الفروقات الفردية وتأثيرها على التحصيل التعلمي

د. ليلى عاقوري ديراني علم نفس عيادي- علاج نفسيإن الكلام حول الفروقات الفردية في التعلم كلام قديم جديد. فمع بدايات القرن العشرين برزت في أوروبا عملية تعميم التعليم على جميع الفئات الاجتماعية. تغير واقع المدرسة من ناحية اقبال الناس عليها بهدف التعلم فأصبحت الصفوف تحتوي على حوالى ثلاثين تلميذا مختلفي المهارات والقدرات والسلوكيات.

بدأت الفروقات الفردية تؤثر على أداء المعلم وتتطلب منه تغييرًا جوهريًا في طرائق التعليم وراحت هذه الفروقات الطبيعية تشكل عائقًا لمسار التعلم. ولما كانت هذه الفروقات أكثر وضوحًا راح التربويون وعلماء النفس يتكلمون عن إعاقات تعلمية وعن بطء في التعلم حتى الكلام عن التخلف العقلي.  

من ناحية أخرى، وبدافع أكيد من هذا الواقع الجديد، بدا القرن العشرون وكأنه قرن الطفل. تكثفت الأبحاث العلمية ونشأت اختصاصات جديدة وازدهرت العلوم التربوية والنفسية. كما أن الأمم المتحدة بذلت ما بذلته من جهود لمكافحة الجهل والتخلف فعممت أيديولوجية إلزامية التعليم وحق الطفل بالتعلم.

ومع التطور الاقتصادي والتقني أصبحت مطالب سوق العمل أكثر دقة وباتت المنافسة الشرسة هي القاعدة الثابتة في التداول الاقتصادي ما انعكس على أهداف المؤسسات التعليمية التي تتوق لتأمين النخبة لسوق العمل كون المدرسة اليوم هي المعبر الوحيد إلى سوق العمل والى الانخراط الإيجابي في المجتمع.. أمام كل هذه التغيرات والتحديات كيف تتعامل المدرسة مع الفروقات الفردية وهل تؤثر هذه الفروقات على التحصيل التعلمي؟

لنحدد أولًا ما نعنيه بالفروقات الفردية، ومن ثم نحدد العلاقة بينها وبين التحصيل التعلمي، ثم نتوقف في مرحلة ثانية على تأثير الفروقات الفردية على المدرسة وعلى نهج التعليم.

ماذا نعني بالفروقات الفردية؟

الفروقات الفردية حتمية، ناتجة عن قواعد الحياة البيولوجية والعلائقية والاجتماعية. هناك فروقات في أنماط التطور الذهني والعاطفي والاجتماعي تتفاوت بين شخص وآخر فتجعل المتعلمين يكتسبون المعارف والمهارات بسرعات مختلفة، كما يختلف نمط النمو ضمن الشخصية الواحدة، فيظهر مثلا نضج عاطفي مبكر بالمقارنة مع النضج الذهني أو الجسدي، مما ينتج عنه تأرجح في النتاج التعلمي.

هناك أيضا فروقات بما يخص الوظائف الادراكية وتنسيق عملها كمتلقٍ أساسي للمعلومات: فنرى متعلمًا يحفظ غيبًا كل كلمة بالتكرار على صوت عال أو آخر يكتفي بالقراءة الشاملة البصرية، هناك من يحتاج إلى عرض مفصل للمعلومات أولا، وآخر يحتاج إلى عرض للخطوط العريضة والأهداف، وآخر يود إدراك المنفعة العملية لهكذا محتوى قبل استيعابه. كما أن هناك فروقات اجتماعية وسلوكية وأخلاقية تجعل أيضا التفاوت ظاهرا. أما الفروقات الأكثر وضوحاً مثل الاضطرابات التعلمية (ديسلكسيا، ديسكلكوليا، ما يسمى تعسفًا إفراطًا بالحركة) أو الإعاقات الذهنية أو الحركية أو الحواسية، فان دخولها الى عالم المدرسة المحافظ لا يزال خجولًا مترددا. في كل هذه الحالات يتأثر التحصيل التعلمي الفردي والجماعي.

كيف تؤثر الفروقات الفردية على المدرسة؟

تشكل هذه الفروقات، مع بساطتها وشيوعها او تعقيداتها وندرتها، ارتباكا لدى المعلم الذي يهتم بإيصال المعرفة والمهارات لكل تلميذ، فهو يعتبر انه مسؤول عن كل فرد كما هو مسؤول عن المجموعة، لكنه غالبًا ما يفتقر إلى الحلول المناسبة أمام إشكالية كهذه. وفي الحالات المعقدة، يصار إلى إعادة النظر بمكان التلميذ أو يلجأ الجهاز الإداري والتعليمي إلى الرفض والاستبعاد بحجة وجود أماكن تربوية أخرى أكثر ملاءمة مع الوضع.

اذًا، تطرح إشكالية الفروقات الفردية معضلة للمربين كونها تتحداهم على أكثر من مستوى وتلزمهم بإعادة النظر في جوهر مواقفهم وسلوكياتهم المهنية. ذلك أن النهج الفروقات الفردية ليست عائقاً امام تحقيق حقوق الطفل - ملصق لمسرحية تربويةالتربوي الذي يأخذ بعين الاعتبار الفروقات الفردية، هدفه الأول والأساسي هو التوصل إلى الاستقلالية الذهنية والعاطفية والاجتماعية عند المتعلم والتخلي عن كل أشكال التبعية.

هذا التوجه يجعل من المتعلم شريكًا أساسيًا وفعالًا في مسار التعلم يتساوى مع المعلم في البحث عن المعرفة. ومن ناحية عملية، تكون إدارة الصف إدارة ديمقراطية، يساهم في نجاح ديناميكيتها المعلم والمتعلم. ضمن هذا الإطار تركز وسائل التدريس والإيضاح على قدرات الاكتشاف والبحث وبناء المهارات والمعارف وتقييم الذات. فيتمكن المتعلم من برمجة أسبوعه أو يومه المدرسي وتوزيع المواد على الحصص والعمل افراديًا على حل المسائل التي تكون قد جهزت ضمن وسائل التدريس. هذا لا يعني غياب دور المعلم بل بالعكس فهو الذي يدير الصف، يحضر الوسائل والتمارين، يواكب المتعلم على درب استقلاليته الذهنية، يحرص على تنظيم فترات العمل الجماعي التي من ضمنها تُشرح المفاهيم أو يقوّم الصف حصيلة ما تعلمه أفراده ثم تقيّم المرحلة الراهنة ثم يتم استنتاج الخطوات القادمة الأكاديمية والسلوكية. 

أما التقييم فتصبح النظرة إليه نظرة إيجابية توازي بين التقييم الكمي للمكاسب والتقييم التكويني للمتعلم، ويأتي نتيجة تفكير عميق ومقارنة بين مستوى الأعمال السابقة أو طبيعة السلوك حيث يقوم فيها المتعلم بمرافقة المعلم فتستعيد النتيجة الكمية مكانتها التربوية الأصلية ويتبنى المتعلم مسؤولية تطوره.

إن هكذا نهجاً قد يسمح للمدرسة بان تلعب دورها الاجتماعي الكامل، أي أن تؤهل كل طفل للإنتاج في المجتمع بحسب طاقاته وميوله، أن تربي الأجيال على قبول الآخر وعلى التعاضد المجتمعي. أما التحصيل التعلمي بالتحديد، أي النتائج الرقمية التي يحصل عليها المتعلم في المواد فهي أفضل مما تكون عليه في الأساليب التقليدية التلقينية ذلك أن المتعلم هو صانع تحصيله ومسؤول عن مستواه. 

يعيدنا هذا الكلام إلى مراجعة قراءة الأهداف العامة للبرامج الجديدة وملاحظة أن ما نعرضه هو ضمن صلب الأهداف التي توافق عليها كل الجهاز التربوي في لبنان. أما التطبيق العملي، وهنا تكمن المشكلة، فهو يقتصر الآن على قلة قليلة من المدارس. فالعقبات تبدأ من عدم توفر الوسائل فإلى كثرة التلاميذ في الصف الواحد حيث يتجاوز عددهم الخمسة والثلاثين أحيانًا. لكن الحاجز الأقوى يبقى المعلم نفسه، تكوينه وجهوزيته.

فالمطلوب في التربية والتعليم اذاً هو إدارة الفروقات الفردية بشكل مثمر، ما يتطلب تغييرًا جوهريًا في نظرة المعلم لذاته المهنية، تغييرًا لمعتقداته، فتعديلًا لطرائق تدريسه المادة. ونسمي بإيجاز مقومات الهوية الجديدة للمعلم:

  •  ثقافة عامة واسعة وشاملة تشوق المتعلم، فتضاهي بغناها الوسائل الأخرى لتقصي المعلومات.
  •  امتلاك المادة وطرائق تعليمها.
  •  نظرة شاملة لتطور الطفل والشاب.
  •  مرونة في العلاقة التربوية تتناسب ومبدأ المواكبة.
  •  القدرة على تقييم الذات والتعديل المستمر للمواقف والمحتويات.
  •  القدرة على الابتكار. 

 

الفروقات الفردية وتأثيرها على التحصيل التعلمي

د. ليلى عاقوري ديراني علم نفس عيادي- علاج نفسيإن الكلام حول الفروقات الفردية في التعلم كلام قديم جديد. فمع بدايات القرن العشرين برزت في أوروبا عملية تعميم التعليم على جميع الفئات الاجتماعية. تغير واقع المدرسة من ناحية اقبال الناس عليها بهدف التعلم فأصبحت الصفوف تحتوي على حوالى ثلاثين تلميذا مختلفي المهارات والقدرات والسلوكيات.

بدأت الفروقات الفردية تؤثر على أداء المعلم وتتطلب منه تغييرًا جوهريًا في طرائق التعليم وراحت هذه الفروقات الطبيعية تشكل عائقًا لمسار التعلم. ولما كانت هذه الفروقات أكثر وضوحًا راح التربويون وعلماء النفس يتكلمون عن إعاقات تعلمية وعن بطء في التعلم حتى الكلام عن التخلف العقلي.  

من ناحية أخرى، وبدافع أكيد من هذا الواقع الجديد، بدا القرن العشرون وكأنه قرن الطفل. تكثفت الأبحاث العلمية ونشأت اختصاصات جديدة وازدهرت العلوم التربوية والنفسية. كما أن الأمم المتحدة بذلت ما بذلته من جهود لمكافحة الجهل والتخلف فعممت أيديولوجية إلزامية التعليم وحق الطفل بالتعلم.

ومع التطور الاقتصادي والتقني أصبحت مطالب سوق العمل أكثر دقة وباتت المنافسة الشرسة هي القاعدة الثابتة في التداول الاقتصادي ما انعكس على أهداف المؤسسات التعليمية التي تتوق لتأمين النخبة لسوق العمل كون المدرسة اليوم هي المعبر الوحيد إلى سوق العمل والى الانخراط الإيجابي في المجتمع.. أمام كل هذه التغيرات والتحديات كيف تتعامل المدرسة مع الفروقات الفردية وهل تؤثر هذه الفروقات على التحصيل التعلمي؟

لنحدد أولًا ما نعنيه بالفروقات الفردية، ومن ثم نحدد العلاقة بينها وبين التحصيل التعلمي، ثم نتوقف في مرحلة ثانية على تأثير الفروقات الفردية على المدرسة وعلى نهج التعليم.

ماذا نعني بالفروقات الفردية؟

الفروقات الفردية حتمية، ناتجة عن قواعد الحياة البيولوجية والعلائقية والاجتماعية. هناك فروقات في أنماط التطور الذهني والعاطفي والاجتماعي تتفاوت بين شخص وآخر فتجعل المتعلمين يكتسبون المعارف والمهارات بسرعات مختلفة، كما يختلف نمط النمو ضمن الشخصية الواحدة، فيظهر مثلا نضج عاطفي مبكر بالمقارنة مع النضج الذهني أو الجسدي، مما ينتج عنه تأرجح في النتاج التعلمي.

هناك أيضا فروقات بما يخص الوظائف الادراكية وتنسيق عملها كمتلقٍ أساسي للمعلومات: فنرى متعلمًا يحفظ غيبًا كل كلمة بالتكرار على صوت عال أو آخر يكتفي بالقراءة الشاملة البصرية، هناك من يحتاج إلى عرض مفصل للمعلومات أولا، وآخر يحتاج إلى عرض للخطوط العريضة والأهداف، وآخر يود إدراك المنفعة العملية لهكذا محتوى قبل استيعابه. كما أن هناك فروقات اجتماعية وسلوكية وأخلاقية تجعل أيضا التفاوت ظاهرا. أما الفروقات الأكثر وضوحاً مثل الاضطرابات التعلمية (ديسلكسيا، ديسكلكوليا، ما يسمى تعسفًا إفراطًا بالحركة) أو الإعاقات الذهنية أو الحركية أو الحواسية، فان دخولها الى عالم المدرسة المحافظ لا يزال خجولًا مترددا. في كل هذه الحالات يتأثر التحصيل التعلمي الفردي والجماعي.

كيف تؤثر الفروقات الفردية على المدرسة؟

تشكل هذه الفروقات، مع بساطتها وشيوعها او تعقيداتها وندرتها، ارتباكا لدى المعلم الذي يهتم بإيصال المعرفة والمهارات لكل تلميذ، فهو يعتبر انه مسؤول عن كل فرد كما هو مسؤول عن المجموعة، لكنه غالبًا ما يفتقر إلى الحلول المناسبة أمام إشكالية كهذه. وفي الحالات المعقدة، يصار إلى إعادة النظر بمكان التلميذ أو يلجأ الجهاز الإداري والتعليمي إلى الرفض والاستبعاد بحجة وجود أماكن تربوية أخرى أكثر ملاءمة مع الوضع.

اذًا، تطرح إشكالية الفروقات الفردية معضلة للمربين كونها تتحداهم على أكثر من مستوى وتلزمهم بإعادة النظر في جوهر مواقفهم وسلوكياتهم المهنية. ذلك أن النهج الفروقات الفردية ليست عائقاً امام تحقيق حقوق الطفل - ملصق لمسرحية تربويةالتربوي الذي يأخذ بعين الاعتبار الفروقات الفردية، هدفه الأول والأساسي هو التوصل إلى الاستقلالية الذهنية والعاطفية والاجتماعية عند المتعلم والتخلي عن كل أشكال التبعية.

هذا التوجه يجعل من المتعلم شريكًا أساسيًا وفعالًا في مسار التعلم يتساوى مع المعلم في البحث عن المعرفة. ومن ناحية عملية، تكون إدارة الصف إدارة ديمقراطية، يساهم في نجاح ديناميكيتها المعلم والمتعلم. ضمن هذا الإطار تركز وسائل التدريس والإيضاح على قدرات الاكتشاف والبحث وبناء المهارات والمعارف وتقييم الذات. فيتمكن المتعلم من برمجة أسبوعه أو يومه المدرسي وتوزيع المواد على الحصص والعمل افراديًا على حل المسائل التي تكون قد جهزت ضمن وسائل التدريس. هذا لا يعني غياب دور المعلم بل بالعكس فهو الذي يدير الصف، يحضر الوسائل والتمارين، يواكب المتعلم على درب استقلاليته الذهنية، يحرص على تنظيم فترات العمل الجماعي التي من ضمنها تُشرح المفاهيم أو يقوّم الصف حصيلة ما تعلمه أفراده ثم تقيّم المرحلة الراهنة ثم يتم استنتاج الخطوات القادمة الأكاديمية والسلوكية. 

أما التقييم فتصبح النظرة إليه نظرة إيجابية توازي بين التقييم الكمي للمكاسب والتقييم التكويني للمتعلم، ويأتي نتيجة تفكير عميق ومقارنة بين مستوى الأعمال السابقة أو طبيعة السلوك حيث يقوم فيها المتعلم بمرافقة المعلم فتستعيد النتيجة الكمية مكانتها التربوية الأصلية ويتبنى المتعلم مسؤولية تطوره.

إن هكذا نهجاً قد يسمح للمدرسة بان تلعب دورها الاجتماعي الكامل، أي أن تؤهل كل طفل للإنتاج في المجتمع بحسب طاقاته وميوله، أن تربي الأجيال على قبول الآخر وعلى التعاضد المجتمعي. أما التحصيل التعلمي بالتحديد، أي النتائج الرقمية التي يحصل عليها المتعلم في المواد فهي أفضل مما تكون عليه في الأساليب التقليدية التلقينية ذلك أن المتعلم هو صانع تحصيله ومسؤول عن مستواه. 

يعيدنا هذا الكلام إلى مراجعة قراءة الأهداف العامة للبرامج الجديدة وملاحظة أن ما نعرضه هو ضمن صلب الأهداف التي توافق عليها كل الجهاز التربوي في لبنان. أما التطبيق العملي، وهنا تكمن المشكلة، فهو يقتصر الآن على قلة قليلة من المدارس. فالعقبات تبدأ من عدم توفر الوسائل فإلى كثرة التلاميذ في الصف الواحد حيث يتجاوز عددهم الخمسة والثلاثين أحيانًا. لكن الحاجز الأقوى يبقى المعلم نفسه، تكوينه وجهوزيته.

فالمطلوب في التربية والتعليم اذاً هو إدارة الفروقات الفردية بشكل مثمر، ما يتطلب تغييرًا جوهريًا في نظرة المعلم لذاته المهنية، تغييرًا لمعتقداته، فتعديلًا لطرائق تدريسه المادة. ونسمي بإيجاز مقومات الهوية الجديدة للمعلم:

  •  ثقافة عامة واسعة وشاملة تشوق المتعلم، فتضاهي بغناها الوسائل الأخرى لتقصي المعلومات.
  •  امتلاك المادة وطرائق تعليمها.
  •  نظرة شاملة لتطور الطفل والشاب.
  •  مرونة في العلاقة التربوية تتناسب ومبدأ المواكبة.
  •  القدرة على تقييم الذات والتعديل المستمر للمواقف والمحتويات.
  •  القدرة على الابتكار. 

 

الفروقات الفردية وتأثيرها على التحصيل التعلمي

د. ليلى عاقوري ديراني علم نفس عيادي- علاج نفسيإن الكلام حول الفروقات الفردية في التعلم كلام قديم جديد. فمع بدايات القرن العشرين برزت في أوروبا عملية تعميم التعليم على جميع الفئات الاجتماعية. تغير واقع المدرسة من ناحية اقبال الناس عليها بهدف التعلم فأصبحت الصفوف تحتوي على حوالى ثلاثين تلميذا مختلفي المهارات والقدرات والسلوكيات.

بدأت الفروقات الفردية تؤثر على أداء المعلم وتتطلب منه تغييرًا جوهريًا في طرائق التعليم وراحت هذه الفروقات الطبيعية تشكل عائقًا لمسار التعلم. ولما كانت هذه الفروقات أكثر وضوحًا راح التربويون وعلماء النفس يتكلمون عن إعاقات تعلمية وعن بطء في التعلم حتى الكلام عن التخلف العقلي.  

من ناحية أخرى، وبدافع أكيد من هذا الواقع الجديد، بدا القرن العشرون وكأنه قرن الطفل. تكثفت الأبحاث العلمية ونشأت اختصاصات جديدة وازدهرت العلوم التربوية والنفسية. كما أن الأمم المتحدة بذلت ما بذلته من جهود لمكافحة الجهل والتخلف فعممت أيديولوجية إلزامية التعليم وحق الطفل بالتعلم.

ومع التطور الاقتصادي والتقني أصبحت مطالب سوق العمل أكثر دقة وباتت المنافسة الشرسة هي القاعدة الثابتة في التداول الاقتصادي ما انعكس على أهداف المؤسسات التعليمية التي تتوق لتأمين النخبة لسوق العمل كون المدرسة اليوم هي المعبر الوحيد إلى سوق العمل والى الانخراط الإيجابي في المجتمع.. أمام كل هذه التغيرات والتحديات كيف تتعامل المدرسة مع الفروقات الفردية وهل تؤثر هذه الفروقات على التحصيل التعلمي؟

لنحدد أولًا ما نعنيه بالفروقات الفردية، ومن ثم نحدد العلاقة بينها وبين التحصيل التعلمي، ثم نتوقف في مرحلة ثانية على تأثير الفروقات الفردية على المدرسة وعلى نهج التعليم.

ماذا نعني بالفروقات الفردية؟

الفروقات الفردية حتمية، ناتجة عن قواعد الحياة البيولوجية والعلائقية والاجتماعية. هناك فروقات في أنماط التطور الذهني والعاطفي والاجتماعي تتفاوت بين شخص وآخر فتجعل المتعلمين يكتسبون المعارف والمهارات بسرعات مختلفة، كما يختلف نمط النمو ضمن الشخصية الواحدة، فيظهر مثلا نضج عاطفي مبكر بالمقارنة مع النضج الذهني أو الجسدي، مما ينتج عنه تأرجح في النتاج التعلمي.

هناك أيضا فروقات بما يخص الوظائف الادراكية وتنسيق عملها كمتلقٍ أساسي للمعلومات: فنرى متعلمًا يحفظ غيبًا كل كلمة بالتكرار على صوت عال أو آخر يكتفي بالقراءة الشاملة البصرية، هناك من يحتاج إلى عرض مفصل للمعلومات أولا، وآخر يحتاج إلى عرض للخطوط العريضة والأهداف، وآخر يود إدراك المنفعة العملية لهكذا محتوى قبل استيعابه. كما أن هناك فروقات اجتماعية وسلوكية وأخلاقية تجعل أيضا التفاوت ظاهرا. أما الفروقات الأكثر وضوحاً مثل الاضطرابات التعلمية (ديسلكسيا، ديسكلكوليا، ما يسمى تعسفًا إفراطًا بالحركة) أو الإعاقات الذهنية أو الحركية أو الحواسية، فان دخولها الى عالم المدرسة المحافظ لا يزال خجولًا مترددا. في كل هذه الحالات يتأثر التحصيل التعلمي الفردي والجماعي.

كيف تؤثر الفروقات الفردية على المدرسة؟

تشكل هذه الفروقات، مع بساطتها وشيوعها او تعقيداتها وندرتها، ارتباكا لدى المعلم الذي يهتم بإيصال المعرفة والمهارات لكل تلميذ، فهو يعتبر انه مسؤول عن كل فرد كما هو مسؤول عن المجموعة، لكنه غالبًا ما يفتقر إلى الحلول المناسبة أمام إشكالية كهذه. وفي الحالات المعقدة، يصار إلى إعادة النظر بمكان التلميذ أو يلجأ الجهاز الإداري والتعليمي إلى الرفض والاستبعاد بحجة وجود أماكن تربوية أخرى أكثر ملاءمة مع الوضع.

اذًا، تطرح إشكالية الفروقات الفردية معضلة للمربين كونها تتحداهم على أكثر من مستوى وتلزمهم بإعادة النظر في جوهر مواقفهم وسلوكياتهم المهنية. ذلك أن النهج الفروقات الفردية ليست عائقاً امام تحقيق حقوق الطفل - ملصق لمسرحية تربويةالتربوي الذي يأخذ بعين الاعتبار الفروقات الفردية، هدفه الأول والأساسي هو التوصل إلى الاستقلالية الذهنية والعاطفية والاجتماعية عند المتعلم والتخلي عن كل أشكال التبعية.

هذا التوجه يجعل من المتعلم شريكًا أساسيًا وفعالًا في مسار التعلم يتساوى مع المعلم في البحث عن المعرفة. ومن ناحية عملية، تكون إدارة الصف إدارة ديمقراطية، يساهم في نجاح ديناميكيتها المعلم والمتعلم. ضمن هذا الإطار تركز وسائل التدريس والإيضاح على قدرات الاكتشاف والبحث وبناء المهارات والمعارف وتقييم الذات. فيتمكن المتعلم من برمجة أسبوعه أو يومه المدرسي وتوزيع المواد على الحصص والعمل افراديًا على حل المسائل التي تكون قد جهزت ضمن وسائل التدريس. هذا لا يعني غياب دور المعلم بل بالعكس فهو الذي يدير الصف، يحضر الوسائل والتمارين، يواكب المتعلم على درب استقلاليته الذهنية، يحرص على تنظيم فترات العمل الجماعي التي من ضمنها تُشرح المفاهيم أو يقوّم الصف حصيلة ما تعلمه أفراده ثم تقيّم المرحلة الراهنة ثم يتم استنتاج الخطوات القادمة الأكاديمية والسلوكية. 

أما التقييم فتصبح النظرة إليه نظرة إيجابية توازي بين التقييم الكمي للمكاسب والتقييم التكويني للمتعلم، ويأتي نتيجة تفكير عميق ومقارنة بين مستوى الأعمال السابقة أو طبيعة السلوك حيث يقوم فيها المتعلم بمرافقة المعلم فتستعيد النتيجة الكمية مكانتها التربوية الأصلية ويتبنى المتعلم مسؤولية تطوره.

إن هكذا نهجاً قد يسمح للمدرسة بان تلعب دورها الاجتماعي الكامل، أي أن تؤهل كل طفل للإنتاج في المجتمع بحسب طاقاته وميوله، أن تربي الأجيال على قبول الآخر وعلى التعاضد المجتمعي. أما التحصيل التعلمي بالتحديد، أي النتائج الرقمية التي يحصل عليها المتعلم في المواد فهي أفضل مما تكون عليه في الأساليب التقليدية التلقينية ذلك أن المتعلم هو صانع تحصيله ومسؤول عن مستواه. 

يعيدنا هذا الكلام إلى مراجعة قراءة الأهداف العامة للبرامج الجديدة وملاحظة أن ما نعرضه هو ضمن صلب الأهداف التي توافق عليها كل الجهاز التربوي في لبنان. أما التطبيق العملي، وهنا تكمن المشكلة، فهو يقتصر الآن على قلة قليلة من المدارس. فالعقبات تبدأ من عدم توفر الوسائل فإلى كثرة التلاميذ في الصف الواحد حيث يتجاوز عددهم الخمسة والثلاثين أحيانًا. لكن الحاجز الأقوى يبقى المعلم نفسه، تكوينه وجهوزيته.

فالمطلوب في التربية والتعليم اذاً هو إدارة الفروقات الفردية بشكل مثمر، ما يتطلب تغييرًا جوهريًا في نظرة المعلم لذاته المهنية، تغييرًا لمعتقداته، فتعديلًا لطرائق تدريسه المادة. ونسمي بإيجاز مقومات الهوية الجديدة للمعلم:

  •  ثقافة عامة واسعة وشاملة تشوق المتعلم، فتضاهي بغناها الوسائل الأخرى لتقصي المعلومات.
  •  امتلاك المادة وطرائق تعليمها.
  •  نظرة شاملة لتطور الطفل والشاب.
  •  مرونة في العلاقة التربوية تتناسب ومبدأ المواكبة.
  •  القدرة على تقييم الذات والتعديل المستمر للمواقف والمحتويات.
  •  القدرة على الابتكار.