 22

17- د. محمّد شفيق شيّا:  فلسفة ميخائيل نعيمة) تحليل ونقد(، منشورات بحسون الثقافية- بيروت، توزيع مؤسسة نوفل.

18- ورد مثل هذا الكلام، في مقابلة أجرتها معه جريدة النهار، بيروت ، 28 تموز 1962

19- هما:  وديع أمين سعادة، وأنطوان يوسف سعادة، من بلدة شبطين – البترون.

20-  هو كتاب:  أيام ريفيّة، صدر عن دار الكتاب اللبناني – بيروت، الطبعة الأولى 1972

21- حقّق الكتاب نجاحًا باهرًا، فقد طبع 12 مرّة ؛ وأعطي نصّ منه في امتحانات الشهادة، دورة 2001 التجريبيّة؛ واعتبر أنموذجًا في النثر الفنّيّ، في أطروحة دكتوراه دولة، في اللغة العربيّة وآدابها، الجامعة اللبنانية-  المعهد العالي للدكتوراه (بالاشتراك)، إعداد الطالب:  كابي الفغالي، إشراف أ.د.منيف موسى.

22- جريدة النهار، العدد الصادر في 18-1-1978، ص7.

23- انظر:  جريدة النهار العدد الصادر يوم السبت 28-2-1978، ص7.

24- ردّ كعدي كعدي على ميخائيل مسعود ، النهار، 8-2-1978، ص7.

25- ردّ ميخائيل مسعود على كعدي كعدي، النهار، 18-2-1978، ص7.

26- النهار ، 23-3-1978.

27- من مقابلة، جريدة العمل، العدد الصادر في بيروت 30- تشرين الثاني- 1961.

28- جريدة الكفاح، بيروت، العدد الصادر في 1-1-1962.

29- وهذا المبدأ اعتمده نعيمة في حديثه عن التربية والتعليم.

30- ميخائيل نعيمة: " عملاق الروح والقلم "، في ذكرى مرور نصف قرن على وفاة تولستوي (في الغربال الجديد، المجموعة الكاملة، المجلّدَ السابع).

31- أنظر كتاب: روسيا والمشرق العربيّ: لقاء الثقافتين. (أعمال الندوة العلميّة التي عقدت في رحاب الأكاديميّة اللبنانية للفنون الجميلة بين 4-8-آذار 1999)، جروس برس، طرابلس-  لبنان ، ص 54.