المقدمة

    أضواء على أدَب وفِكر ميخائيل نعيمة

الكلمة المبدِعَة

لا بدّ لنَا في مقدّمِة هذا العدد من أن ندكِّر بإيمان الأديب الكبير ميخائيل نعيمة بقوّة الكلمة وسِحرِها وتأثيرها في مجرَيات الأحداث وقدرتها على التغيير والتجديد في مسائل الحياة كافة. فقيمة الكلمة تفوق كل قيمة. ويؤكِّد نعيمة ذلك في كتابه "من وحي المسيح" :"لقد ألِفنا الكلام نطقًا وسمعًا إلى حدّ نسينا معه أن الكلمة هي أعجب عجيبة في حياتنا على الإطلاق".

ويضيف: " فنحن، على غير علمٍ منّا، نخلق أنفسنا باستمرار ونخلق العوالم التي نعيش فيها، وذلك بقوّة الكلمة".

فإنطلاقًا من هذا الإيمان تحدّثَ نعيمة في مقالات عديدة وفي مذكّراته  "سبعون "عن موضوع اللّغة وضرورة تجديدها وتنقيته: " فالكلمة أو ال Logos هي أوّل مظهرٍ من مظاهر الفكر.  هي الإرادة المتجسّمِة. هي قول الفكر" كن ! ". هي بدء الخليقة.  لذا يدعو في مقالته  " نقيق الضفادع " إلى تهذيبها وتنسيقها : " لكن حرصنا على اللّغة يجب أن لا ينسينا القصد من اللّغة.  فجميلٌ بنا أن نصرف همّنا إلى تهذيبها وتنسيقها لنُكسِبها دقّة ورقّة".

وفي حديث له مع الصحافة يجيب مؤكِّدًا " الكلمة قوة هائلة ولكن في يد الذين يقدّسونها فلا يستعملونها إلا للخيروالهداية. ومن المؤسف أن لا يكون تأثير الكلمة واحدًا في جميع الناس ".

هائلة ولكن في يد الذين يقدّسونها فلا يستعملونها إلا للخير

وفي الفصل الأخير من مذكّراته يعبّرِ نعيمة عن حبهّ للكلمة فيخاطبها ويجري حوار بينهما يمكن اعتباره من أجمل صفحات كتاب " سبعون " :

" أيتها الكلمة !

علّمتني النطق فنطقت.

وعلّمتني الكتابة فكتبت.

وكان ما نطقت به عوالم من السّحر والسرّ(...)

متى أفهمك أيتها الكلمة التي تعنى كلّ ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وبيني وبينك من وشائج القربى ما ليس مثله بين أمّ وطفلها، أو بين عابدٍ ومعبوده؟"(...)

وتجيبه الكلمة شارحةً له أهميّةَ ومسؤوليّةَ الأديب " في الكلمة يا ابني سرّ عظمتك وحقارتك.  وسرّ هنائك وشقائك. إذا أنت امتهنتها امتهنتك.  وإذا أنت قدّستها قدّستك.(...)

"أنا الكلمة.  من جمّلني جمّلته.  ومن قبّحني قبّحته.  ومن امتهنني امتهنته. ومن قدّسَني قدّسته".

ميخائيل نعيمة: كيف يفهم الأدب؟

في اعتقاد ميخائيل نعيمة أن الأدب موهبة ولكن على الإنسان ان يصقلها وينميها بالمطالعة : "إلا أن الأدباء يَخلقون ولا يُصنعون". ويضيف في مقالته " مجد القلم ": "من كان معَدّاً للأدب ليس بحاجة إلى من يدلّه على طريقه.  ففي داخله ومن خارجه حوافز لا تتركه يستريح حتى يتمّ التزاوج ما بين عقله وقلبه وذوقه وبين القلم والمِداد  والقرطاس".

ويرى نعيمة أن الغاية من الأدب هي "درس الإنسان وحياته والغاية من وجوده". ثمّ حدّدَ الشِّعر معتبرًا أنه "منفذ لما يجول في نفس الشّاعر من تأمّلات وأحاسيس يعبّر عنها تعبيرًا يُفرِغ فيه هذه الأمور كلّها في قوالب تؤدي إلى القارئ في صورة صادقة عمّا يجول في نفس الشّاعر. وهذه القوالب لا بدّ لها أن تتّصف باللطافة في الإيقاع والحركة واللون ليكون لها الأثر المرغوب في نفس القارئ أو السامع. وليس من الضروري أن يتّبَع الشّاعر في شعره نَمطًا له حدود كالأوزان والقوافي بل المهم أن يفعل كلامه في نفس القارئ فعل الموسقى الموقّعة أحسن توقيع والحركة المنسجمة أحلى انسجام والصورة المؤتلفة الألوان والظلال". كما لا يمكن أن يكتب الشِّعر من لم يكن في داخله " صراع نفساني" . فالمعاناة هي التي تولّدِ الشِّعر.

ولا يؤمن نعيمة بالعفوية في الأدب. فالكتابة عملٌ يتطلّب الكثير من الوقت والدقّة والعناية ولكن فيها "لذّة لا تفوقها لذّة" . فيصرّحِ جازماً  " اًلعفوية شيء لا وجود له في الكلمة المكتوبة". ويضيف شارحًا أن عملية الكتابة عملية لا علاقة لها بحالة اللاوعي: "المفروض في المتكلّمِ أن يعرف أن لكل كلمة معنى وأن يختار الكلمات التي تؤدي المعاني.  وهذا الاختيار هو عملية واعية".

أنواع الأدب النُعَيميّ

ابتدأت رحلة نعيمة الطويلة مع الأدب من بوابة الشِّعر. وأول قصيدة له نظمها في روسيا بالّلغة الروسيّة وهي قصيدة " النهر المتجمّ " ثم دِ ترجمها بنفسه إلى العربيّة .

ويتميّز شعره بالإيقاع الجميل والنغم السّاحر.  ولن نبالغ إذا قلنا أن بعض قصائده قطع موسيقيّة تطرَب لها الأذن قبل أن يدرك معناها العقل.  ففي قصيدة " أوراق الخريف "  يقول  الشّاعر

تناثري تناثري

يا بهجة النظر

 

يا مَرقصَ الشمس ويا

أرجوحة القمر

 

يا أرغُن الليل ويا

قيثارة السّحَر

 

يا رمز فكرٍ حائرِ

ورسم روح ثائر

 

يا ذكر مجدٍ غابِر

قد عافك الشَّجر

 

تناثري ! تناثري!

 

لقد استطاع الشّاعِر أن يحاكي الأذن أوّلاً، والنظر ثانيًا فيُخيّل للسامع أو للقارئ أن نعيمة ينقلنا إلى عالمٍ من  " البهجة" والسرور والرقص والفرح، ولكن سُرعان ما نلاحظ أنّه يعبّرِ عن الحيرة  "فكر حائرِ" والثورة التي في داخِلِه " روحٍ ثائر"  والندم على مجدٍ قد مَضى"  مجدٍ غابرِ ". لقد طبّقَ نعيمة في شعرِه نظريّته حول الأدب وغايته ومعناه، وهو القائل: "والأدب، مهما جَمُل، لا معنى له إلاّ على قدر ما يكشف معنى الحياة الذي هو أثبَت من الأرض وأبقى من السّماء".

ثمّ طلّقَ نعيمة الشِّعر لأنّهَ أراد معالجة مواضيع لا يمكن أن تُحصَر في قوالب شعريّة.  ولكنّه، وبِخاصةٍ عندما يصف الطبيعة، كتب أجمل وأروع صفحات النثر الشعريّ.  فيقول في  " سبعون " واصِفًا مشاعره وعواطفه تجاه المرأة: " أيّها الحبّ ! أنت البداية التي منها كلّ بداية، والنهاية التي إليها كلّ نهاية.  بك تتماسَك الأقمار والشموس والمجرّات، وحولك تدور.  منك تنبع الحياة، ومن الحياة الجمال ومن الجمال الحق.  سلطانك هو السلطان، وقضاؤك هو القضاء، وعدلك هو العدل. أنت السّحِر وأنت الساّحر.  أنت الخالق وأنت الخليقة.  أنت الكلّ في الكلّ. فالمجد لك ! "

وفي كتاب "البيادر " وتحت عنوان " العاصفة " نقرأ  أجمل الاستعارات المبتكرة التي جعلت من المقالة قصيدة نثريّة عَبَّر فيها نعيمة عن إيمانه بالله من خلال مخلوقاتِه: " وشربنا الماءَ قِراحًا من عيون الأرض الحنون "، " فصفّقَ لنا الحَور والصفصاف والزيزفون...ورَنا إلينا الخوخ بعيونِه السود"(...)"والريح في ثورة وجنون، والبَرْد ينهش جِلد الجِلد، والرعد في غضبة الموتور والبَرَدُ كأنه وابلٌ من الرصاص... "

"فالعاصفة ما انفكَّت تدور حول بيتي وتدور، نافخةً بأبواق الجنّ والعفاريت، صافرةً صفيرَ الهاويات السفلى، معولة عويل الثكالى، عاوية عواء الذئاب، زائرةً زئير الأسود، صاخبةً ناقمة، مولولة".

ومن أهم مؤلّفات نعيمة النثريّة وأقربها إلى نفوس القراء، سيرته الذاتية في كتاب  " سبعون " ولا يعرف الأدب العربي كاتبًا استطاع أن يُقدّمِ ذاته إلى القراء بالأسلوب الذي اعتمده نعيمة ف " سبعون " " مغامرَة "   أدبيَةّ جريئة أقدم عليها الكاتب بتواضع كبير، فبينما أعلنَ جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، مقدّمِاً لكتابهِ " الاعترافات " ، متحدّيِاً ومؤكِّدًا ،  بأنه سيقول كل الحقيقة، وبأنّه سيُعرّي نفسه أمام قرائه دونما زيادة أو نقصان، أوضح نعيمة: " إنّك خادع ومخدوع كلّمَا حاولت أن تحكي لنفسك أو للناس حكاية ساعة واحدة من ساعات عمرك.  لأنّك لن تحكي منها إلاّ بعض بعضها".

أما الهدف الأسمى والأهم من كتابة السيرة الذاتية بالنسبة له فهو أنّه عندما يحكي عن نفسه يحكي عن الآخر.  وهنا يلتقي نعيمة مع ڤيكتور هوغو الذي قال: " عندما أحدّثك عن نفسي أحدّثِك عن نفسك ". ويقول نعيمة "... مهما يكن شأني اليوم أو غدًا في دنيا الفكر والقلم، ما برِحتُ واحدًا من الناس، تنعكس حياتي في حياتهم، وحياتهم في حياتي ".

وهذا ما يفسّرِ المتعة واللذة والإفادة التي نجدها في مطالعة سيرته الذاتية.  فضلاً عن أنّ نعيمة كاتبٌ، محلِّلٌ وشاهدٌ على عصره.  وقد حاول وصف الأحداث والتيارات والانقلابات التي شهدها في " دنيا السياسة والاقتصاد والاجتماع ". لكنّ هدفه من ذلك لم يكن كتابة التاريخ بل مدى " تأثيرها في مجاري الحياة البشريّة ".

ويُعلن هدفه بوضوح وهو الهدف الذي سعى إلى تحقيقه في كلِّ مؤلّفَاته: " فهَمّي من الإنسان لا ينحصر في ما يُشيد ويَهدم، أو في ما يخترع ويكتشف، أو في ما ينتج ويستهلك، إلا على قدر ما يساعده ذلك في تحقيق هدفه من وجوده – ذلك الهدف الذي يتجاوز أقصى ما  يتعطّشَ إليه الآن من الجمال والمعرفة والحرية والخلود".

بالإضافة إلى الشِّعر والسيرة الذاتية طَرَق نعيمة أبواب الأنواع الأدبيّة كافة.  وقد اشتهر بالنقد الأدبيّ وله في هذا المجال كتابان " الغربال  " و " الغربال الجديد ". أما الهدف من النقد فكان بالنسبة إليه تنقية اللّغة من الألفاظ البالية، وبثّ روح جديدة في الأدب: " فالاستعباد للقاموس، أو التعبّدُ له، ضربٌ من الخنوع الفكريّ، والعقم الروحيّ، والكفر بالحياة وطاقاتها العجيبة على التوليد والتجديد إلى ما لا نهاية له". كما حاول نعيمة أن " يغربل " من أجل أدب أفضل يكون محوره الإنسان، فكان قاسيًا أحيانًا في حُكمِه، ولكنّه كان دائمًا صادقًا.  وقد دلّ الكثيرين من الشعراء والكتّاب على طريق النجاح. والنقد بالنسبة له "...خلقٌ وإبداع وليس مجرّد استحسان أو استهجان". والنقد  " ليس للتشفّي ولا للتبخير، بل للتمحيص والتحليل ". وقد اعترف بفضلِه العديد من الكتاب ونذكِّر بما قاله الأستاذ رشيد أيوب: " أشهدُ من على السطوح بأن ميخائيل نعيمة هو الذي علّمنا الشّعر ".

كَتَب نعيمة القصّة وقد لاقت مؤلّفاته في هذا المجال رواجًا وشهرة كبيرَين، وبِخاصة كِتاب " كان ما كان".

وهو مجموعة قصص قصيرة تسهَل مطالعتها ويجد القارئ في أبطالِها اناسًا يشبهونه ويعانون معاناته.  وفي كلّ قصة يجد القارئ أمثولة أو مغزى لحياته.  ويُعتبر نعيمة رائدًا ومجدّدِا ومبتكرًا على صعيد الأسلوب القصصي.

أحبّ المسرح وقال في مقدمّة الطبعة الأولى لمسرحيّته  الآباء والبنون ": "...ففي المسرح تجد نفسه الجائعة، المثقلة بأتعاب العمل وهموم الحياة، راحةً وتعزيةً وقوتًا ". وتمنّى منذ سنة 1917: "إذا شئنا أن نرفع آدابنا من المستنقعات التي تتمرّغ فيها الآن فعلينا أن نسعى منذ اليوم لوضع أسس متينة للمسرح العربي وذلك بتربية أذواقنا التمثيليّة، وتعزيز الرواية الوطنيّة".

ويبدو أن النوع الأدبي الذي فضّله نعيمة، ووجد فيه قالبًا مناسبًا للتعبير عن أفكاره وإيصال رسالته إلى القرّاء، هو المقالة. وقد وصل إلى ذروة الإبداع في مقالاته إذ استطاع ان يوضِح آراءه مباشرةً، من دون اللجوء إلى الرمز أو الايحاء. كما ألقى عددًا كبيرًا من الخطب في لبنان وخارجه. وفي كل مناسبة كانت خطبته تلاقي تجاوبًا لدى المستمعين، إذ تميّزت بالبلاغة والوضوح والقدرة على الإقناع.

أبرز المواضيع التي عالجها نعيمة

يقول نعيمة في مقدّمِة مسرحيّة " الآباء والبنون " "...الحياة والأدب توأمان لا ينفصلان، وأن الأدب يتوكأ على الحياة، والحياة على الأدب، وأنّه - وأعني الأدب – واسعٌ  كالحياة، عميقٌ كأسرارها، وهو ينعكس فيها وتنعكس فيه".

وفي مقالة أخرى أدرَجَها الكاتب في "الغربال" يؤكِّد: " إنما الكاتب قلبٌ يخبّر، وعقلٌ يفكِّر، وقلمٌ يسطّر".

وإنطلاقًا من مفهومه للأدب عالج المواضيع التي لها صِلة وطيدة بحياة الإنسان.  فتألّمَ مع المتألّمِين، وغضب وثارَ مع الغاضبين والثائرين، فرح مع الفرحين، وعبّرَ عن حنينه إلى الوطن الأم مع المغتربين.  صَرَخ بوجه الظالمين المستعبدين، وبّخَ الفاسدين والطامعين، بارك عَمَل الفلاّحين والكادِحين، أنذَر الحكّام الطُغاة المستَغلّين.  خاطب المرأة الأم والمرأة الحبيبة. وقد أحبّ في المرأة بساطتها وعفويّتها: " فلم يكن يستهويني في المرأة مثل العفويّة في الكلام والتصرّف والحركة ". وقد أراد أن يرفع المرأة بحبّه وأن يرتفع بحبّها. ثار على الشِّعر التقليدي الجامد وعلى " المدّاحين " الذين   يستغلّون أقلامهم للارتزاق وعلى الفنّانين الذين يحاولون كسب المال، فَخيرٌ لهم لو " عقّمَوا قرائحهم " .

رفض التقاليد البالية والتصنّع والتزلّف ولم يقبل الانحناء أمام مسؤول كبير مهما علا شأنُه فكانت حياته مثالاً وقدوةً للكرامة والعزّة والعنفوان .

من جهة أخرى كان نعيمة يراقب الاحداث التي تجري على الساحة العالميّة، فيصِفها بدقّة متناهية معلّلِاً، مستخلصًا النتائج والعِبَر والرؤى المستقبليّة حول مصير الانسان والعالم. ومن أبرز وأهم توقّعاته، ما يختص بموضوع الآلة أو " الماكِنة " أو المدنيّة.  وقد رأى أنّها ستكون سبب تعاسة  الإنسان وشقائه وأن الحلّ هو بالعَودة إلى الطبيعة وبالتعاون بين الناس وبالمحبة.  فيؤكِّد في كتابه: " النور والديجور" : " أما الأمر الذي لا يختلف فيه عاقِلان فهو أن المدنيّةَ الحاضرة ما أدركت بعد ولا هدفًا من أهداف الإنسان. فهي ما أخرجتنا من ظلمة حتى أوقعتنا في ظلمات، ولا  حرّرتنا من وهم حتى كبّلتنا بأوهام، ولا فتحت لنا بابًا حتى أقفلت في وجهنا أبوابًا.  وفي " سبعون " يقول: " إنها نكبة مدنيّة رأسها في جيبها، وقلبُها في معمَلِها (...)ويلٌ للإنسان يخترع الآلات لتكثير خيرات الارض.  وإذ تكثرُ خيراتُه تكثر غَصّاتُه". أما بشأن موضوع الحرب والسلام فقد توقّع نعيمة أن تجتاح العالم موجة من العنف لا يمكن القضاء عليها إلا بالمحبّةَ: "أحْبِب تَرَ ما لا يُرى، أنِر وسِرْ أنّىَ تشاء " .

فمخائيل نعيمة شاهدٌ على الويلات التي سببّتها الحرب العالمية الأولى ثمّ الثانية. فوصف بشاعتها وحذّر بنبرة عاليه مسبّبِيها محُمّلِاً إياهم مسؤولية ما يجري من قتل وتشريدٍ وخراب ودمار: "...إن الذي يزهو بعقله يغدو في الحرب بدون عقل. فهو يشوَّه الصحيح ثمّ يعود فيحاول تصحيح ما شوّه.  وهو يقتل الحيّ ليعود فيندب الحيّ.  وهو يُدمّرِ ما بناه ليعود فيرمّمِ الذي دمرَّه".

ونعيمة من مناصِري غاندي ومن دُعاة ثورة اللاّعنف: "إذا أردت الحرب فاستعدّ للحرب وإذا أردت السّلِم فاستعد للسّلِم".

وما يعنينا مباشرة من آراء أديبنا الكبير ما قاله في موضوع التربية والمدرسة والمناهج المدرسيّة.  فهو من مُحبذي الأشغال اليدويّة في المدرسة: " وإنها لجريمة نكراء من جرائم هذا العصر الأعمى أن تكثُر مدارسه وأن يَقلَّ فيه الخالِقون.  فكم من طالبٍ ما لمست يده المعول أو المنجل، ولا هي تستطيع أن تدقّ مسمارًا في حائط، أو أن تُدخِل خَيطًا في ثقب إبرة ! (...) إي، إنها لجريمة أن يحيا الطالب في مدرسته حياة بينها وبين الحياة خارج المدرسة هوّة سحيقة". وقد أوضح رأيه بالمدرسة والهدف من التعليم في خطبة عنوانها: "المعرفة والمدرسة" في كتاب" زاد المعاد" وممّا جاء في هذه الخطبة:

إن المعرفة التي أكلّمَكم عنها لا تنال في مدرسة أو مدارس (...). المعرفة كالله في كل مكان (...) كما أنّه من الجهل أن ندّعي للمدرسة ما هو أوسع من نطاقها (...) إنه لَمِن الحَيف أن نطلب المعرفة من المدرسة وحدها.  فنراها بحرًا يغرف منه الطلاب (...) ونراها ساحرة تقوّمِ كل ما فيهم من اعوجاج، وتُصلِح كل ما فيهم من فساد، وتبدّل كلّ ظلماتهم أنوارًا" (...) لا تطلبوا من المدرسة أكثر مما في وسعها أن تعطيكم".

أما بالنسبة إلى الفلسفة فقد آمن نعيمة بالنظام الكلّيّ السَرمرديّ الكامِل، وبأنّ الإنسان ابن العالم وأخ لجميع الناس وبأنّ خلاصَه يكون من طريق معرفته لنفسه فيؤكّد: " من غَلبَ نفسه غَلبَ العالَم ". وكانت له نزعةٌ صوفيّةَ فينصَح بالتأمّل والروحانيّة وبساطة العيش والعودة إلى الطبيعة والابتعاد عن الأنانيّة. وما تنسّكه في "الشخروب"  إلاّ للانفصال عن الناس من أجل الاتصال بهم والاقتراب منهم أكثر فأكثر.  مؤمنٌ بالإنسان وبطيبَته وقدرته على تخطي الصّعاب: " إن السفينة تجري حتى لو عاكستها الرياح ".

و "مرداد "هو الكتاب الذي يتضمّنَ خلاصة الفِكر الفلسفيّ  "النعيميّ " . و "مرداد" هو طالب الحقيقة من أجل الحقيقة، ولا يمكنه الوصول إليها إلا بالتجرّد عن الملذّات الأرضيّةَ ليتمكّن من السّير بحرّية والاتّحاد بالذات الأزليّة الشّاملة الأبديّةَ.

إذا كان للبنان أن يفاخِر بمفكِّرته وأدبائه فنقول لمخائيل نعيمة بأنّنا نعتزّ بك أديبًا ومفكِّرًا ومرشِدًا. كنت صاحب رسالة سامية. فنذرت عمرك لها. تعبّدت للكلمة وعِشقتها فتعِب القلَم وما تعِبت. تركت لنا زادًا كافيًا يُشبع العقل والقلب والروح.

رسالتك وصَلت.  ونعاهدك بأنّنا سنهتدي بهَديك ونستنير بفكرِك وسنحبّ لبنان كما أحببته، وسنحافظ على طبيعته الخلاّبة مُردّدِين معك أناشيد الحبّ التي أنشدتها للتلال والوديان، للجبال والسهول، للبيادر والحقول، للعصافير والأشجار، للأزهار والينابيع، للتراب والصخور.

ميخائيل نعيمة. أديبُنا الكبير. من "المجلّة التربويّةَ" إليكَ ألف تحيّة وتحيّة ! .

المقدمة

    أضواء على أدَب وفِكر ميخائيل نعيمة

الكلمة المبدِعَة

لا بدّ لنَا في مقدّمِة هذا العدد من أن ندكِّر بإيمان الأديب الكبير ميخائيل نعيمة بقوّة الكلمة وسِحرِها وتأثيرها في مجرَيات الأحداث وقدرتها على التغيير والتجديد في مسائل الحياة كافة. فقيمة الكلمة تفوق كل قيمة. ويؤكِّد نعيمة ذلك في كتابه "من وحي المسيح" :"لقد ألِفنا الكلام نطقًا وسمعًا إلى حدّ نسينا معه أن الكلمة هي أعجب عجيبة في حياتنا على الإطلاق".

ويضيف: " فنحن، على غير علمٍ منّا، نخلق أنفسنا باستمرار ونخلق العوالم التي نعيش فيها، وذلك بقوّة الكلمة".

فإنطلاقًا من هذا الإيمان تحدّثَ نعيمة في مقالات عديدة وفي مذكّراته  "سبعون "عن موضوع اللّغة وضرورة تجديدها وتنقيته: " فالكلمة أو ال Logos هي أوّل مظهرٍ من مظاهر الفكر.  هي الإرادة المتجسّمِة. هي قول الفكر" كن ! ". هي بدء الخليقة.  لذا يدعو في مقالته  " نقيق الضفادع " إلى تهذيبها وتنسيقها : " لكن حرصنا على اللّغة يجب أن لا ينسينا القصد من اللّغة.  فجميلٌ بنا أن نصرف همّنا إلى تهذيبها وتنسيقها لنُكسِبها دقّة ورقّة".

وفي حديث له مع الصحافة يجيب مؤكِّدًا " الكلمة قوة هائلة ولكن في يد الذين يقدّسونها فلا يستعملونها إلا للخيروالهداية. ومن المؤسف أن لا يكون تأثير الكلمة واحدًا في جميع الناس ".

هائلة ولكن في يد الذين يقدّسونها فلا يستعملونها إلا للخير

وفي الفصل الأخير من مذكّراته يعبّرِ نعيمة عن حبهّ للكلمة فيخاطبها ويجري حوار بينهما يمكن اعتباره من أجمل صفحات كتاب " سبعون " :

" أيتها الكلمة !

علّمتني النطق فنطقت.

وعلّمتني الكتابة فكتبت.

وكان ما نطقت به عوالم من السّحر والسرّ(...)

متى أفهمك أيتها الكلمة التي تعنى كلّ ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وبيني وبينك من وشائج القربى ما ليس مثله بين أمّ وطفلها، أو بين عابدٍ ومعبوده؟"(...)

وتجيبه الكلمة شارحةً له أهميّةَ ومسؤوليّةَ الأديب " في الكلمة يا ابني سرّ عظمتك وحقارتك.  وسرّ هنائك وشقائك. إذا أنت امتهنتها امتهنتك.  وإذا أنت قدّستها قدّستك.(...)

"أنا الكلمة.  من جمّلني جمّلته.  ومن قبّحني قبّحته.  ومن امتهنني امتهنته. ومن قدّسَني قدّسته".

ميخائيل نعيمة: كيف يفهم الأدب؟

في اعتقاد ميخائيل نعيمة أن الأدب موهبة ولكن على الإنسان ان يصقلها وينميها بالمطالعة : "إلا أن الأدباء يَخلقون ولا يُصنعون". ويضيف في مقالته " مجد القلم ": "من كان معَدّاً للأدب ليس بحاجة إلى من يدلّه على طريقه.  ففي داخله ومن خارجه حوافز لا تتركه يستريح حتى يتمّ التزاوج ما بين عقله وقلبه وذوقه وبين القلم والمِداد  والقرطاس".

ويرى نعيمة أن الغاية من الأدب هي "درس الإنسان وحياته والغاية من وجوده". ثمّ حدّدَ الشِّعر معتبرًا أنه "منفذ لما يجول في نفس الشّاعر من تأمّلات وأحاسيس يعبّر عنها تعبيرًا يُفرِغ فيه هذه الأمور كلّها في قوالب تؤدي إلى القارئ في صورة صادقة عمّا يجول في نفس الشّاعر. وهذه القوالب لا بدّ لها أن تتّصف باللطافة في الإيقاع والحركة واللون ليكون لها الأثر المرغوب في نفس القارئ أو السامع. وليس من الضروري أن يتّبَع الشّاعر في شعره نَمطًا له حدود كالأوزان والقوافي بل المهم أن يفعل كلامه في نفس القارئ فعل الموسقى الموقّعة أحسن توقيع والحركة المنسجمة أحلى انسجام والصورة المؤتلفة الألوان والظلال". كما لا يمكن أن يكتب الشِّعر من لم يكن في داخله " صراع نفساني" . فالمعاناة هي التي تولّدِ الشِّعر.

ولا يؤمن نعيمة بالعفوية في الأدب. فالكتابة عملٌ يتطلّب الكثير من الوقت والدقّة والعناية ولكن فيها "لذّة لا تفوقها لذّة" . فيصرّحِ جازماً  " اًلعفوية شيء لا وجود له في الكلمة المكتوبة". ويضيف شارحًا أن عملية الكتابة عملية لا علاقة لها بحالة اللاوعي: "المفروض في المتكلّمِ أن يعرف أن لكل كلمة معنى وأن يختار الكلمات التي تؤدي المعاني.  وهذا الاختيار هو عملية واعية".

أنواع الأدب النُعَيميّ

ابتدأت رحلة نعيمة الطويلة مع الأدب من بوابة الشِّعر. وأول قصيدة له نظمها في روسيا بالّلغة الروسيّة وهي قصيدة " النهر المتجمّ " ثم دِ ترجمها بنفسه إلى العربيّة .

ويتميّز شعره بالإيقاع الجميل والنغم السّاحر.  ولن نبالغ إذا قلنا أن بعض قصائده قطع موسيقيّة تطرَب لها الأذن قبل أن يدرك معناها العقل.  ففي قصيدة " أوراق الخريف "  يقول  الشّاعر

تناثري تناثري

يا بهجة النظر

 

يا مَرقصَ الشمس ويا

أرجوحة القمر

 

يا أرغُن الليل ويا

قيثارة السّحَر

 

يا رمز فكرٍ حائرِ

ورسم روح ثائر

 

يا ذكر مجدٍ غابِر

قد عافك الشَّجر

 

تناثري ! تناثري!

 

لقد استطاع الشّاعِر أن يحاكي الأذن أوّلاً، والنظر ثانيًا فيُخيّل للسامع أو للقارئ أن نعيمة ينقلنا إلى عالمٍ من  " البهجة" والسرور والرقص والفرح، ولكن سُرعان ما نلاحظ أنّه يعبّرِ عن الحيرة  "فكر حائرِ" والثورة التي في داخِلِه " روحٍ ثائر"  والندم على مجدٍ قد مَضى"  مجدٍ غابرِ ". لقد طبّقَ نعيمة في شعرِه نظريّته حول الأدب وغايته ومعناه، وهو القائل: "والأدب، مهما جَمُل، لا معنى له إلاّ على قدر ما يكشف معنى الحياة الذي هو أثبَت من الأرض وأبقى من السّماء".

ثمّ طلّقَ نعيمة الشِّعر لأنّهَ أراد معالجة مواضيع لا يمكن أن تُحصَر في قوالب شعريّة.  ولكنّه، وبِخاصةٍ عندما يصف الطبيعة، كتب أجمل وأروع صفحات النثر الشعريّ.  فيقول في  " سبعون " واصِفًا مشاعره وعواطفه تجاه المرأة: " أيّها الحبّ ! أنت البداية التي منها كلّ بداية، والنهاية التي إليها كلّ نهاية.  بك تتماسَك الأقمار والشموس والمجرّات، وحولك تدور.  منك تنبع الحياة، ومن الحياة الجمال ومن الجمال الحق.  سلطانك هو السلطان، وقضاؤك هو القضاء، وعدلك هو العدل. أنت السّحِر وأنت الساّحر.  أنت الخالق وأنت الخليقة.  أنت الكلّ في الكلّ. فالمجد لك ! "

وفي كتاب "البيادر " وتحت عنوان " العاصفة " نقرأ  أجمل الاستعارات المبتكرة التي جعلت من المقالة قصيدة نثريّة عَبَّر فيها نعيمة عن إيمانه بالله من خلال مخلوقاتِه: " وشربنا الماءَ قِراحًا من عيون الأرض الحنون "، " فصفّقَ لنا الحَور والصفصاف والزيزفون...ورَنا إلينا الخوخ بعيونِه السود"(...)"والريح في ثورة وجنون، والبَرْد ينهش جِلد الجِلد، والرعد في غضبة الموتور والبَرَدُ كأنه وابلٌ من الرصاص... "

"فالعاصفة ما انفكَّت تدور حول بيتي وتدور، نافخةً بأبواق الجنّ والعفاريت، صافرةً صفيرَ الهاويات السفلى، معولة عويل الثكالى، عاوية عواء الذئاب، زائرةً زئير الأسود، صاخبةً ناقمة، مولولة".

ومن أهم مؤلّفات نعيمة النثريّة وأقربها إلى نفوس القراء، سيرته الذاتية في كتاب  " سبعون " ولا يعرف الأدب العربي كاتبًا استطاع أن يُقدّمِ ذاته إلى القراء بالأسلوب الذي اعتمده نعيمة ف " سبعون " " مغامرَة "   أدبيَةّ جريئة أقدم عليها الكاتب بتواضع كبير، فبينما أعلنَ جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، مقدّمِاً لكتابهِ " الاعترافات " ، متحدّيِاً ومؤكِّدًا ،  بأنه سيقول كل الحقيقة، وبأنّه سيُعرّي نفسه أمام قرائه دونما زيادة أو نقصان، أوضح نعيمة: " إنّك خادع ومخدوع كلّمَا حاولت أن تحكي لنفسك أو للناس حكاية ساعة واحدة من ساعات عمرك.  لأنّك لن تحكي منها إلاّ بعض بعضها".

أما الهدف الأسمى والأهم من كتابة السيرة الذاتية بالنسبة له فهو أنّه عندما يحكي عن نفسه يحكي عن الآخر.  وهنا يلتقي نعيمة مع ڤيكتور هوغو الذي قال: " عندما أحدّثك عن نفسي أحدّثِك عن نفسك ". ويقول نعيمة "... مهما يكن شأني اليوم أو غدًا في دنيا الفكر والقلم، ما برِحتُ واحدًا من الناس، تنعكس حياتي في حياتهم، وحياتهم في حياتي ".

وهذا ما يفسّرِ المتعة واللذة والإفادة التي نجدها في مطالعة سيرته الذاتية.  فضلاً عن أنّ نعيمة كاتبٌ، محلِّلٌ وشاهدٌ على عصره.  وقد حاول وصف الأحداث والتيارات والانقلابات التي شهدها في " دنيا السياسة والاقتصاد والاجتماع ". لكنّ هدفه من ذلك لم يكن كتابة التاريخ بل مدى " تأثيرها في مجاري الحياة البشريّة ".

ويُعلن هدفه بوضوح وهو الهدف الذي سعى إلى تحقيقه في كلِّ مؤلّفَاته: " فهَمّي من الإنسان لا ينحصر في ما يُشيد ويَهدم، أو في ما يخترع ويكتشف، أو في ما ينتج ويستهلك، إلا على قدر ما يساعده ذلك في تحقيق هدفه من وجوده – ذلك الهدف الذي يتجاوز أقصى ما  يتعطّشَ إليه الآن من الجمال والمعرفة والحرية والخلود".

بالإضافة إلى الشِّعر والسيرة الذاتية طَرَق نعيمة أبواب الأنواع الأدبيّة كافة.  وقد اشتهر بالنقد الأدبيّ وله في هذا المجال كتابان " الغربال  " و " الغربال الجديد ". أما الهدف من النقد فكان بالنسبة إليه تنقية اللّغة من الألفاظ البالية، وبثّ روح جديدة في الأدب: " فالاستعباد للقاموس، أو التعبّدُ له، ضربٌ من الخنوع الفكريّ، والعقم الروحيّ، والكفر بالحياة وطاقاتها العجيبة على التوليد والتجديد إلى ما لا نهاية له". كما حاول نعيمة أن " يغربل " من أجل أدب أفضل يكون محوره الإنسان، فكان قاسيًا أحيانًا في حُكمِه، ولكنّه كان دائمًا صادقًا.  وقد دلّ الكثيرين من الشعراء والكتّاب على طريق النجاح. والنقد بالنسبة له "...خلقٌ وإبداع وليس مجرّد استحسان أو استهجان". والنقد  " ليس للتشفّي ولا للتبخير، بل للتمحيص والتحليل ". وقد اعترف بفضلِه العديد من الكتاب ونذكِّر بما قاله الأستاذ رشيد أيوب: " أشهدُ من على السطوح بأن ميخائيل نعيمة هو الذي علّمنا الشّعر ".

كَتَب نعيمة القصّة وقد لاقت مؤلّفاته في هذا المجال رواجًا وشهرة كبيرَين، وبِخاصة كِتاب " كان ما كان".

وهو مجموعة قصص قصيرة تسهَل مطالعتها ويجد القارئ في أبطالِها اناسًا يشبهونه ويعانون معاناته.  وفي كلّ قصة يجد القارئ أمثولة أو مغزى لحياته.  ويُعتبر نعيمة رائدًا ومجدّدِا ومبتكرًا على صعيد الأسلوب القصصي.

أحبّ المسرح وقال في مقدمّة الطبعة الأولى لمسرحيّته  الآباء والبنون ": "...ففي المسرح تجد نفسه الجائعة، المثقلة بأتعاب العمل وهموم الحياة، راحةً وتعزيةً وقوتًا ". وتمنّى منذ سنة 1917: "إذا شئنا أن نرفع آدابنا من المستنقعات التي تتمرّغ فيها الآن فعلينا أن نسعى منذ اليوم لوضع أسس متينة للمسرح العربي وذلك بتربية أذواقنا التمثيليّة، وتعزيز الرواية الوطنيّة".

ويبدو أن النوع الأدبي الذي فضّله نعيمة، ووجد فيه قالبًا مناسبًا للتعبير عن أفكاره وإيصال رسالته إلى القرّاء، هو المقالة. وقد وصل إلى ذروة الإبداع في مقالاته إذ استطاع ان يوضِح آراءه مباشرةً، من دون اللجوء إلى الرمز أو الايحاء. كما ألقى عددًا كبيرًا من الخطب في لبنان وخارجه. وفي كل مناسبة كانت خطبته تلاقي تجاوبًا لدى المستمعين، إذ تميّزت بالبلاغة والوضوح والقدرة على الإقناع.

أبرز المواضيع التي عالجها نعيمة

يقول نعيمة في مقدّمِة مسرحيّة " الآباء والبنون " "...الحياة والأدب توأمان لا ينفصلان، وأن الأدب يتوكأ على الحياة، والحياة على الأدب، وأنّه - وأعني الأدب – واسعٌ  كالحياة، عميقٌ كأسرارها، وهو ينعكس فيها وتنعكس فيه".

وفي مقالة أخرى أدرَجَها الكاتب في "الغربال" يؤكِّد: " إنما الكاتب قلبٌ يخبّر، وعقلٌ يفكِّر، وقلمٌ يسطّر".

وإنطلاقًا من مفهومه للأدب عالج المواضيع التي لها صِلة وطيدة بحياة الإنسان.  فتألّمَ مع المتألّمِين، وغضب وثارَ مع الغاضبين والثائرين، فرح مع الفرحين، وعبّرَ عن حنينه إلى الوطن الأم مع المغتربين.  صَرَخ بوجه الظالمين المستعبدين، وبّخَ الفاسدين والطامعين، بارك عَمَل الفلاّحين والكادِحين، أنذَر الحكّام الطُغاة المستَغلّين.  خاطب المرأة الأم والمرأة الحبيبة. وقد أحبّ في المرأة بساطتها وعفويّتها: " فلم يكن يستهويني في المرأة مثل العفويّة في الكلام والتصرّف والحركة ". وقد أراد أن يرفع المرأة بحبّه وأن يرتفع بحبّها. ثار على الشِّعر التقليدي الجامد وعلى " المدّاحين " الذين   يستغلّون أقلامهم للارتزاق وعلى الفنّانين الذين يحاولون كسب المال، فَخيرٌ لهم لو " عقّمَوا قرائحهم " .

رفض التقاليد البالية والتصنّع والتزلّف ولم يقبل الانحناء أمام مسؤول كبير مهما علا شأنُه فكانت حياته مثالاً وقدوةً للكرامة والعزّة والعنفوان .

من جهة أخرى كان نعيمة يراقب الاحداث التي تجري على الساحة العالميّة، فيصِفها بدقّة متناهية معلّلِاً، مستخلصًا النتائج والعِبَر والرؤى المستقبليّة حول مصير الانسان والعالم. ومن أبرز وأهم توقّعاته، ما يختص بموضوع الآلة أو " الماكِنة " أو المدنيّة.  وقد رأى أنّها ستكون سبب تعاسة  الإنسان وشقائه وأن الحلّ هو بالعَودة إلى الطبيعة وبالتعاون بين الناس وبالمحبة.  فيؤكِّد في كتابه: " النور والديجور" : " أما الأمر الذي لا يختلف فيه عاقِلان فهو أن المدنيّةَ الحاضرة ما أدركت بعد ولا هدفًا من أهداف الإنسان. فهي ما أخرجتنا من ظلمة حتى أوقعتنا في ظلمات، ولا  حرّرتنا من وهم حتى كبّلتنا بأوهام، ولا فتحت لنا بابًا حتى أقفلت في وجهنا أبوابًا.  وفي " سبعون " يقول: " إنها نكبة مدنيّة رأسها في جيبها، وقلبُها في معمَلِها (...)ويلٌ للإنسان يخترع الآلات لتكثير خيرات الارض.  وإذ تكثرُ خيراتُه تكثر غَصّاتُه". أما بشأن موضوع الحرب والسلام فقد توقّع نعيمة أن تجتاح العالم موجة من العنف لا يمكن القضاء عليها إلا بالمحبّةَ: "أحْبِب تَرَ ما لا يُرى، أنِر وسِرْ أنّىَ تشاء " .

فمخائيل نعيمة شاهدٌ على الويلات التي سببّتها الحرب العالمية الأولى ثمّ الثانية. فوصف بشاعتها وحذّر بنبرة عاليه مسبّبِيها محُمّلِاً إياهم مسؤولية ما يجري من قتل وتشريدٍ وخراب ودمار: "...إن الذي يزهو بعقله يغدو في الحرب بدون عقل. فهو يشوَّه الصحيح ثمّ يعود فيحاول تصحيح ما شوّه.  وهو يقتل الحيّ ليعود فيندب الحيّ.  وهو يُدمّرِ ما بناه ليعود فيرمّمِ الذي دمرَّه".

ونعيمة من مناصِري غاندي ومن دُعاة ثورة اللاّعنف: "إذا أردت الحرب فاستعدّ للحرب وإذا أردت السّلِم فاستعد للسّلِم".

وما يعنينا مباشرة من آراء أديبنا الكبير ما قاله في موضوع التربية والمدرسة والمناهج المدرسيّة.  فهو من مُحبذي الأشغال اليدويّة في المدرسة: " وإنها لجريمة نكراء من جرائم هذا العصر الأعمى أن تكثُر مدارسه وأن يَقلَّ فيه الخالِقون.  فكم من طالبٍ ما لمست يده المعول أو المنجل، ولا هي تستطيع أن تدقّ مسمارًا في حائط، أو أن تُدخِل خَيطًا في ثقب إبرة ! (...) إي، إنها لجريمة أن يحيا الطالب في مدرسته حياة بينها وبين الحياة خارج المدرسة هوّة سحيقة". وقد أوضح رأيه بالمدرسة والهدف من التعليم في خطبة عنوانها: "المعرفة والمدرسة" في كتاب" زاد المعاد" وممّا جاء في هذه الخطبة:

إن المعرفة التي أكلّمَكم عنها لا تنال في مدرسة أو مدارس (...). المعرفة كالله في كل مكان (...) كما أنّه من الجهل أن ندّعي للمدرسة ما هو أوسع من نطاقها (...) إنه لَمِن الحَيف أن نطلب المعرفة من المدرسة وحدها.  فنراها بحرًا يغرف منه الطلاب (...) ونراها ساحرة تقوّمِ كل ما فيهم من اعوجاج، وتُصلِح كل ما فيهم من فساد، وتبدّل كلّ ظلماتهم أنوارًا" (...) لا تطلبوا من المدرسة أكثر مما في وسعها أن تعطيكم".

أما بالنسبة إلى الفلسفة فقد آمن نعيمة بالنظام الكلّيّ السَرمرديّ الكامِل، وبأنّ الإنسان ابن العالم وأخ لجميع الناس وبأنّ خلاصَه يكون من طريق معرفته لنفسه فيؤكّد: " من غَلبَ نفسه غَلبَ العالَم ". وكانت له نزعةٌ صوفيّةَ فينصَح بالتأمّل والروحانيّة وبساطة العيش والعودة إلى الطبيعة والابتعاد عن الأنانيّة. وما تنسّكه في "الشخروب"  إلاّ للانفصال عن الناس من أجل الاتصال بهم والاقتراب منهم أكثر فأكثر.  مؤمنٌ بالإنسان وبطيبَته وقدرته على تخطي الصّعاب: " إن السفينة تجري حتى لو عاكستها الرياح ".

و "مرداد "هو الكتاب الذي يتضمّنَ خلاصة الفِكر الفلسفيّ  "النعيميّ " . و "مرداد" هو طالب الحقيقة من أجل الحقيقة، ولا يمكنه الوصول إليها إلا بالتجرّد عن الملذّات الأرضيّةَ ليتمكّن من السّير بحرّية والاتّحاد بالذات الأزليّة الشّاملة الأبديّةَ.

إذا كان للبنان أن يفاخِر بمفكِّرته وأدبائه فنقول لمخائيل نعيمة بأنّنا نعتزّ بك أديبًا ومفكِّرًا ومرشِدًا. كنت صاحب رسالة سامية. فنذرت عمرك لها. تعبّدت للكلمة وعِشقتها فتعِب القلَم وما تعِبت. تركت لنا زادًا كافيًا يُشبع العقل والقلب والروح.

رسالتك وصَلت.  ونعاهدك بأنّنا سنهتدي بهَديك ونستنير بفكرِك وسنحبّ لبنان كما أحببته، وسنحافظ على طبيعته الخلاّبة مُردّدِين معك أناشيد الحبّ التي أنشدتها للتلال والوديان، للجبال والسهول، للبيادر والحقول، للعصافير والأشجار، للأزهار والينابيع، للتراب والصخور.

ميخائيل نعيمة. أديبُنا الكبير. من "المجلّة التربويّةَ" إليكَ ألف تحيّة وتحيّة ! .

المقدمة

    أضواء على أدَب وفِكر ميخائيل نعيمة

الكلمة المبدِعَة

لا بدّ لنَا في مقدّمِة هذا العدد من أن ندكِّر بإيمان الأديب الكبير ميخائيل نعيمة بقوّة الكلمة وسِحرِها وتأثيرها في مجرَيات الأحداث وقدرتها على التغيير والتجديد في مسائل الحياة كافة. فقيمة الكلمة تفوق كل قيمة. ويؤكِّد نعيمة ذلك في كتابه "من وحي المسيح" :"لقد ألِفنا الكلام نطقًا وسمعًا إلى حدّ نسينا معه أن الكلمة هي أعجب عجيبة في حياتنا على الإطلاق".

ويضيف: " فنحن، على غير علمٍ منّا، نخلق أنفسنا باستمرار ونخلق العوالم التي نعيش فيها، وذلك بقوّة الكلمة".

فإنطلاقًا من هذا الإيمان تحدّثَ نعيمة في مقالات عديدة وفي مذكّراته  "سبعون "عن موضوع اللّغة وضرورة تجديدها وتنقيته: " فالكلمة أو ال Logos هي أوّل مظهرٍ من مظاهر الفكر.  هي الإرادة المتجسّمِة. هي قول الفكر" كن ! ". هي بدء الخليقة.  لذا يدعو في مقالته  " نقيق الضفادع " إلى تهذيبها وتنسيقها : " لكن حرصنا على اللّغة يجب أن لا ينسينا القصد من اللّغة.  فجميلٌ بنا أن نصرف همّنا إلى تهذيبها وتنسيقها لنُكسِبها دقّة ورقّة".

وفي حديث له مع الصحافة يجيب مؤكِّدًا " الكلمة قوة هائلة ولكن في يد الذين يقدّسونها فلا يستعملونها إلا للخيروالهداية. ومن المؤسف أن لا يكون تأثير الكلمة واحدًا في جميع الناس ".

هائلة ولكن في يد الذين يقدّسونها فلا يستعملونها إلا للخير

وفي الفصل الأخير من مذكّراته يعبّرِ نعيمة عن حبهّ للكلمة فيخاطبها ويجري حوار بينهما يمكن اعتباره من أجمل صفحات كتاب " سبعون " :

" أيتها الكلمة !

علّمتني النطق فنطقت.

وعلّمتني الكتابة فكتبت.

وكان ما نطقت به عوالم من السّحر والسرّ(...)

متى أفهمك أيتها الكلمة التي تعنى كلّ ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وبيني وبينك من وشائج القربى ما ليس مثله بين أمّ وطفلها، أو بين عابدٍ ومعبوده؟"(...)

وتجيبه الكلمة شارحةً له أهميّةَ ومسؤوليّةَ الأديب " في الكلمة يا ابني سرّ عظمتك وحقارتك.  وسرّ هنائك وشقائك. إذا أنت امتهنتها امتهنتك.  وإذا أنت قدّستها قدّستك.(...)

"أنا الكلمة.  من جمّلني جمّلته.  ومن قبّحني قبّحته.  ومن امتهنني امتهنته. ومن قدّسَني قدّسته".

ميخائيل نعيمة: كيف يفهم الأدب؟

في اعتقاد ميخائيل نعيمة أن الأدب موهبة ولكن على الإنسان ان يصقلها وينميها بالمطالعة : "إلا أن الأدباء يَخلقون ولا يُصنعون". ويضيف في مقالته " مجد القلم ": "من كان معَدّاً للأدب ليس بحاجة إلى من يدلّه على طريقه.  ففي داخله ومن خارجه حوافز لا تتركه يستريح حتى يتمّ التزاوج ما بين عقله وقلبه وذوقه وبين القلم والمِداد  والقرطاس".

ويرى نعيمة أن الغاية من الأدب هي "درس الإنسان وحياته والغاية من وجوده". ثمّ حدّدَ الشِّعر معتبرًا أنه "منفذ لما يجول في نفس الشّاعر من تأمّلات وأحاسيس يعبّر عنها تعبيرًا يُفرِغ فيه هذه الأمور كلّها في قوالب تؤدي إلى القارئ في صورة صادقة عمّا يجول في نفس الشّاعر. وهذه القوالب لا بدّ لها أن تتّصف باللطافة في الإيقاع والحركة واللون ليكون لها الأثر المرغوب في نفس القارئ أو السامع. وليس من الضروري أن يتّبَع الشّاعر في شعره نَمطًا له حدود كالأوزان والقوافي بل المهم أن يفعل كلامه في نفس القارئ فعل الموسقى الموقّعة أحسن توقيع والحركة المنسجمة أحلى انسجام والصورة المؤتلفة الألوان والظلال". كما لا يمكن أن يكتب الشِّعر من لم يكن في داخله " صراع نفساني" . فالمعاناة هي التي تولّدِ الشِّعر.

ولا يؤمن نعيمة بالعفوية في الأدب. فالكتابة عملٌ يتطلّب الكثير من الوقت والدقّة والعناية ولكن فيها "لذّة لا تفوقها لذّة" . فيصرّحِ جازماً  " اًلعفوية شيء لا وجود له في الكلمة المكتوبة". ويضيف شارحًا أن عملية الكتابة عملية لا علاقة لها بحالة اللاوعي: "المفروض في المتكلّمِ أن يعرف أن لكل كلمة معنى وأن يختار الكلمات التي تؤدي المعاني.  وهذا الاختيار هو عملية واعية".

أنواع الأدب النُعَيميّ

ابتدأت رحلة نعيمة الطويلة مع الأدب من بوابة الشِّعر. وأول قصيدة له نظمها في روسيا بالّلغة الروسيّة وهي قصيدة " النهر المتجمّ " ثم دِ ترجمها بنفسه إلى العربيّة .

ويتميّز شعره بالإيقاع الجميل والنغم السّاحر.  ولن نبالغ إذا قلنا أن بعض قصائده قطع موسيقيّة تطرَب لها الأذن قبل أن يدرك معناها العقل.  ففي قصيدة " أوراق الخريف "  يقول  الشّاعر

تناثري تناثري

يا بهجة النظر

 

يا مَرقصَ الشمس ويا

أرجوحة القمر

 

يا أرغُن الليل ويا

قيثارة السّحَر

 

يا رمز فكرٍ حائرِ

ورسم روح ثائر

 

يا ذكر مجدٍ غابِر

قد عافك الشَّجر

 

تناثري ! تناثري!

 

لقد استطاع الشّاعِر أن يحاكي الأذن أوّلاً، والنظر ثانيًا فيُخيّل للسامع أو للقارئ أن نعيمة ينقلنا إلى عالمٍ من  " البهجة" والسرور والرقص والفرح، ولكن سُرعان ما نلاحظ أنّه يعبّرِ عن الحيرة  "فكر حائرِ" والثورة التي في داخِلِه " روحٍ ثائر"  والندم على مجدٍ قد مَضى"  مجدٍ غابرِ ". لقد طبّقَ نعيمة في شعرِه نظريّته حول الأدب وغايته ومعناه، وهو القائل: "والأدب، مهما جَمُل، لا معنى له إلاّ على قدر ما يكشف معنى الحياة الذي هو أثبَت من الأرض وأبقى من السّماء".

ثمّ طلّقَ نعيمة الشِّعر لأنّهَ أراد معالجة مواضيع لا يمكن أن تُحصَر في قوالب شعريّة.  ولكنّه، وبِخاصةٍ عندما يصف الطبيعة، كتب أجمل وأروع صفحات النثر الشعريّ.  فيقول في  " سبعون " واصِفًا مشاعره وعواطفه تجاه المرأة: " أيّها الحبّ ! أنت البداية التي منها كلّ بداية، والنهاية التي إليها كلّ نهاية.  بك تتماسَك الأقمار والشموس والمجرّات، وحولك تدور.  منك تنبع الحياة، ومن الحياة الجمال ومن الجمال الحق.  سلطانك هو السلطان، وقضاؤك هو القضاء، وعدلك هو العدل. أنت السّحِر وأنت الساّحر.  أنت الخالق وأنت الخليقة.  أنت الكلّ في الكلّ. فالمجد لك ! "

وفي كتاب "البيادر " وتحت عنوان " العاصفة " نقرأ  أجمل الاستعارات المبتكرة التي جعلت من المقالة قصيدة نثريّة عَبَّر فيها نعيمة عن إيمانه بالله من خلال مخلوقاتِه: " وشربنا الماءَ قِراحًا من عيون الأرض الحنون "، " فصفّقَ لنا الحَور والصفصاف والزيزفون...ورَنا إلينا الخوخ بعيونِه السود"(...)"والريح في ثورة وجنون، والبَرْد ينهش جِلد الجِلد، والرعد في غضبة الموتور والبَرَدُ كأنه وابلٌ من الرصاص... "

"فالعاصفة ما انفكَّت تدور حول بيتي وتدور، نافخةً بأبواق الجنّ والعفاريت، صافرةً صفيرَ الهاويات السفلى، معولة عويل الثكالى، عاوية عواء الذئاب، زائرةً زئير الأسود، صاخبةً ناقمة، مولولة".

ومن أهم مؤلّفات نعيمة النثريّة وأقربها إلى نفوس القراء، سيرته الذاتية في كتاب  " سبعون " ولا يعرف الأدب العربي كاتبًا استطاع أن يُقدّمِ ذاته إلى القراء بالأسلوب الذي اعتمده نعيمة ف " سبعون " " مغامرَة "   أدبيَةّ جريئة أقدم عليها الكاتب بتواضع كبير، فبينما أعلنَ جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، مقدّمِاً لكتابهِ " الاعترافات " ، متحدّيِاً ومؤكِّدًا ،  بأنه سيقول كل الحقيقة، وبأنّه سيُعرّي نفسه أمام قرائه دونما زيادة أو نقصان، أوضح نعيمة: " إنّك خادع ومخدوع كلّمَا حاولت أن تحكي لنفسك أو للناس حكاية ساعة واحدة من ساعات عمرك.  لأنّك لن تحكي منها إلاّ بعض بعضها".

أما الهدف الأسمى والأهم من كتابة السيرة الذاتية بالنسبة له فهو أنّه عندما يحكي عن نفسه يحكي عن الآخر.  وهنا يلتقي نعيمة مع ڤيكتور هوغو الذي قال: " عندما أحدّثك عن نفسي أحدّثِك عن نفسك ". ويقول نعيمة "... مهما يكن شأني اليوم أو غدًا في دنيا الفكر والقلم، ما برِحتُ واحدًا من الناس، تنعكس حياتي في حياتهم، وحياتهم في حياتي ".

وهذا ما يفسّرِ المتعة واللذة والإفادة التي نجدها في مطالعة سيرته الذاتية.  فضلاً عن أنّ نعيمة كاتبٌ، محلِّلٌ وشاهدٌ على عصره.  وقد حاول وصف الأحداث والتيارات والانقلابات التي شهدها في " دنيا السياسة والاقتصاد والاجتماع ". لكنّ هدفه من ذلك لم يكن كتابة التاريخ بل مدى " تأثيرها في مجاري الحياة البشريّة ".

ويُعلن هدفه بوضوح وهو الهدف الذي سعى إلى تحقيقه في كلِّ مؤلّفَاته: " فهَمّي من الإنسان لا ينحصر في ما يُشيد ويَهدم، أو في ما يخترع ويكتشف، أو في ما ينتج ويستهلك، إلا على قدر ما يساعده ذلك في تحقيق هدفه من وجوده – ذلك الهدف الذي يتجاوز أقصى ما  يتعطّشَ إليه الآن من الجمال والمعرفة والحرية والخلود".

بالإضافة إلى الشِّعر والسيرة الذاتية طَرَق نعيمة أبواب الأنواع الأدبيّة كافة.  وقد اشتهر بالنقد الأدبيّ وله في هذا المجال كتابان " الغربال  " و " الغربال الجديد ". أما الهدف من النقد فكان بالنسبة إليه تنقية اللّغة من الألفاظ البالية، وبثّ روح جديدة في الأدب: " فالاستعباد للقاموس، أو التعبّدُ له، ضربٌ من الخنوع الفكريّ، والعقم الروحيّ، والكفر بالحياة وطاقاتها العجيبة على التوليد والتجديد إلى ما لا نهاية له". كما حاول نعيمة أن " يغربل " من أجل أدب أفضل يكون محوره الإنسان، فكان قاسيًا أحيانًا في حُكمِه، ولكنّه كان دائمًا صادقًا.  وقد دلّ الكثيرين من الشعراء والكتّاب على طريق النجاح. والنقد بالنسبة له "...خلقٌ وإبداع وليس مجرّد استحسان أو استهجان". والنقد  " ليس للتشفّي ولا للتبخير، بل للتمحيص والتحليل ". وقد اعترف بفضلِه العديد من الكتاب ونذكِّر بما قاله الأستاذ رشيد أيوب: " أشهدُ من على السطوح بأن ميخائيل نعيمة هو الذي علّمنا الشّعر ".

كَتَب نعيمة القصّة وقد لاقت مؤلّفاته في هذا المجال رواجًا وشهرة كبيرَين، وبِخاصة كِتاب " كان ما كان".

وهو مجموعة قصص قصيرة تسهَل مطالعتها ويجد القارئ في أبطالِها اناسًا يشبهونه ويعانون معاناته.  وفي كلّ قصة يجد القارئ أمثولة أو مغزى لحياته.  ويُعتبر نعيمة رائدًا ومجدّدِا ومبتكرًا على صعيد الأسلوب القصصي.

أحبّ المسرح وقال في مقدمّة الطبعة الأولى لمسرحيّته  الآباء والبنون ": "...ففي المسرح تجد نفسه الجائعة، المثقلة بأتعاب العمل وهموم الحياة، راحةً وتعزيةً وقوتًا ". وتمنّى منذ سنة 1917: "إذا شئنا أن نرفع آدابنا من المستنقعات التي تتمرّغ فيها الآن فعلينا أن نسعى منذ اليوم لوضع أسس متينة للمسرح العربي وذلك بتربية أذواقنا التمثيليّة، وتعزيز الرواية الوطنيّة".

ويبدو أن النوع الأدبي الذي فضّله نعيمة، ووجد فيه قالبًا مناسبًا للتعبير عن أفكاره وإيصال رسالته إلى القرّاء، هو المقالة. وقد وصل إلى ذروة الإبداع في مقالاته إذ استطاع ان يوضِح آراءه مباشرةً، من دون اللجوء إلى الرمز أو الايحاء. كما ألقى عددًا كبيرًا من الخطب في لبنان وخارجه. وفي كل مناسبة كانت خطبته تلاقي تجاوبًا لدى المستمعين، إذ تميّزت بالبلاغة والوضوح والقدرة على الإقناع.

أبرز المواضيع التي عالجها نعيمة

يقول نعيمة في مقدّمِة مسرحيّة " الآباء والبنون " "...الحياة والأدب توأمان لا ينفصلان، وأن الأدب يتوكأ على الحياة، والحياة على الأدب، وأنّه - وأعني الأدب – واسعٌ  كالحياة، عميقٌ كأسرارها، وهو ينعكس فيها وتنعكس فيه".

وفي مقالة أخرى أدرَجَها الكاتب في "الغربال" يؤكِّد: " إنما الكاتب قلبٌ يخبّر، وعقلٌ يفكِّر، وقلمٌ يسطّر".

وإنطلاقًا من مفهومه للأدب عالج المواضيع التي لها صِلة وطيدة بحياة الإنسان.  فتألّمَ مع المتألّمِين، وغضب وثارَ مع الغاضبين والثائرين، فرح مع الفرحين، وعبّرَ عن حنينه إلى الوطن الأم مع المغتربين.  صَرَخ بوجه الظالمين المستعبدين، وبّخَ الفاسدين والطامعين، بارك عَمَل الفلاّحين والكادِحين، أنذَر الحكّام الطُغاة المستَغلّين.  خاطب المرأة الأم والمرأة الحبيبة. وقد أحبّ في المرأة بساطتها وعفويّتها: " فلم يكن يستهويني في المرأة مثل العفويّة في الكلام والتصرّف والحركة ". وقد أراد أن يرفع المرأة بحبّه وأن يرتفع بحبّها. ثار على الشِّعر التقليدي الجامد وعلى " المدّاحين " الذين   يستغلّون أقلامهم للارتزاق وعلى الفنّانين الذين يحاولون كسب المال، فَخيرٌ لهم لو " عقّمَوا قرائحهم " .

رفض التقاليد البالية والتصنّع والتزلّف ولم يقبل الانحناء أمام مسؤول كبير مهما علا شأنُه فكانت حياته مثالاً وقدوةً للكرامة والعزّة والعنفوان .

من جهة أخرى كان نعيمة يراقب الاحداث التي تجري على الساحة العالميّة، فيصِفها بدقّة متناهية معلّلِاً، مستخلصًا النتائج والعِبَر والرؤى المستقبليّة حول مصير الانسان والعالم. ومن أبرز وأهم توقّعاته، ما يختص بموضوع الآلة أو " الماكِنة " أو المدنيّة.  وقد رأى أنّها ستكون سبب تعاسة  الإنسان وشقائه وأن الحلّ هو بالعَودة إلى الطبيعة وبالتعاون بين الناس وبالمحبة.  فيؤكِّد في كتابه: " النور والديجور" : " أما الأمر الذي لا يختلف فيه عاقِلان فهو أن المدنيّةَ الحاضرة ما أدركت بعد ولا هدفًا من أهداف الإنسان. فهي ما أخرجتنا من ظلمة حتى أوقعتنا في ظلمات، ولا  حرّرتنا من وهم حتى كبّلتنا بأوهام، ولا فتحت لنا بابًا حتى أقفلت في وجهنا أبوابًا.  وفي " سبعون " يقول: " إنها نكبة مدنيّة رأسها في جيبها، وقلبُها في معمَلِها (...)ويلٌ للإنسان يخترع الآلات لتكثير خيرات الارض.  وإذ تكثرُ خيراتُه تكثر غَصّاتُه". أما بشأن موضوع الحرب والسلام فقد توقّع نعيمة أن تجتاح العالم موجة من العنف لا يمكن القضاء عليها إلا بالمحبّةَ: "أحْبِب تَرَ ما لا يُرى، أنِر وسِرْ أنّىَ تشاء " .

فمخائيل نعيمة شاهدٌ على الويلات التي سببّتها الحرب العالمية الأولى ثمّ الثانية. فوصف بشاعتها وحذّر بنبرة عاليه مسبّبِيها محُمّلِاً إياهم مسؤولية ما يجري من قتل وتشريدٍ وخراب ودمار: "...إن الذي يزهو بعقله يغدو في الحرب بدون عقل. فهو يشوَّه الصحيح ثمّ يعود فيحاول تصحيح ما شوّه.  وهو يقتل الحيّ ليعود فيندب الحيّ.  وهو يُدمّرِ ما بناه ليعود فيرمّمِ الذي دمرَّه".

ونعيمة من مناصِري غاندي ومن دُعاة ثورة اللاّعنف: "إذا أردت الحرب فاستعدّ للحرب وإذا أردت السّلِم فاستعد للسّلِم".

وما يعنينا مباشرة من آراء أديبنا الكبير ما قاله في موضوع التربية والمدرسة والمناهج المدرسيّة.  فهو من مُحبذي الأشغال اليدويّة في المدرسة: " وإنها لجريمة نكراء من جرائم هذا العصر الأعمى أن تكثُر مدارسه وأن يَقلَّ فيه الخالِقون.  فكم من طالبٍ ما لمست يده المعول أو المنجل، ولا هي تستطيع أن تدقّ مسمارًا في حائط، أو أن تُدخِل خَيطًا في ثقب إبرة ! (...) إي، إنها لجريمة أن يحيا الطالب في مدرسته حياة بينها وبين الحياة خارج المدرسة هوّة سحيقة". وقد أوضح رأيه بالمدرسة والهدف من التعليم في خطبة عنوانها: "المعرفة والمدرسة" في كتاب" زاد المعاد" وممّا جاء في هذه الخطبة:

إن المعرفة التي أكلّمَكم عنها لا تنال في مدرسة أو مدارس (...). المعرفة كالله في كل مكان (...) كما أنّه من الجهل أن ندّعي للمدرسة ما هو أوسع من نطاقها (...) إنه لَمِن الحَيف أن نطلب المعرفة من المدرسة وحدها.  فنراها بحرًا يغرف منه الطلاب (...) ونراها ساحرة تقوّمِ كل ما فيهم من اعوجاج، وتُصلِح كل ما فيهم من فساد، وتبدّل كلّ ظلماتهم أنوارًا" (...) لا تطلبوا من المدرسة أكثر مما في وسعها أن تعطيكم".

أما بالنسبة إلى الفلسفة فقد آمن نعيمة بالنظام الكلّيّ السَرمرديّ الكامِل، وبأنّ الإنسان ابن العالم وأخ لجميع الناس وبأنّ خلاصَه يكون من طريق معرفته لنفسه فيؤكّد: " من غَلبَ نفسه غَلبَ العالَم ". وكانت له نزعةٌ صوفيّةَ فينصَح بالتأمّل والروحانيّة وبساطة العيش والعودة إلى الطبيعة والابتعاد عن الأنانيّة. وما تنسّكه في "الشخروب"  إلاّ للانفصال عن الناس من أجل الاتصال بهم والاقتراب منهم أكثر فأكثر.  مؤمنٌ بالإنسان وبطيبَته وقدرته على تخطي الصّعاب: " إن السفينة تجري حتى لو عاكستها الرياح ".

و "مرداد "هو الكتاب الذي يتضمّنَ خلاصة الفِكر الفلسفيّ  "النعيميّ " . و "مرداد" هو طالب الحقيقة من أجل الحقيقة، ولا يمكنه الوصول إليها إلا بالتجرّد عن الملذّات الأرضيّةَ ليتمكّن من السّير بحرّية والاتّحاد بالذات الأزليّة الشّاملة الأبديّةَ.

إذا كان للبنان أن يفاخِر بمفكِّرته وأدبائه فنقول لمخائيل نعيمة بأنّنا نعتزّ بك أديبًا ومفكِّرًا ومرشِدًا. كنت صاحب رسالة سامية. فنذرت عمرك لها. تعبّدت للكلمة وعِشقتها فتعِب القلَم وما تعِبت. تركت لنا زادًا كافيًا يُشبع العقل والقلب والروح.

رسالتك وصَلت.  ونعاهدك بأنّنا سنهتدي بهَديك ونستنير بفكرِك وسنحبّ لبنان كما أحببته، وسنحافظ على طبيعته الخلاّبة مُردّدِين معك أناشيد الحبّ التي أنشدتها للتلال والوديان، للجبال والسهول، للبيادر والحقول، للعصافير والأشجار، للأزهار والينابيع، للتراب والصخور.

ميخائيل نعيمة. أديبُنا الكبير. من "المجلّة التربويّةَ" إليكَ ألف تحيّة وتحيّة ! .